الفصل السابع والعشرون
لا يكاد النيل في شهر يونيو يُسمَع من فوق جسر الجزيرة الذي هو جِسْرُ القاهرة الضخم، والذي لا يَعدِل غيرَ ثلث جسر الخرطوم طولًا، ويُتِمُّ النيلُ في العاصمة آخرَ جَوَلانٍ له فيَظهَر جليلًا وقورًا وتَقطَعه جزيرتان، ولا يُنْعِم على عاصمته الألفية — القاهرة — بمظهرِ قدرته، وتَبْدُو الجسور الثمانيةُ التي تَرْبِط ضِفافَه بالجزيرتين قصيرةً، وما تَقْضِي به الضرورةُ من رَفْعها مناوبةً لتتمكَّن السفن من المرور وما يصير عبورُ النيل به متعذرًا يُذَكِّرُنا بعظمته.
وفي شهر أغسطس — وعلى العكس — يُسْمَع هديرٌ هائلٌ من الجسر، لبلوغ فَيْضِ الماء غايتَه. وفي شهر مايو يستطيع سابحٌ ماهر أن يُعَارِض الجريانَ، وفي شهر يونيو يَصْعُب عليه ذلك، ثم لا يجرؤ أحدٌ على ذلك، ويَتبَع أهلُ القاهرة زيادة النهر مع هياجِ قومٍ محصورين، وما هي قوة العدوِّ؟ وما هو الحِصنُ الذين يهاجمه غدًا؟ ومتى يُفَكُّ الحِصار عنا؟ وينظر كلُّ عابر من فوق الجسر، في شهر أغسطس، ليَعْلَم هل هذه هي الزيادة أو أن ذلك ليس غيرَ مظهرٍ.
وإذا ما انقضت بضعة أيام فأبدى العنصرُ جميعَ قُوَّتِه تساءل أولئك الناس عن غَمٍّ: هل يزيد الفيضان على الغاية؟ وهم لا يَهْدَأ لهم رَوْع نهائيًّا إلا في أوائل أكتوبر وبعد عِدَّةِ أيامِ نقصٍ منتظمٍ في الفيضان، ويجاهد الناسُ حَوْلَ النيل جهادَهم حول امرأةٍ مُشْتَهَاةٍ، ولن يطمئنَّ قاهره إلى أنه قد يُصْبِح ضحيتَه في نهاية الأمر، ويتحركُ كل شيء في أثناء الفيضان، ويقوم حارسٌ في كل خمسين مترًا من القناة، ويُحْشَد مائةُ رجلٍ في الأماكن الخَطِرة — أحيانًا — لحماية الأسداد ولعرض بيانٍ عن الوضع.
ويَثْلِم الفيضان في سنة ١٨٨٧ سدًّا حافظًا لقريةٍ واقعةٍ في شمال المنصورة. وفيما كان الرجال والنساء والأولاد يأتون بأبوابهم ونوافذهم وأثاثهم لسَدِّ الثُّغْرة إذ يُبْصِر الإنكليزيُّ الذي يدير الأشغالَ بياضَ شعر الرجل الأكثر نشاطًا فيناقض مشيبَه بهمَّته العظيمة، ويسأل فيَعْلَم أن هذا الرجل — الذي كان رقيبًا في الدِّلتا سنة ١٨٧٨ — لم يَسْطِع أن يحول دون وقع تصدُّعٍ في السَّدِّ فأثار هذا الأمرُ غيظَ الخديو إسماعيلَ، فأمر إسماعيلُ بإلقائه في النيل فابيضَّ شعر هذا التَّعِس في ليلة انتظاره الموت، ثم عُرِفَت براءتُه فعُفِيَ عنه، ويكافح تصدعًا جديدًا في السَّدِّ، ويُشْرِف رأسُه الأبيض على الآخرين.
ويتوقَّف جميع إنتاج الدلتا — أي معظم القطن المصريِّ — على السَّدِّ الواقع في الكيلومتر الخامس والعشرين من مجرى النهر التحتاني من القاهرة؛ أي في المكان الذي يُقْسَم فيه النهر إلى شعبتين، وهذا هو آخر برجٍ قاهرٍ للعنصر، وهو يَبْلُغ من التأثير ما يُحَوِّله معه نائبُ السلطان — سعيدٌ — إلى قلعةٍ صالحةٍ لإغراق جميع الدِّلتا إذا ما غزا العدوُّ البلاد، وما كان من أمر هذا التذكار، ومن معرفة ما في أحد الأسداد من ممكناتِ تخريبٍ، قد حَفَزَ المصريين إلى الحَذَر من مشاريع الإنكليز المائية الكبرى، وللقلعة مع أبراجها وأروقتها وجسورها المتنقلة وملاجئها أثرٌ في النفس كما في النقوش القديمة.
وترانا في المكان الذي ينقسم النيل فيه، وكان أفلاطونُ أول من رأى تشبيهَه بشجرةٍ ذات فروع، وتَبْلُغ الدلتا من الطول ٢٥٠ كيلومترًا ومن العرض ٢٢٠ كيلومترًا، وهي ليست متساوية الأضلاع، كدلالة اسمها عليها، وقد كانت — إلى ما قبل قرنٍ — تُسْقَى وَفْقَ نظام الأحواض كجميع مصرَ في ذلك الزمن. وقد أراد محمد علي أن يَبْنِيَ فيها أول سَدٍّ ليضمن سَقْيَها في جميع السنة. أجل، إن هذا عملٌ صعب، ولكنه مُجْدٍ؛ وذلك لأن الأراضيَ الصالحةَ للزراعة في وادي النيل ممتدةٌ كامتداد المارْشن في هولندة.
وإذا ما حَبِط المشروعُ لم يكن ذلك من خطايا الفرنسيين، وإذا كانت الجُدُرُ القائمة على أرضٍ مُتَنَقِّلَة لا تُمْسِك سوى نصفِ مترٍ من الماء بدلًا من أربعة أمتار ونصف متر كما ينتظر فإن ذلك يُعَدُّ دليلًا على عجز الأوروبيِّ الذي لا يُصْدِر في الشرق غيرَ النصائح، ولا يُحْسِن المهندسون المصريون تنفيذَ تصاميم المهندسين الفرنسيين عند إنشاء السد، ويمضي أربعون عامًا فينفِّذ المهندسون البريطانيون مشاريعَهم في بناء السدِّ كما يودُّون. واليوم — فيما يَرُدُّ الإنكليز بالسدِّ خمسةَ عشرَ مترًا و٥٠ سنتيمترًا إلى الوراء — يصرِّح خبراؤهم بأنهم إذا ما غادروا مصرَ عَجَزَ المصريون عن الانتفاع بذلك.
ويختلف كلٌّ من السدين الحاضرين طولًا، ولكلٍّ من السدين إحدى وستون قنطرةً وكُوَّتان، ويزيِّنهما نقشٌ بارز وُجِدَ في طيبة وصُوِّرَ به رمسيس الثاني جامعًا لقِسْمَيْ مصرَ في الماضي وممثلًا لشعبتي النيل في الوقت الحاضر تمثيلًا عجيبًا.
ويُعَدُّ لسان الأرض الواقعُ بين السدين أخصبَ جنةٍ بمصرَ لسَقْيِه أحسنَ من سواه لا ريب، وتُعَدُّ الدلتا أرضَ مصرَ المفضَّلة، شأن أولاد الخبير الصحيِّ الذين يُعْطَون أكثرَ الأغذية ملاءمةً للصحة.
ويوجد سدٌّ آخر دائمٌ واقعٌ على المجرى التحتاني من زِفْتَى وعلى شعبة النيل الشرقية، ويُنْشَأ في كلِّ سنة حاجزٌ من تراب على كلِّ شعبة من النيل قبل مَصَبِّهَا، وذلك لوَقْفِ الماء الراشح من السَّدِّ، ويُصْنَع ذلك — عادةً — في اليوم التاسعَ عشرَ من مارس؛ وذلك أن الموج الوارد على الخرطوم في اليوم العاشر من فبرابر وعلى أسوانَ في اليوم الأول من مارس يتطلب ثلاثةَ أسابيعَ حتى يَصِلَ إلى زِفْتَى، فما كان لطاغيةٍ أو لصاحب ملياراتٍ أن يَتَّفِقَ له من العناية الطبية ما يتفق للنيل من تعهد شئونه والانتباه لأموره.
ويتعقَّد ذلك النظام — كجسم الإنسان — بالمِضَخَّات والدواليب والمِمَصَّات ورافعاتِ الماء إلى أعلى الأطيان، إلى ما يَبْلُغ ارتفاعُه مترًا واحدًا. وبما أن القطن يتطلَّب عنايةً فائقة فقد أُنْشِئت شبكة قنواتٍ لتصريف المياه وحُسِبَ توزيعُ المياه حسابًا دقيقًا، فيُعْطَى الماءُ في خمسة أيام من الصيف، ثم يُعْطَى أقلَّ من ذلك أولًا يُعْطَى في الأيام العشرة التالية. وإذا كان مقدار الماء كافيًا كان دَوْرُ القطن من الماء خمسةَ عشرَ يومًا ودورُ الأرز منه ثمانيةَ أيام أو عشرةَ أيام.
ويُظهر النهر المقهورة قوَّته حتى قُبَيْلِ نهايته فيُذكر الإنسان بقوة العنصر، ويُعَدُّ الغِرْيَن — الذي لا حياهَ لمصرَ بغيره — خَطَرًا في الدلتا، فيُقْضَى أربعون يومًا من كلِّ سنة في نَزْعِه من جميع القنوات، ويكون ذلك في شهر يناير على الخصوص، وذلك حين تُغْلق وتُنَظَّف وتُصْلَح، ويَتَطَلَّب الرِّيُّ الدائم غِرْيَنًا أقلَّ مما في الماضي، فيكفي مصرَ ثمانيةٌ وعشرون مليونَ طنٍّ منه في الوقت الحاضر، وأما ما يزيد على ذلك — وهو ما بين اﻟ ٤٠ مليونًا واﻟ ١٢٠ مليونًا وفق هَوَى أمطار الحبشة — فقد تُرِكَ للفلاح على العموم، ما لم يكن هنالك احتياجٌ إلى تعلية الأسداد.
وإذا كان الفلاح راغبًا عن ذلك وجب على الإدارة أن تَدْفَعَ نفقاتِ رَفْع ذلك، ويوضع السؤال الآتي في بعض الأحيان وهو: هل ينتفع الفلاح بهِبَة النيل تلك في إخضاب حقله أو يكسب أكثرَ من ذلك بنَزْعِها؟ هذه هي مسألة عويصة تَشْغَل بال الألوف من الناس فيقرِّر حلها وفق هذا المعنى أو ذاك مصيرَ ثورةٍ بعينها.
والملح هو العنصر الثاني الذي تَجِب مكافحتُه هنا؛ وذلك لأن ماءَ البحر يَتَسَرَّب في النهر؛ وذلك لأن ماء البحر مملَّح بعشرة أمثال ما تأباه الزراعة وبأمثالٍ عشرين مما تأباه شَفَةُ الشارب، ويُنْتَفَع بالسدين الترابيين اللذين يجدَّدان كلَّ عامٍ في دَفْع الملح أيضًا، ويُوصَل إلى ذلك بمراقٍ خشبيةٍ موصولةٍ بقواربَ وأكياسٍ يتألَّف منها إِطَارٌ دائم، فإذا ما تقدَّم العمل تقدمًا كافيًا ولم يَبْقَ غيرُ ثُغْرَةِ عشرين مترًا دُحِر الماء المملَّح بماء النيل القادم بغتةً، ويكون على الضِّفة كيماويٌّ فيحقِّق نسبةَ المِلح ويَطلُب هاتفيًّا من الخزَّان ما هو ضروريٌّ من الماء الفرات لذلك الغَرَض، وهذه هي آخرُ مرةٍ يسيطر الإنسان فيها على النيل.
ولا يُدفَع هنا — ولا في أيِّ قسمٍ آخرَ من وادي النيل — ثمنٌ لجميع ذلك الماء الذي تُكَلف مصالحه الإداريةُ وحدها نصفَ مليون جنيه سنويًّا، والأراضي التي تُسْقَى هي التي تؤدِّي الضرائب، ولكن ما أتفه تلك المبالغَ عند قياسها بما تكلِّفه أعمالُ الإنسان المخرِّبة! فقد بلغت نفقاتُ الأسداد الستةِ التي أُنْشِئت بمصر في غضون القرن العشرين اثنيْ عشرَ مليونَ جنيه؛ أي أقلَّ من نفقات أسبوع واحد في أثناء الحرب العظمى، ولا تَنْفَع تلك الأسدادُ لإنتاج القوة والنور كما في البلدان الأخرى، وما عليه النهرُ من تقلبٍ فلم يَصْلُح لغير قيام قليلٍ من المصانع الكهربية في جهاتٍ قليلة، ويظلُّ النيل — من هذه الناحية — جَمُوحًا تقريبًا، ومن ناحيةٍ أخرى لا يكون النيلُ صالحًا للمِلاحة في الدلتا إلا في أشهر الفيضان الثلاثة، والأقسامُ المنخفضة من شعبة رشيد وحدَها هي التي تَبْقى صالحة لسير السفن في جميع الفصول.
ولم يُسَنَّ لذلك قانونٌ قبل وصول الإنكليز، وكان الناسُ ينتفعون بالنيل منذ ألوف السنين عندما وُضِعَتْ موادُّ مرسومِ النيل الثلاث والأربعون، ويَقِلُّ سوءُ استعمال ذوي السلطان بما يُثِيرُ العَجَب بعد أن وُضِعَت للماء سلسلةُ المراتب تلك، وفي أهواء النيل ما يساعد على اعتدائهم؛ وذلك لأن النيلَ يَبْلُغ من تحويلِ أرضِ مصرَ في الغالب ما يقابَل بالذي يطرأ على الأراضي الواقعة على سفح بركان. واليوم يعلم الفلاحُ أن النهر إذا ما ابتعد عن ساقيته وأحدث جزيرةً جديدة حُقَّ له أن يحفر قناةً فيَجْلِب الماءَ إلى دولابه بلا بَدَل. واليوم يَعلَم الفلاح أن الباشا يُعَاقَب إذا ما حَبَسَ الماء عن جاره الفقير بوضع حجارةٍ، أو إذا سَدَّ كُوَّةً من فورِه، أو إذا حَفَرَ خَرْقًا في الضفة، أو إذا أزال حاجزًا، واليوم يَعلَم الفلاح — أيضًا — أن المفتِّش في شهر أبريل يَمْنَحه ماءً إضافيًّا إذا كان أرز الصيف يتطلَّب ماءً أكثَر من الذي قُدِّرَ له.
وما ألقاه النيل على الإنسان من أقدم الدروس؛ أي العمل المشترك؛ أي هذه التجربة البالغة من القِدَم ستةَ آلاف سنة، قد تَحَوَّل إلى عِلْمٍ مُصْلِحٍ لكلِّ ما عَلِمَه الإنسان من التقاليد، إلى عِلْمٍ أكثرَ اقتصادًا في مجموعه وأعظمَ إنصافًا في جزئياته؛ وذلك لأن فرعونَ أو نائبَ الملك عاد لا يكون صاحبَ الأرض كما في زمن يوسفَ ومحمد علي، وما تراه من دقةِ توزيعٍ في الأسداد ومن تحويلِ أرضِ حبوبٍ إلى أرضِ قطنٍ ومن إلغاء سُخْرة بلا أجرٍ ومن نقصٍ في عدد التجار من الأجانب ومن إنشاء مدارسَ ومن تحريم الحجز على قطعة الأرض الضرورية للعيش، وما تراه من هذه الاشتراكية الحكومية، أمورٌ عُدَّت عاملَ اتحادٍ جديد، وعلى ما تبصره من حمل الفلاح على ما يجب أن يَبْذُرَ وعلى الزمان والمكان اللذين يجب أن يَبْذُر فيهما تجد انتباهًا في شعوره بالكرامة بعد أن ظلَّ حتى الآن عبدًا للماء والإنسان معًا.