الفصل الحادي والثلاثون
تمر جماعةٌ من النُّحَام
١ فوق قُبَّةِ البُرْصة آتيةٌ من رشيد، وتَتَّجِه طائرةً مع ازْوِرَارٍ نحوَ الجنوب
الغربيِّ؛ وذلك لأنها تَجِدُ على شواطئ بحيرة مريوط وفي مناقع مصبِّ النيل ألوفًا من
إخوانها،
هي ورديةٌ كالشَّفَق، هي تُخْفِي عُنُقَها الرائعَ تحت أجنحتها، هي تَقِفُ على أرجلها
السُّود،
هي تنظر من الشاطئ إلى الكراكيِّ التي تعود من الحقول المحصودة إلى الماء وتَدْنُو مع
انحناءٍ
رائع، ويُبْصِر دَجاجُ الماء الأسودُ، عن غير رضًا، إلى القاق،
٢ إلى هذه الآفاق، فيَلُوح أنه يُفَضِّل عليه خَطَّاف البحر وزَمَّار الرمل اللذين
يظلَّان ضِمْنَ نظامهما الوثيق دومًا، وتَقُومُ زَمَامِيجُ
٣ الماء البِيضُ فوقه بِطَيَرَانٍ عجيب مع تحليق، وتَجِدُ فوقَ الجميع عُقَابَ البحر
راصدًا ساكنًا، ثم يَنْقَضُّ بغتةً كدبُّوس ويرتفع ثانيةً إلى ما لا نهاية له مع سمكةٍ
مهتزَّةٍ
بين بَرَاثِنِه.
وتَرَى تحت شجر الجُمَّيْزِ بلاشينَ رماديةً كبيرةً وحيدةً مغتمَّةً، وتَرَى على أغصان
السَّنْط العارية تقريبًا بلاشينَ بيضًا لطيفةً واضعةً رءوسَها تحت أجنحتها فتبدو كأنها
أزهارٌ
كبيرةٌ بِيضٌ. وإن الأمر لكذلك إذ تَسْمَع أجمل صوتٍ من خِلال الصَّمت وفوق حجارةٍ ثمينة؛
إذ
تَسْمَع تغريد الخُضَيْرِيِّ؛ إذ تَرَى الخضيريَّ الجميل الجَنَاح والطويلَ المِنْقار
يطير فوق
الماء رويدًا رويدًا.
وهنالك الخطاطيفُ ذواتُ الانعكاس الفُولاذيِّ، وهي قد أتت من الشمال بعد أن جاوزت
البحرَ
فارَّةً من البرد وبعد أن قَضَتْ فصلَ الصيف على شواطئ إنكلترة على ما يحتمل، وهي تَحُوم
بين
مكانٍ ومكان هُلُوعًا، وهي لَنْ تَبْقَى هنا، فالجَنوب يجتذبها. واليوم تحاول أن تقومَ
بالقسم
الثاني من رِحْلَتِها الكبرى، وتُغَرِّد على مَهْلٍ، وتَذْهَب مُتَّبِعةً الطَّرَفَ الأخضرَ
من
الوادي حتى يعود تكوينُ النهر ويَهْدِيهَا إلى الطريق بعَرْضِه المَهِيب.
وتَخَاف الخطاطيفُ مَغَرَ
٤ البادية لأنها نذير الجوع، وتسير نحو مجرى النيل الفوقاني فتطير فوق العاصمة
وجسورها وقصورها وقلعتها وتُبْصِر رءوسَ السُّكَّر على حدود الصحراء، كما تُبْصِر أبا
الهول
رابضًا حارسًا أمام أعلاها، وتنتصب الأعمدة والتماثيل والمِسَلَّات في الوادي الأخضر،
وتَمُرُّ
سفنٌ مع أَشرعتها البِيض حاملةً قُلَلًا صُفْرًا مُكَدَّسَةً، وتَمْشِي الجِمال على الضِّفَاف
قُطُرًا قُطُرًا، وتَسِير حميرٌ سُمْرٌ أمامها عَدْوًا، ويَضْحَك الأولادُ العُراةُ قهقهةً،
وتَبْكِي السواقي في جميع الوادي؛ وتدير الدواليبَ ألوفُ الأزواج من الثِّيران، ويرافِقُها
الرجال مُنْشِدين، وتهتك صَرْصَرَةُ الصقر حجابَ السماء وتُخِيفُ خطاطيفَ الشمال.
والنيل يهدر تحت تلك الجماعاتِ الفارَّة إلى الجنوب، والشَّلَّالاتُ الأولى تُغَطَّى
بالزَّبَد، فقد فُتِحَت جميع الكُوَى واستردَّت الطبيعةُ حقَّها، وتداوِم الخطاطيف على
اتجاهها
نحوَ الجنوب من خِلال السهل الخالي حيث تُطْمَر نخلٌ وقُرًى، وتَبْلُغُ الخطاطيفُ صخورًا
سُودًا
راشحةً كما تَبْلُغُ ألوفَ جُزَيِّرَاتِ الشَّلَّالِ الثاني، وهي تَتْبَع مساقطَ الماء
المتعاقبةَ في العَطْفَة الكبرى، ثم تَتْبَع العطفةَ الصحراويةَ الصفراءَ العظيمة التي
هي على
شكل S؛ وذلك لأنها تَجِدُ على طول النيل فقط ما تحتاج إليه في
طَيَرَانها إلى مَدًى بعيد من الجَنوب، وتَجِدُ الخطاطيفُ المهاجرةُ في الخرطوم، حيث
يأتي أكثر
الأخويْن نَفْرَةً ورجولةً بأمواجه الصاخبة من الجنوب الشرقيِّ، جنةَ الطيور الثانيةَ
التي
تَعْقُبُ جنةَ الدِّلتا.
ويظلُّ مُعْظَمُ الخطاطيف هنا حيث جميعُ ما حَلَم به في الشمال، ويستأنف بعض الجَوَّالَةِ
منها طريقَه يومًا بعد يوم إلى ما وراء السُّهْب الأصفر. وهنالك تُبصِر على الصخر السُّمْر
تماسيحَ ساكنةً تحت شمس الجَنوب، ويُبْصَر خروجُ الأسد مساءً من الأَجَمَة متوجِّهًا
إلى النهر،
وهنالك تَبْدَأُ المناقعُ ويَغِيضُ الماء وتَكْثُرُ القَنَوَات ويبدو منظرٌ منقطعُ النظير
لتلك
المهاجرة من الشمال، يَبْدُو الفيلُ مع أنثاه وصِغَارِه ذاتَ صباحٍ ذاهبًا بَطَّالًا
نحو النيل،
وتُذْعَر جماعة السياح تلك فتطير إلى الجَنوب.
وتلوح بحيراتٌ كبيرة في هذه المرة، ويَبْرُز بلدٌ غنيٌّ رطيبٌ دائمُ الخضرة، ويتحولُ
السهل
العريض إلى جنة واسعة كما في الدِّلتا، ويُنْمِي السماءُ الماطر ويُزْهِر ما لا حدَّ
له من
النبات فتَجِدُ الخطاطيفُ مرعًى أمينًا دائمًا وتَحُومُ ذاتَ صباحٍ مغرِّدةً فوق مساقطِ
ماءٍ
كبيرة. ويَظْهَر فَمٌ ورديٌّ عظيمٌ مفتوحٌ ويَخْرُج ماءٌ صُعُدًا من مَنْخَر بقرِ ماءٍ
متثائب
مِكْسَال مع رأسٍ مرفوعٍ فوق الماء ذي خُوَارٍ وصُفَار، ويَدِبُّ الفَزع في الخطاطيف
فتلجأُ إلى
غَيْضَةٍ، وهي تَسْمَع وتَرْقُب مرتجفةً، فعند أرجلها يُولَد النيل.
والنهرُ يُظْهِرُ نفسَه بهدير.