الفصل التاسع والعشرون
وأَحْيَا يونانيٌّ سابقَ عهدِ تلك البقعة التي كان البطالمةُ يَغْرِسون فيها الكَرْمَةَ، فقد أنشأ فيها مدينةً صغيرةً وطريقًا فسُمِّيَتَا باسمه: جناكليس، وهكذا يَخْلُف زارع التَّبْغ مَلِكًا كما يَخْلُف تاجرَ القهوة المقدونيَّ فيُوقِظُ ذلك البلدَ الناعس، ويُعَمِّر كفرعونٍ، وقد أنبت تحت ذلك الجوِّ البخيت، أنبَتَ بفعل نسيمه ومطره وقناةٍ مجاورةٍ له، أشجارَ برتقالٍ وزيتونٍ على كُثْبَانٍ مُرَكَّبةٍ من رملٍ وغِرْيَن، ويُخْرِج ما له من كرومٍ خمرًا مصريةً جديدة.
وهكذا يُمْكِن توسيع الدِّلتا بمقدارِ الخمس، وإدخالُ زراعة التبغ لمكافحة أزمة القطن المتزايدة، فيُعَاد إلى الفلاح ما نُزِعَ من سروره بما يُجْبَى من المُكُوس عن التَّبْغ الوارد، ويُرَى أن مُعَدَّلَ التدخين في مصرَ أربعُ سغاير في كلِّ يومٍ لكلِّ ساكنٍ من رجالٍ ونساء ووِلْدَان، وتستورد مصرُ في كلِّ عام من التَّبْغ ما قيمته عشرون مليونَ جنيه؛ أي ما يَزِيدُ على معدَّل ما يستورده أي بلدٍ آخر مع أن زَرْعَه هنالك يُنْتِج من التبغ ما هو أنفسُ مما في جميع بلاد العالم بفضل ماء النيل وبفضل هوائه على ما يحتمل.
وقد تضاعف عدد سكان مصرَ تقريبًا، وذلك من غير أن يَتَحَوَّل مقدارُ الخُبْزِ الذي تُنْتِجُه؛ وذلك لأن ثَرَاءَ البلد يُزَادُ على حساب استقلاله؛ وذلك لأن القطن — لا الحريةَ — هو الذي يسيطر، ويُصْدَرُ في سنة ١٩٢٥ من القطن وبذرة القطن ما قيمتُه ٦٢ مليون جنيه، ولكن مع إدخال ما قيمتُه اثنا عشرَ مليونَ جنيه من الحَبِّ والدقيق، وكان ما يصدر من القطن المصري — حتى في سنة ١٩٣٠، حتى بعد تدهور القطن — يعدل ٨٧ في المائة من مجموع ما تُصْدِرُه مصر، ويعود العقل في ذلك الحين إلى الرءوس فيُزْرَع ١٨٠٠٠٠٠ فدان من القطن ويُزْرَع ١٤٠٠٠٠٠ فدان من القمح.
ومع ذلك لا تكون تلك المضاربات مُجْدِيَةً في غير سِنِي الخير، ويُعطِي فدانُ القطن في الدِّلتا في كلِّ سنة ثلاثين جنيهًا، ويُعطِي فدان البرسيم في الدِّلتا في كلِّ سنة عشرة جنيهات فقط، ولكنه يُقَصُّ من البرسيم خمسَ مراتٍ في السنة الواحدة، وذلك إلى أن الأرض تُنْهَك بالإكثار من زراعتها، ومن ذلك أن القطن كان يُزْرَع — قبل الحرب — مرةً في كل عامين بدلًا من أربعة أعوامٍ، فنَقَصَ إنتاجُه وزالت خواصُّه، فالأرض تَضْنَى كالمرأة التي تَضَعُ ولدًا في كلِّ سنة.
ويقال مع التوكيد إن القطن الذي يُنْتَج هنا كثيرُ النعومة على الأهالي، ولكن من الممكن أن تُعْقَد معاهدات تجارية لمبادلته، ولكن ألا يُوجَد مكانٌ للمصانع في الدِّلتا؟ إذا ما أُنْشِئ مصنعٌ في قريةٍ انتُفِع بألوف الأفدنة فكان كالكتاب الصغير الموضوع على مِنْضَدَتِنا والمشتمل على عالمٍ من الأفكار والأحلام. وإذا لم يُرَدْ صنع شيءٍ، أو كان هنالك من الوسائل ما يُحال به دون فِعْله، وُجِد من الأسباب الفنية ما يُفَسَّر به الامتناع عنه.
وهل أدى القطن إلى جعل الفلاح أكثرَ سعادة على الأقل؟
لقد أَثْرَى الباشوات في أثناء حرب الانفصال حينما افْتُقِدَ قطن تكساس، غير أن وطأة ذلك أُلْقِيت على عاتق الفلاح فنشأ عن تحرير العبيد في الولايات المتحدة ظهورُ عبيدٍ جُدُد في مصرَ. ولما وَضَعَت الحربُ العظمى أوزارها وتَعَدَّلَ كِيَان مصرَ الاجتماعي اغتنى بعضُ الفلاحين لبلوغ ثمن قنطار القطن أربعين جنيهًا وبلوغِ ثمن الأرض الجيدة ألفَ جنيه، ويَظْهَر أنه يوجد بين فلاحي الدِّلتا مَنْ يستطيع أن يبتاع ألفَ نخلةٍ فيَزِيد دخلُه السنويُّ على ألف جنيه، وليس بمجهول اسمُ أغناهم الذي اشترى أرضَ شركةٍ مُفْلِسة بأربعين ألفَ جنيه فوَصَلَ يوم إمضاء عقد البيع مع جماعةٍ من الحمير حاملة أكياسًا من الذهب، ويَسْخَر سماسرةُ الإنكليز من غباوة هذا الفلاح الذي تَرَك ذَهَبَه ينام في بيته المصنوع من الطين من غير أن «يُوَظِّفَه»، وذلك من غير أن يَعْلَم هؤلاء الإنكليز أنهم كانوا يَخْسَرُون هذا الذهب — لا ريب — بعد بضعِ سنين في شركةٍ فَخْمَةٍ ذات مكاتبَ فاخرةٍ وأوراقٍ مالية باهرة.
والفلاحُ زاهدٌ مقتصد، والفلاحُ يبتاع بيتًا أكثرَ جمالًا، وحمارًا أعظمَ عَضَلًا، كما يبتاع لامرأته قِلادةً ذهبية، ولكنَّ الفلاح يؤمن بالأرض التي يُرَوِّيها النيل فيَشْرِيها لنفسه ولأولاده، ولا يَذْهَبُ الفلاح المغتني ليُبَذِّر مالَه في القاهرة أو باريس حيث يَقْضِي المضاربون حياةَ الفراعنة بضعةَ أشهر. ومن النادر أن يُمَثِّلَ الفلاح المغتني دَوْرَ السيد الإقطاعيِّ أمام أمثاله الذين ظَلُّوا فقراءَ، ولا أحدَ من الفلاحين يَجْهَلُ القصةَ العربية القائلة: إن فلاحًا غنيًّا أتى بفلاحٍ فقير أمام قبر أبيه الرائع فقال الفلاحُ الفقير صائحًا: «سيكون أبي في الجنة قبل أن يقدر أبوك — بزمنٍ طويلٍ — على رفع هذا الحجر الرخاميِّ الثقيل.»
ويأتي الفلاحون — وفلَّاحو الدلتا على الخصوص — مُنْكَرًا مناقضًا لمزاجهم المَرِح لأسباب خفيةٍ لا يُمْكِن تفسيرها، وذلك أن المخدِّراتِ غيرُ منتشرةٍ في مكانٍ على شواطئ البحر المتوسط انتشارَها بين الفقراء من أهل مصرَ. والمخدِّرات مما يستعمله الأغنياءُ في العالم بأجمعه، فترى معاملَ في أوروبة الشرقية، وفي بلدانٍ تدعو إلى مكارم الأخلاق فتَضْرِب نقودًا عن حبٍّ للإنسانية وعن ديموقراطيةٍ، تَسُمُّ أولئك الأهلين سَمًّا منتظمًا، وتَرَى الألوفَ من التجار والمهرِّبين والوكلاء يعيشون من هذه التجارة المُحَرَّمَة، ومع ذلك يُسأل: هل صُنعُ الهروين — الذي يَمُنُّ على الإنسان بأحلامٍ مُسْكِرةٍ وبحسِّ سعادةٍ — أنفى للأخلاق من الغازات السامة التي تَقْتُلُه؟ ألا إن بعض الحكومات تَصْنَع هذه الغازات لتحقيق مطامعها وتُحَرِّم الهروين خَشْيَةَ نَقْصِ حرارة القتال لدى أبنائها.
وتظهر العدالة عَرْجَاءَ مرةً أخرى، فبينما يُحْكَم على متعاطي المخدِّرات بالسجن سنواتٍ لا يُقْضَى بحبس تاجر المخدِّرات التركيِّ غيرَ بضعة أشهر، وذلك إلى أنه لا ينبغي لدولةٍ تَدَعُ ألوف الآدميين يَغُوصُون في بحرٍ من الفقر والجهل أن تجازِيَ أولئك إذا ما اشْتَرَوْا ببضعة قروشٍ نَصَبًا لذيذًا، إذا ما شَرَوْا حُلُمًا وسُلْوانًا.
والواقع أن مرضًا أُدْخِل إلى مصرَ منذ إقامة الأسداد، ولم يَصْدُر هذا المرض عن النيل، بل عن الإنسان الذي قَهَرَ النيل. ومما حَدَثَ أن ضَمِن المستشارون الكثيرون الذين بحث اللورد كرومر معهم عدمَ وجود خطرٍ من إنشاء الأسداد. ومما حدث أن خَصَّصَ أحدُ المهندسين الكبيرين — ولكوكس ومردخ مَكْدُنَلْد اللذين أقاما الأسدادَ وحَقَّقَا حلم فاوست — دورَ شَيْبَتِه لتلافي الضَّرَر الذي نَجَمَ عن عمله، ووِلْكُوكْسُ هذا كان مُحِبًّا للإنسانية فأزعج بإنذاراته ملوكَ القطن والوزراءَ من الإنكليز والمصريين الذين كانوا يُفَضِّلُون كتمَ الخطر على إبعاده، ويُبَيِّن وِلْكُوكْس أن قدماء المصريين جَلَبوا البرسيم من النيل الأوسط فكانوا يَجُزُّونَه في الغالب ليُزْهِر ثانيةً وليُطْرَد الذبابُ والبعوضُ بإزهاره، وذلك مع العلم بأن الفراعنة كانوا يَمْنَعون الفلاحَ الموظفَ في المصالح العامة وفي السجون من أكل الخُضَر بلا طَبْخ.
وهنالك وسيلةٌ أخرى إذا ما اتُّخِذَتْ بسرعة — وعلى مقياس واسع — أَنْقَذَتْ أولئك الآدميين، وهي أن الديدان تهاجم هؤلاء الناس عند عملهم واقفين في الماء، فبما أن اثنين من كلِّ ثلاثة يَعْمَل في مصرَ واقفًا في الماء وَجَبَ حفظُ سيقان الجميع كما تُحْفَظُ سيقانُ الشُّرطة بجراميقَ من المَطَّاط دقيقةً عاليةً، ولا سيما في الأماكن التي يَنْبُتُ فيها البَرْدِيُّ.
وإذا كانت الشرطة والمهندسون اللابسون جراميقَ من المطاط لا تَنْفُذُها الموائع يَسْلمون من كلِّ عَدْوَى أمكن إحدى شركات القطن أن تأخذ من ميزانيتها ما تبتاع به ١٢٥٠٠٠ جرموقٍ من المطاط ﺑ ٢٥٠٠٠٠ جنيه على أن يَسْتَعْمِل هذه الجراميقَ إعارةً نصفُ مليون من الأشخاص، ولا يُكلِّفها هذا العملُ الموافق لتعاليم المسيح ثمنًا أغلى مما يكلِّفه مَنْ ترسلهم من مبشري القطن إلى الغابة البكر، وإذا كانت تلك الشركة لا تودُّ أن تُقْلِع عن ذلك الصراع المُثِيب ضِدَّ الخطيئة فما عليها إلا أن تُضِيف ذلك المبلغَ إلى الربح والخسارة فيَنْقُص الكسبُ في سنةٍ اثنين في المائة، فبذلك يكون مليونُ إنسان في مأمنٍ من الأمراض الثقيلة، وذلك المبلغُ الذي هو اثنان في المائة من الربح هو ثمن جراميقَ من المطاط تُنْقِذُ مليونَ فلاحٍ من المرض الذي ينهك قُوَاهم الحيوية فيُعَدُّ فِدْيَةَ المَلِك القطنِ.