الفصل الخامس والعشرون
ومهما يكن من أمرٍ فقد كانت الإمبراطورية البريطانية وتقاليدُها وراءَ اللورد كرومر، ويمتاز اللورد كرومر في البرلمان وفي الإدارة الاستعمارية، ويَغْدُو سكرتيرًا خاصًّا لنائب المَلِك في الهند عن قرابةٍ، فتدلُّ مواهبُه عليه في أثناء الثورة المصرية، ويُوَظَّفُ في لجنة الدَّيْنِ المصريِّ لوقتٍ قصير ويعيَّن في وزارة الحربية وينتقل صاحبَ مَنْصِبٍ من البرلمان إلى جَمَايكا فإلى الولايات المتحدة، ويقضي حياةَ موظفٍ في الإمبراطورية البريطانية، ويُدْعَى إلى مصرَ بُعَيْدَ احتلال القاهرة ويُعْهَد إليه في القيام بعملٍ صعبٍ، يُعْهَد إليه في تمدين بلدٍ أجنبيٍّ من غير أن يسيطر عليه، وذلك بما فيه نفع وطنه ونفع ذلك البلد معًا، ويقوم بشئون هذا المنصب في أربعٍ وعشرين سنةً ممارسًا سلطةً كانت تزداد يومًا بعد يوم، فلما انقضت بضعةُ أعوامٍ أصبح فرعونَ مصر السريَّ فعلًا.
وإذا نظرت إلى معاصريه لم تَرَ غير كُرزُن وسِيسِيل رُودُس مَنْ نال مثلَ ذلك النجاح الذي تَجِده مَدِينًا به لثلاث صفات صار بها فوق أمهر رجال الأعمال، وهي: الروحُ العملية والنزاهةُ والعَطَل من الزَّهْو. ومن ذلك أنه لما بلغ الثالثة والخمسين من سِنِيه رَفَضَ أعظمَ مقامٍ كريم في الإمبراطورية البريطانية، رَفَضَ مَنْصِب نائبِ الملك في الهند، مقدِّرًا أن عملَه في وادي النيل أعمُّ نفعًا، وأن مسائل الريِّ «أمتعُ من رواية».
أليس من الفوز أن تُرَدَّ كرامةُ الإنسان إلى العبد الذي يَئِنُّ محطَّمًا تحت نِير الطُّغاة من المهد إلى اللحد؟ أليس من الفوز، أليس من العمل الصالح، أن يُوضَعَ حَدٌّ لظلم الباشا، وأن يُتْرَكَ ما هو قبضتُه لامرأة الفلاح وابنها الهَلُوع؟
ويتجلَّى إخلاصُ اللورد كرومر، وعنادُه ورَشَدُه وثباتُ فؤادِه وعزمُه على تحقيق ما يقرِّره، في زواجه بامرأة كان عاشقًا لها في الحادية والعشرين من عمره فنالها في الخامسة والثلاثين من سِنِيه، وتمضي عشرون سنةً فيَنزِعها القَدَرُ منه، ويغادر سَرِيرَ موتها إلى مكتبه، ويُدَبِّج يَرَاعُه برقيةً مطولة إلى لندن حَوْلَ مناور البحر الأحمر.
وما صَنَعه وأداره، وينطوي على أعظم تحولٍ عانته مصرُ في ألف سنة، تَمَّ على عين فرنسة التي كانت تأكلُها الغَيْرَة، وعلى الرغم من اعتراض الدائنين والصَّيَارفة الأوروبيين الدائم؛ وذلك لأن فلاح الدِّلتا — لا صاحبَ الأسهم الباريسيَّ — هو الذي كان محلَّ عنايته، ومن سياسته وجوبُ تقوية سلطان بريطانية العظمى على أن يلائم ذلك المصريين، لا أن يكون ضارًّا بهم، وقد وجب عليه — مع ذلك — أن يجادِل ستَّ — أو سبعَ — وزاراتٍ متعاقبةً كانت تَرْسُمُ له خططًا متناقضة.
حقًّا إن القَدَرَ الذي يسوقني جائرٌ، وإني على ما يساورني من مقتٍ لكلِّ تَوَسُّعٍ ولقبول مسئولياتٍ جديدة، وإني على ما ليس عندي من غُلُوٍّ وطنيٍّ، أراني مضطرًّا إلى اقتراحِ تدابيرَ تَدُلُّ على تطرفٍ قوميٍّ أولَ وَهْلَةٍ على الأقل … وأَجِدُ في هذه البيئة العاطلة من كلِّ انسجام سياسيٍّ ما يحملني دَوْمًا على أن أفعل وأقول خلاف ما أودُّ.
وإذا ما فُكِّرَ في ذلك النضال الباطنيِّ وفي كلِّ ما عليه أن يأتِيَه من كفاح خارجيٍّ رُئِي أن كرومر رجلٌ يَعْرِف أن يَشُقَّ بساعديْه القويين طريقًا في الغابة البِكْر، وذلك مع حَذَر من أن يلدَغَه ثعبانٌ في عَقِبه؛ وذلك لأن ما وَجَدَه اللورد كرومر كان في بدء الأمر أقوى من الذي أتى به.
وَوَجَدَ نفسه أمام سلطاتٍ مصرية وتركية وأوروبية متطاحنة مع مقاومتها إياه، وكان من الترك وزراء قَوَّموا فَقَارَهم مذ أنزل البريطان جنودَهم، فلما اشتدَّ ساعِدُهم زاد حقدهم، وكان من الباشوات مَنْ يُؤَدُّون — كأمراء الروس — نفقاتِ زينةِ خليلاتهم بباريسَ نتيجة لاستغلال فلَّاحيهم، ومن العلماء مَنْ كان عيشُهم يقوم على اختلاس رَيْع الأوقاف الخيرية، وكان الجميع — ومنه الخديو — يخاف أن يَسْتنزف القادمُ الجديد مَعِين دخلهم، وما كان أولئك كلُّهم ليشعُرُوا في بدءِ الأمر بالواجب الاجتماعيِّ الذي يُسَيِّرهم، وإنما كانوا يُبْصِرون — فقط — خروجَ الذهب من جُيُوب المصريين وتَسَرُّبَه في جيوب الإنكليز، وإنما بلغوا الغايةَ من الغَيْظِ حينما وَجَدَ الفلاحون مَنْ يَحمِيهم من مظالمهم.
ولم يكن سكان المدن مثقفين، ولكن مع عدم الجهل المطبق، ولم يَجِد اللورد كرُومَر هَمَجًا في الأرياف، بل وَجَدَ أبجدياتٍ، وكان عليه أن يُدْرِك أمرَ ذلك العالَم، من غير أن يُرِيَ أنه يَعْلَم حالَه، وكان الأكثرُ ذكاءً يقولون مُرُوا بما يَجِبُ أن يُعْمَل، ولكن لا تَنْظُروا إلى الأسلوب الذي يُعمَل به، وفي الأساس كان المصريون يشابهون أصحابَ الفنادق الذين لا يريدون سوى اجتناء المرابح من زُبُنهم، ثم أخذوا يَرَوْنَ بالتدريج أنهم ضيوف في بلدهم الخاصِّ فيجب عليهم أن يَدْفعوا مقابلَ ما يأتيهم به الأجنبي من أَمْنٍ وراحة.
وينظر اللورد كرومر في أمر الفلاح كثيرًا، ويُغيِّر الباشا — الذي يعتصر الفلاحَ منذ زمن طويل — مظهرَه، ويعود المرابون من السوريين واليونان الذين تَوَارَوْا بعد ثورة عرابي في سبيل تحرير أخيه الفلاح، وذلك لعدم قدرة الإنكليزيِّ على إلغاء إقراض الفلاح قَرْضًا قانونيًّا، ويسأل مثيرو الفِتَن عن السبب في دفعهم نفقاتِ تجديدِ شوارع الإسكندرية التي خَرَّبَها الإنكليز القادمون لاغتصاب الحرية.
وتُيَسِّر بِدَعٌ ثلاث جوهريةٌ عيشَ الفلاح، فيُلغَى السَّوْط، ويزول كلٌّ وَجَلٍ ينشأ عن وصول الجابي بغتةً؛ أي يُعْرَف مقدمًا متى يجب أن تُدْفَعَ الضريبةُ وماذا يجب أن يُدْفَع منها؛ أي يُعْرَف ما كان يُجْهَل على الدوام، وكان على الفلَّاح في الماضي أن يؤديَ ضرائبَ عن حَقْلٍ أتلفه الفيضان منذ زمنٍ طويل، فصار يُعْفَى من ذلك إذا ما أثبت أن قسمًا من حقله أُصيب بالفيضان، وإذا ما حَبَسَ الماءَ مزارعو الباشا ووجَّهُوه إلى أراضيه وحدَها أمكن القريةَ أن تَرْفَع شكواها إلى الإنكليزي، لِمَا لا يَحِقُّ للغنيِّ أن يَحْرِم الفقيرَ ماءَه، وكان الفلاحون في شبابهم يُسَخِّرون بالسياط للعمل الشاقِّ في القَنَوات فيَقْضُون نهارهم في الوَحَل ويَقْصُون لياليَهم في الكِيس، فصاروا اليوم يأخذون أجورًا، وهم لا يُحْمَلُون على مَدِّ يَدِ العَوْنِ إلا عند خراب الأسداد، والحقُّ أن اللورد كرومر وُفِّقَ لإلغاء جيش العبيد إلغاءً تامًّا تقريبًا.
ومن المحتمل أن كان اللورد كرومر يَجْهَل عدم إطاعة أوامره بمصرَ العليا، وإعادةَ المديرين لسابق سلطانهم في بعض الأماكن هنا وهنالك، وكان الفلاح من ناحيته يَجْهَل جهادَ اللورد القديرِ في سبيل تَنَفُّسِ الفلاح في الدِّلتا. ولمَّا أراد أن يستبدل المجارفَ بالسُّخْرَة رَفَضَتْ لجنة الديون إجازةَ مبلغِ اﻟ ٥٠٠٠٠٠ جنيه الضروريِّ لذلك، ولَمَّا ظَهَرَ ما ينطوي عليه هذا الرفضُ من فضيحةٍ لم توافق الدولُ على إلغاء ذلك الرِّقِّ إلا إذا أُعْفِيَ الأجانب مُجَدَّدًا من الضرائب بمصر!
ولم يَعْلَم الفلاح وجودَ سادةٍ قليلين من الأجانب في القاهرة جالسين حَوْلَ مائدةٍ خضراءَ كبيرةٍ كان يَحِقُّ لهم وحدَهم أن يَحُولُوا دون إنشاء أسدادٍ جديدة وأن يرفضوا حَفْرَ قناةٍ واحدة، وأن هؤلاء السادةَ هم يمثِّلون قدماءَ الدائنين ويُدِيرُون شئونَ المالية، وهؤلاء مع عشرة آخرين في القاهرة هم الذين كانوا يدركون حقيقةَ هذا الأمر كما صَرَّحَ مِلْنر. ولم يَزَلْ طَيْفُ الخديو المِتْلَافِ وخيالُ خيمتِه الحريريةِ أمام الأهرام ماثليْن حتى القرنِ العشرين فيمكِّنان الأجنبيَّ من ابتزاز أموال البلاد، وما فَتِئَ السلطان يأخذُ نحوَ مليونِ جنيهٍ جزيةً لفتح أجداده مصرَ منذ أربعة قرون من دون أن يصنعوا شيئًا في سبيلها، ولم يَجِد الإنكليزُ حلًّا غيرَ حِرْمَان الفلاحِ غَلْيُونَه لوجوب فرض ضريبةٍ على التَّبْغ جَمْعًا لمال تلك الجزية. وتحلُّ سنة ١٩١٠، فتباع بالمزايدة العلنية — حتى في هذه السنة — أطيانٌ وبيوتٌ لأربعمائة ألف فلاح دَفْعًا لديون لا تَزِيد قيمةُ الواحد منها على خمسين جنيهًا.
ويقع حادثٌ عظيم في حياة الفلاح في سنة ١٩١١، وذلك أن اللورد كتشنر — الذي حلَّ محلَّ اللورد كرومر وَفْقَ رغبة اللورد كرومر — نَشَرَ قانونًا يحرِّم حجزَ بيتِ الفلاح وآلاتِ عمله واثنتين من بقراتِه الحَلُوب وخمسةِ أفدنةٍ من أراضيه كما هو الأمر في فرنسة وفي البَنْجَاب، وإذ إن الفلاحين شاكرون بطبيعتهم فإنهم لم يَنْسَوْا مَنْ أحسن إليهم، فكانوا — بعد زمن — يَنْهَضُون ويَضَعُون أيديَهم على جِباههم إذا ما ذُكِرَ اسمُ اللورد كتشنر.
ومن الإنصاف أن يُعتَرَف بأن كثيرًا من الإصلاحات كان متعذِّرًا، وكان اللورد كرومر مُضْطَرًّا إلى احترام النُّطُق الموجودة، فإذا وُضِعَ نظامٌ جديد للريِّ تُرِكَ النظام القديم يسير على محوره، وإذا جُدِّدَ جدولٌ صُنِعَ ذلك قبل سَدِّ الجدول القديم، وإن شِئْتَ فقُلْ كان من الواجب أن يُعْمَل وفْق القلب الذي لا يزال يَدُقُّ.
وكانت التقاليدُ تناصبه العداوةَ أيضًا، ومن ذلك أن كان الفلاحُ يرى استثناءَ الأغنياء من الخِدْمة العسكرية في مقابل أربعين جنيهًا قبلَ رَمْيِ القُرْعَة وفي مقابل مائة جنيه بعد رَمْيِها، مع أنه كان يجب على الفلاح أن يصير أعورَ بِنتراتِ الفِضة حتى يُعلَنَ عدمُ صلاحه لها.
وكان يُبْصِر ما عليه ضباط الإنكليز في أثناء الهَيْضَة من الشجاعة وروح التضحية، ويُعَدُّ ما أبداه الأطباءُ ورجال الصحة البريطانيون بمصرَ في أثناء ذلك الوَباء من أعظم الأعمال الإنسانية، فلولا هؤلاء الذين خَفَّفُوا بذلك وطأةَ اثنتين من الخطايا لدِينَتْ إنكلترة أدبيًّا.
وأولى تَيْنك الخطيئتيْن هي المحافظة على الامتيازات الأجنبية، وكانت هذه الامتيازات تَجْرَح شعورَ مصرَ القوميَّ أكثر مما يَجْرَحه وجود الكتائب الأجنبية. ومما يَزِيدُ الحقدَ على الأجنبيِّ بحكم الضرورة عدمُ حقِّ الشرطيِّ في القبض على لصٍّ أجنبيٍّ أو قوَّادٍ أجنبيٍّ أو تاجرِ أفيونٍ أجنبيٍّ؛ لأنه ليس مصريًّا.
والخطيئةُ الثانية هي التي اقترفها اللورد كرومر في أمر المدارس، فمما يُسأَل: لماذا لم يُهدِّدْ هذا الرجلُ البالغ القوة باعتزال الخدمة عندما أَبَتْ عليه لَجنة الديون فتحَ اعتمادٍ ماليٍّ ضروريٍّ لإنشاءِ مدارسَ جديدةٍ؟ هو ليس من طُغَاة هذا الزمن الجُهَلَاء المعاصرين الذين يَروْنَ الأسلحةَ أهمَّ من الكتب، وذلك لمعرفتهم الأولى وجهلِهم الثانية. ومسألةُ المدارس هذه هي أصلُ كلِّ صِدَام بين الإنكليز والمصريين في الوقت الحاضر، ويَرَى المصريون أنهم أُصِيبوا بضررٍ عظيم من النظام التعليميِّ الذي طُبِّق عليهم أربعين عامًا، ولا يُفَسَّر ذلك الخطأ إلا برغبة السياسة الإنكليزية السِّرِّية في العناية بصحة الشعب المصري والسيطرة عليه بالعدل مع إبقائه جاهلًا، ولا تَجِدُ لمعارضة المصريين سببًا آخرَ غيرَ حرصِهم على تعليم أولادهم وغيرَ تَعَذُّر ذلك على الألوف منهم لقلةِ المدارس والمعلمين. أجل، يُزْعَم أن اللورد كرومر كان خصمًا للثَّقافة العالية، وأنه كان نصيرًا للتعليم الابتدائيِّ. أجل، يَزْعُمُ الإنكليزُ أن الأزهر هو مصدرُ المعارضة، غير أن البحث في الوثائق يُسْفِر عن نتيجة أخرى، ولا يَكْفِي عدمُ المال لإيضاح كلِّ شيء.
وإليك الأرقامَ: كان محمد علي وإسماعيل يجعلان التعليم مَجَّانًا ويُطْعِمان الطلَّابَ بلا عِوَض، فكانت الأجورُ لا تُؤْخَذ في سنة ١٨٧٩ من غير خمسةٍ في المائة من الطلاب، وتَحِلُّ سنة ١٨٩٨، ويكون العهدُ إنكليزيًّا فيَظْهَر أن مَنْ لم يَعْرِف القراءةَ والكتابة في مصرَ ٩١ في المائة من الرجال و٩٩ في المائة من النساء. ويذهب اثنان في المائة من أبناء المصريين إلى المدارس في عهد إسماعيل، وتمضي ثلاثون سنةً فلا يَذْهَب إلى المدارس في سنة ١٩٠٨ غيرُ ١٫٥ في المئة من أبناء المصريين، ويأتي زماننا، يأتي دَوْرُ التعليم في العالَم بأجمعه، فلا يَنْقُص عددُ الأُميين بمصرَ ولا يَزِيدُ عددهم نسبيًّا فيها، ولا يَتَعَلَّم الفلاح ما يَجِب أن يتعلم، فقد جاء في الإحصاء الإنكليزيِّ الذي تمَّ سنة ١٩٠٦ أن ٩٠٠٠٠ طالب لا يَعْرِفون الكتابة و٩٠٠٠٠ طالب لا يَعْرِفون الحساب و٧٠٠٠٠ طالب لا يَعْرِفون القراءة، وذلك من ٢٥٠٠٠٠ طالب، وهنا تَتَجَلَّى مسئوليةُ سلطان البِيض.
ويُخَصِّص الإنكليزُ في سنوات الاحتلال العشرين الأولى واحدًا في المائة من نفقاتهم للتعليم (بدلًا من عشرين في المائة)، والإنكليزُ هم الذين جعلوا لهم مستشارين أقوياءَ في كلِّ مكانٍ مع تَرْكِ وزارة المعارف لأناسٍ من الأرمن ولأناسٍ آخرين من الأجانب، وكانت السياسةُ الحزبيةُ تَزِيدُ هذه الدارَ إظلامًا فيتناوبُها تسعةٌ وعشرون وزيرًا في تسعٍ وعشرين سنة، وآخرُ مَن اختاره اللورد كرومر منهم كان رجلًا، كان زغلولًا.
ويستحقُّ العملُ الذي أتمه اللورد كرومر في مصرَ بلا حربٍ إعجابَنا مع ذلك، ومع وجود دَيْنٍ عظيم، ومع معارضة الجمعية الأهلية العليا، فهذا اللورد هو أول من جَعَلَ الفلاحَ يَشْعُر بأنه مساوٍ للباشا أمام الله والقانون. ومن الواضح أن يُصَوَّب هذا الشعور، بعد أن ينتبه، إلى السلطة الحامية نفسِها، ويَقَعُ حادثٌ أليمٌ فيُفْسِد آخرَ سنةٍ من إقامة كرومر بمصرَ، فقد أطلق ضُبَّاطٌ من الإنكليز نارًا على حَمَام فلاحٍ فأدى ذلك إلى قَتْل إنكليزيٍّ وإلى إعدام ستة فلاحين، فخُتِمَ بهذا الحكم الاستعماريِّ عَمَلُ صديقِ الشعب الحرِّ ذلك.