الفصل الثامن والعشرون
الدِّلتا خضراء كوادي النيل، ولكن بما أنها ليست أرضًا ضيِّقةً، ولا واحةً، ولكن بما
أنها
سهلٌ يمتد على مَدَى البصر، فإن لَوْنَ الصحراء الأصفرَ لا يَبْدُو في غير أطرافها البعيدة.
وإذا كانت مصرُ العليا تَنِمُّ على انسجامٍ بين الأخضر والأصفر والأزرق فإن الدلتا الواقعةَ
تحت
سماءٍ شاحبة تَنِمُّ بما فيها من منازلَ وأشرعةِ سفنٍ وثيابِ نساءٍ على انسجامٍ بين الأخضر
والأبيض والأسود، ولو رُئِيَتْ هنالك أشجارُ بقاعِنا بدلًا من النخل لظهر لنا منظرٌ هولنديٌّ،
فالماء موجودٌ في كلِّ مكان وصِغَار الجداول تَقْطَع كِبَارَها.
بيد أن المظهر العامَّ يُذَكِّر ببلد الكُثْبَان، وكلُّ شيءٍ هنالك مصريٌّ، وكل متحركٍ
هنالك مصريٌّ، بلينِ المنظر وكثافته. وكتب أحدهم يقول في زمن لويسَ الرابعَ عشرَ، حين
كان
القناصلُ شعراءَ أيضًا: «تكون مصرُ فِضيةً في سبتمبر، وزُمُرُّدِيَّةً في نوفمبر، وذَهبيةً
في
أبريل.» ونحن الآن في شهر أكتوبر.
ويسيرُ بعيرٌ سيرًا وئيدًا، ويُبَايِن السماءَ، ويَحْمِل جَبَلًا مُهْتَزًّا من عِيدان
القطن الجافَّة لإحراقها، ويَمُرُّ رجلٌ راكبٌ حمارًا على طول السَّدِّ، ويَظْهَر وراءَه
دولابُ
ناعورةٍ جديدٌ ابتاعه من المدينة، وتُسْرِع سيارةٌ يَجْلِس فيها — ويَنْشَب في أطرافها
— أربعةَ
عشرَ مسافرًا، فيُسْمَع صوتٌ لحديدها وتتطاير في الهواء ثيابُ راكبيها، وتُرَى سفينتان
ذواتا
شراعيْن مضاعفيْن منتفخيْن بريح الشمال الغربيِّ فتجوبان السهلَ رُوَيْدًا رويدًا وتَجْلِبان
ما
هو أبيض مثلَهما، تجلبان جبالًا زُغْبًا من القطن، وَتَرَى امرأتين سوداوين وخمسةَ أولاد
يَغْرِرزون مَوْصَ الذُّرَة الأصفر في الأرض على فواصل متساويةٍ استعدادًا لزرع فولٍ
في
الغد.
وترى رجلين عاريين واقفين في القناة فيُخْرِجان كُتَلَ غِرْيَنٍ ويصفِّحونها ويأخذونها
على
عَجَلَة إلى منازلهم البيض، وترى في وسط الغرين التماعَ مهًا
١ حَبَشيةٍ كأنها تذكارٌ لماضٍ بعيد مَنْسِيٍّ تقريبًا، ويُحاوِل تَلٌّ أن
يَتَكَوَّن، ويَبْلُغ من الارتفاع مترًا ونصفَ متر، وتَرْسُم الريح على ذُرْوَتِه دوائرَ
غريبةً
ما دام أرفعَ ما في الجوار، وتنتصب على مثل ذلك الارتفاع رَحَى هواءٍ تَدُور بريح الشمال
فتَبْدُو وحيدةً كجالٍ
٢ وتبدو أجنحتها مُرْخَاةً، فيلوح أنها تُدِيرُ مِضَخَّة.
وتُبْصِر على ما هو أبعد من ذلك ثلاثَ جَرَّافاتٍ سودٍ صَدِئة تَقْذِف الغِرْيَن
في الحقول،
وتُبْصِر على الضِّفَّة ألوفَ القُلَل الصُّفْرَ اللامعة مُكدَّسة كالقنابل القديمة،
وتَجُرُّ
ثلاثةُ جمالٍ ذاتُ أذنابٍ طويلة متموجة كالطواويس خُوصَ نخلٍ مربوطًا بعضُه ببعض أكوامًا،
وتَمُرُ البلاشينُ وتطير طيرانًا قريبًا عارفةً أنها في مأمن لما بينهما وبين البقر من
صداقة،
ويَطْفِرُ حمارٌ فوق القناة بجرأة، ولا رَيْبَ في أن راكبه خفيرٌ لحَمْلِه بندقيةً، ويطير
نحو
مائة طيرٍ من كُدْسِ حَبٍّ موضوع أمام البيت الصغير الأبيض العاري، ويؤدِّي طريقُ سَنْطٍ
إلى
بيت غنيٍّ وتَلْمَع خلفه قُبَّةُ مسجدٍ صفراء زرقاء، ويُفَرْجِنُ
٣ رجلٌ حِصانًا زائعًا يُكْدِف
٤ أمام أربعة أبنية من آجُرٍّ بارزةٍ بين الخُضْرة، أمام أربعة أصابلَ مُعَدَّةٍ لخيل
السِّبَاق.
ويسكن الفلاحون أكواخًا بيضًا مصنوعةً من طين مُجَفَّف وقائمةً بجانب تلك، ويمرُّ
خمسون
رجلًا لابسًا جِلبابًا أبيضَ وحاملًا قُفَّةً مشتملةً على حجريْن مُعَدَّيْن لتجديد مدخل
القناة، وتَجْلُب قواربُ طويلةٌ تلك الحجارةَ إلى القاهرة لِمَا لا يُوجَد منها في الدِّلتا،
ويَرَى حماران مربوطان بوتدٍ واحدٍ ذلك المنظرَ بأطرافِ عيونهما ويَدْلُك كلٌّ منهما
رأسَه برأس
الآخر، وتَتَوَجَّه نحو القناة، من خلال حقل نَفَلٍ،
٥ امرأةٌ لابسةٌ أسودَ وحاملةٌ جرةً فارغة مُضجعةً على رأسها، فإذا ملأتها بتُؤَدَةٍ
رجعت من طريقها بعد أن تنصبها موزونةً على رأسها مع الانسجام، وتَمُرُّ سفنٌ شِراعية
أخرى،
وتنقل زوارقُ سودٌ سلعةً خفيفة، تنقل القطنَ الأبيض الكثير الذي يُعَدُّ بضاعةً ثمينة
ملكية في
ذلك البلد، وتَجِدُ على طرف القناة صبيًّا يُدِيرُ لَوْلَبًا خشبيًّا فيُوصِلُ الساقيةَ
به إلى
الناحية الأخرى، ويَصِرُّ كلٌّ من اللولب والساقية، ويداوم على تلك الحركة عشرَ ساعاتٍ
متتابعاتٍ فيُصْعِد الماءَ بلا انقطاع.