الفصل الثلاثون
يجلس القُرفُصَاء على أرض الدلتا نساءٌ وأولادٌ في الخريف، وعلى مَدَى البصر، فيقتطفون القطن، وثيابُ هؤلاء الخَدَم سُودٌ، والمَلِك أبيضُ، ويَعُوم عليه غَمَامٌ خفيف، ويلوح كلُّ شيءٍ فيه خفيفًا وغيرَ حقيقيٍّ، ويُفَكَّر في لَعِب طائرٍ وحُلُم صَبِيٍّ.
ولذلك النباتِ طبعٌ تابعٌ لهواه، ويقاوِم ذلك النباتُ في شبابه، ويَظهَر أنه يريد متاعَ الحياة، ويَظهَر في دور خِفَّتِه أنه مُعَدٌّ لعيشٍ ناعم، وهو يَجْهَل ما ينتظره من مِحَن، وهو ذو مصيرٍ أقسى من مصير النباتات الأخرى، وليست عُصَارَتُه هي التي تُحَوَّل، وإنما أليافُه هي أكثرُ ما فيه إحساسًا.
وفي شهر مارس يَحْفَظ النساء هنالك أولَ الفُرُوخ من الرِّياح وراءَ الأخاديد الصغيرة، ثم يُطَهِّرْنَ الأرضَ من العشب ويَحْلُلْنَهَا ويَرْفَعْنَ السُّوق إلى طرف الأُخْدُود حتى تنمو طليقةً بعد مجاوزته، وفي مئات الساعات، وفي الصيف بأسره، تُعْنَى أيدي أولئك النساء السُّمْر بتلك الأوراق فيُزِلْنَ الديدانَ الصغيرة، فكأنَّ ذلك مدرسةٌ قائمة على الصبر والمحبة كالتي يُرَبَّى فيها الأولاد، ويتساءل الرجال في جميع ذلك الصيف عن سَقْيِ ذلك النبات القَصِف ذي الأزهار الصُّفْر بأحسن الوسائل.
أجل، إنه لا شيءَ يَفُوق اللِّيف الطويل غَيْرُ ما يُنْتَج في جَنوب فلُورِيدَة وفي أَرِيزُونَة، بَيْدَ أن ذلك لا يُنَال هنالك إلا قليلًا، ولا تستطيع مصرُ أن تنافِس البلدان الكبرى التي تُنْتِج القطن إلا بفضل ذلك اللِّيف ما دامت مصر لا تُنْتِج سوى سبعةٍ في المائة من المحصول العالميِّ، وما يبديه القطن المصريُّ من مقاومةٍ بين الهند والولايات المتحدة فلأنَّ كِيريُوس سَكلارِيدِس حَلَمَ بِلِيف الأربعين مليمترًا وبقمصان النساء الحريرية قبل أن يكتَشِفهما.
وإذا عَدَوْتَ الوافِدات المُخَرِّبَة كالتي وقعت سنة ١٩٢٢ وجدتَ المضاربةَ على القطن (وهذا هو التعبيرُ الذي يجب استعمالُه من أجل ذلك البلد الصغير الذي يعيش من القطن) هي التي تُعَيِّن مصيرَ المصريين، وتَجْعَلُهُم يَزُجُّون بأنفسهم في الأَزَمَات العالَمية التي لا تَجِدُ لهم أقلَّ تأثيرٍ فيها ما داموا منعزلين في واحتهم الأفريقية عُزْلًا من السلاح مُهَدَّدين بمزاحمة النيل الأعلى تابعين لدولةٍ كبيرة.
ومن الواضح أن الاستنفاد يَزِيدُ في العالم، وأن طَمَعَ صانعي النسائج يوحي إلى الناس باحتياجاتٍ جديدة؛ فبَلَغَ ما استهلكه العالَم خمسةَ عشرَ مليونَ رزمة في سنة ١٩٠٤ بعد أن كان سبعةَ ملايين رزمةٍ سنة ١٨٨٤، والآن يأمل أصحاب الملايين أولئك أن يقضوا باسم الآداب العامة على عُرْيِ الزنوج الصارخ؛ لأنه لا يَلْبَس من القمصان سوى اثنين في المائة منهم.
ويجهل الفلاح الشائبُ تلك الحوادث، غير أن ابنه يقرأ في الصحف كونَ القوم قد طَمَرُوا بالمحاريث البخارية محاصيلَ القطن في ملايين الأفدنة من تكساس، وكونَه افتُتِحَ أكبرُ سَدٍّ في العالَم على نهر السِّنْد ليَزِيد محصولُ القطن ٢٣ في المائة على حين يَصْدُر مرسومٌ في الولايات المتحددة قائلٌ بتقليل محصول القطن ٢٥ في المائة. وإذا كان الفلاح لا يُدْرِك سببَ هذا التناقض فإنه ليس أكثرَ غباوةً من المسئولين عنه، ولكن الفلاح يَشْعُر بأنه ضحية، وإذا ما أدت آلهةٌ بعيدةٌ إلى خَفْضِ ثَمَن القطن في عامين من ثمانية عشرَ بُنْطًا إلى سبعة بنطات في كلِّ رطل منه.
وإذا حَدَثَ أن زَرَعَت سلطاتُ آسيةَ الحُمرُ التي حَذَّرَتْهُ جريدتُه منها أنواعًا جديدة من القطن تُعْطِي من جَوْزِ القطن مائتين بدلًا من ثلاثين فإن الفلاح يُدْرِك أن ذلك يَقْضِي على أمله في أن يُعَوَّضَ من حماره، وفي دفع الأجرة المدرسية عن ابنه، وفي تأدية ثمن غراماتِ حشيشه القليلة.
ويغدو الفلاح دَرِبًا في فنِّ البيع حفظًا لنفسه، ويَفْصِل النساءُ بأصابعهن الدقيقة وبصبرهنَّ الذي لا يَنْفَذُ القطنَ الأبيض عن الأجزاء السُّمْر الرديئة، ويُبْعِد النساءُ الأوراقَ الجافَّةَ من القطن الأبيض ويُنَظِّفْنَه قَبْضَةً بعد قبضةٍ، ويجعلنَ منه كُدْسًا بعد كُدْسٍ، وذلك على حين يَجْمَع الأولاد نَفَايَتَه في سِلَال، ثم يأتي الرجال بالمحصول على ظهور الحمير إلى ساحتهم حيث يُنَظَّف مرةً أخرى بما هو أتمُّ من ذلك، وحيث يكون في مأمنٍ من الريح التي تثير الأوراق الجافَّةَ فتُعِيدُها إلى الخلف، وتَبْدُو الدِّلتا معمورةً بزُمَرٍ من النساء اللابسات ثيابًا سُودًا والمُرْضِعاتِ أطفالًا أحيانًا والمنحنيات تحت الشمس وبين التلال البيض، فكأنهن إلهاتٌ هُيِّئْنَ ليَنفُضْن أغطيةَ سعداءِ هذا العالم، وتُبْصِر هياكلَ غريبةً سُودًا منتصِبة بين تلك النسوة، تُبْصِر مَنَاخِلَ يُدَقُّ عليها القطن ثم تُغَطَّى لكيلا تَسْقُطَ الأوراقُ اليابسة عليها بقوة الريح، ثم يغدو كلُّ شيءٍ نظيفًا، وتَبْدُو المَلِكة بيضاءَ في نهاية الأمر.
وكلما طال الجِدَال طاب البيع، ويَلْبَس جميعُ هؤلاء جلابيب زُرْقًا وطرابيش حُمْرًا، فيَبْدُو التاجر بقُبَّعَتِهِ المصنوعة من المَوْصِ وزِيِّه الأوروبي مثلَ وحشٍ يَحُفُّ ممسكوه من حَوْلِه، ويَعْرِض ثلاثين مرةً أو أربعين مرةً فيُضْرَب بذلك عُرْضُ الحائط مع السُّخْرِية، ويُقبَل ذلك بغتةً ويَهْتِفُ الحضورُ كما في دار التمثيل.
وتحلُّ ساعة الكاتب، ولا يزال الكاتب يشابه تمثال القاهرة القديمَ المُسَمَّى «شيخ البلد»؛ وذلك لأن الفلاحين الذين أخرجوه من الأرض قالوا بصوتٍ عالٍ إنه يشابه عُمْدَتَهم، ويَكْتُب العقدَ على ورق مُسْتَوٍ فوق يده اليسرى وبقلمٍ من قَصَبٍ في الغالب، ويُبَيِّنُ الثمنَ مقابِلًا لعددٍ معين من القناطير فيكون ثُلُثُ المبلغ بدلًا من القطن الخالص وثلثاه بدلًا من زيت القطن وعَلِيق البذر، ويُقْبَض الثمن أوراقًا نقديةً في الحال، وعلى المشتري أن يَضَعَ توقيعه على الكبير من هذه الأوراق ما دام الفلاح لا يَثِقُ بإمضاء محافظ البنك الأهليِّ.
وأخيرًا يكون الوزن قد تَمَّ بعد تناول مقدارٍ من السغاير والقهوة، وتُحَمَّل الحميرُ والجمالُ أكياسَ القطن وتُؤْخَذ إلى حيث تُحْلَج، وتبتعد الحيواناتُ على السدِّ، ويَنْظُر الفلاح وزوجُه وأولادُه صامتين، عن غَمٍّ على ما يحتمل، إلى المَلِك الأبيض الذي يتوارى بعد أن قَضَوْا ساعاتٍ طويلةً عاملين في سبيله تحت الشمس، ويَشُدُّ الفلاح بيده السمراء على الأوراق النقدية، ولكن على أن ينتقل معظمُها إلى دائنيه، ولكن على ألا يبقى له غيرُ أقصى ما يحتاج إليه منها، ولا تَجِدُ سوى القليل منهم من يَعُدُّ نفسَه سعيدًا.
والآن ينتهي التكريم فيَخرُج الرجال الثمانية من الخابية الحديدية ويَثِبُون على أطرافها ويداومون على خَبْط نعالهم وعلى الغِنَاء ثم يعودون إلى سابق سيرتهم، كأنهم من أنصاف العبيد وأنصاف الكُهَّان، ويَنْزِلون عشرَ مرَّاتٍ في الساعة ومائةَ مرةٍ في اليوم إلى ذلك القبر المحاط بزَبَدٍ أبيض.
وينتظر المشترون في قاعة كبيرة مجاورة لمحالِّ الكَبْس تلك لابسين معاطفَ بِيضًا حِفْظًا لبِذْلَاتِهِم الأنيقة، ويُدَقِّقون في نماذج القطن المضغوطة ويَجُسُّونها ويَمُطُّون خيطانَها ويَطْرَحُونها، وهم يعرفون جميعَ أنواعها لِمَا هم عليه من خِبرَة، ولكنهم يجهلون كيف بُذِرَ القطن وعُنِيَ به وجُنِيَ، ولكنهم لا يعرفون — أو قد نسوا — أن كلَّ رزمةٍ تنطوي على عمل أُسْرَة مشدود، والآن عاد النبات لا يكون موجودًا، والآن تَبْدُو الأنواعُ وحدَها للأعين.
ويَلُوح أن أسماء آلهةٍ تُدَوِّي من خِلال القاعة كأسماء أبطال الأساطير التي تَعُوم على مجرى الزمن فتُذَكِّرُنا بأعمالهم، فيقال: «ساكل (سَكلارِيدِس!) أصولي! أشموني! كازُولي! بلْيُون! زاجوره!»
وتُسْمَع أحكامٌ في وَسَط الضوضاء يُخَيَّل إلى الإنسان أنها صادرةٌ عن قُضَاة جهنم أكثرَ من صدورها عن تجار، فيقال: «لونٌ جميل، لونٌ خُضَيِّب، عِرْقٌ حَسَن، عِرْق قويٌّ، عرق حريري!»
وهنا يُخْتَم الدور الأول من تاريخ الملك الأبيض، وهنا — في البُرْصَة — تُمْحَى حياةُ هذا النبات وأهميةُ أنواعه من ذاكرة الناس.
وتُبْصِر تحت القُبَّةِ جمعًا مؤلَّفًا من مائة شخص أو مائتيْ شخص صارخٍ على مكانٍ مستدير تُحِيطُ به قضبانٌ من حديد مشتملةٌ على مِصطَبَة يَقِفُ عليها رجلان صامتان يُلاحِظَان سَيْلَ الناس مع اعتدالِ دمٍ واستخفاف، والرجلان من السماسرة المُحَلَّفين، وهما يشاهِدان هذا المنظر كُلَّ يوم، وهما يَسْمَعَان هذه العاصفةَ الهائجة منذ عشرات السنين فيلوح أنهما صارا أصمَّيْن بسببها، والحقُّ أنهما الوحيدان اللذان يُدْرِكان شيئًا من أمرها، والحق أنهما يكتبان بالطَّبَاشِير — ومع اتزانٍ — أرقامًا وكسورَ أرقامٍ على لَوْحٍ أسودَ كبير، والحق أن سُوقَ الإسكندرية التي يُعنَى فيها بعلاماتِ القطن من دون أثمانه قد دَحَرَتْ لصوصَ نهار الله هنا.
ويُمْسِك بعضُهم ببعضٍ من أزرار الثياب ويتجاذبون من الشَّعْر في بعض الأحيان، وتنفرد أساريرُ وجوههم من تصاعد الأرقام، ويحاولون إمساكَ ذراعِ أحد الرجلين الواقفين على المِصْطَبَة على حين تَصْدُرُ عن هذا حركةُ يدٍ نحوَ الخارج معناها «لكم»؛ أي «اشتريتم»، أو يعيد يدَه إليه فيَعْنِي هذا «منكم» أي «بِعْتُم»، ومن ثَمَّ تَرَى في مَصَبِّ النيل تمثيلَ مسكينٍ لدور رمسيس من الساعة الحاديةَ عشرةَ إلى الساعة الواحدة.
ولا تَجِدُ من هؤلاء الأشخاص مَنْ أبصر الزهرَ الأصفر لنبات القطن ولا المُنْخُلَ المُغَطَّى بنسيجٍ أسودَ، ولا الساحةَ المشتملةَ على أكداسِ القطن الأبيض، ولا القَبَّانَ على مِنْصَبِه، ولا الجمالَ ذواتِ الأحمال الرَّادِمة، ولا يُبَالِي هؤلاء الأشخاص بمن يَغْرَقون في كَبْسِ القطن، ولا بالأنواع التي لها من الأسماء ما تُدْعَى به الآلهة، فهؤلاء من المقامرين الذين يَرْجُون وقت الإغلاق ارتفاعَ الأسعار إذا ما أرادوا البيع وهبوطَها إذا ما أرادوا الشراء. ولَمَّا تَنْبُت البِضاعة التي يضاربون عليها، ولَمَّا يُلْقَ في الأرض بِذْرُها، وهذه المصافق — مع ذلك — هي التي تُؤَثِّر في حياة طبقاتٍ بأسرِها وشعوبٍ بأجمعها.
وتتوارى النباتات والقَنَوَات خَلْفَ مساوفَ بعيدةٍ، ولا ترى أسدادًا ولا كُوًى لزراعة القطن، وتُنَار مصرُ بالكهربا، والعالَمُ شبكةُ أسلاكٍ بين لِيفِرْبُول وبَمْبِي تَنْقُل في كلِّ صباحٍ — من خلال البحار — سَيْرَ الأسعار في البُرْصَة، وعاد النيلُ لا يكون غيرَ أسطورةٍ، فلا عروقَ، ولا أممَ، ولا طبقاتٍ، ولا قطنيات، ولا منسوجات، ولا لغات.