الفصل الثالث عشر
يَقِفُ أولئك الناس كالطيور، ويُكَيِّف أولئك الناس أنفسَهم منذ قرون وَفْقَ مقتضيات
المحيط
كطيور الغدير، وأولئك الناس كاللقالق
١ صغار الرءوس نِحَاف الأعضاء طويلو الأفخاذ فَيَظَلُّون عدة ساعاتٍ وقوفًا في
البطائح منفردين واضعين فخذًا على ركبة الفخذ الأخرى.
ومن هو الزِّنجيُّ؟ أو يمكن أن يُسأل: من هو الرجل الأبيض؟ تَجِد لأخلاق الشعوب والعروق
السود من الأشكال والأنواع كما لجلودهم التي تترجح ألوانها بين القطرانيِّ ولون القهوة
مع
اللبن، ويلوح — مع ذلك — أنه يمكن أن يُعَيَّن الفارقُ بين السُّودِ والبِيض على ضِفاف
النيل،
والزنجيُّ الوثنيُّ في النيل الأعلى هو الذي يَصلُح لهذا البحث، والزنجيُّ الوثني على
ما كان من
اتصاله بالسُّيَّاح والفاتحين من البيض حَافَظَ على توحشٍ لم يحافِظ عليه، بالقُرب من
خطِّ
الاستواء، زنجي أوغندة المتمدن منذ قرون، ويوجد حول النيل وروافده، وبين الدرجة الثانية
والدرجة
الثانيةَ عشرةَ من العَرْض، وفي بلدٍ تزيد مساحته على مساحة فرنسة، شَعبٌ مؤلفٌ من ملايينَ
كثيرةٍ احتفظ ببعض الخطوط الأساسية التي لم تَقدِر على محوها الملاحة ولا الإدارة ولا
التبشير
ولا النِّخاسة أيضًا، وتوجد هذه الخطوط بفعل الزمن في العالم بأسره، ولدى جميع زُمَر
الإنسان
المتماثلة لونًا، كما تُوجَد حروفٌ ورسومٌ منقوشةٌ في أصل كلِّ حضارة.
وتُرَدُّ القبائل التي نعالج أمرها إلى أرومةِ زنوج السودان النيلية؛ أي إلى العرق
الخِلاسِيِّ،
٢ وتلك القبائلُ هي اللُّورِي والمادي والباري بين الدرجتين الثانية والسادسة؛ أي بين
بحيرة ألبِرت وأولِ المناقع، والدِّنْكا والنُّوير والشِّلُّك في مجرى النهر التحتانيِّ
وحول
الدرجة الثانيةَ عشرةَ ونحو كُوسْتِي.
ويكشف لنا جميع أولئك الوثنيين — الذين هم أخلاطٌ أملاطٌ
٣ متحلِّلون بُسَطاء مع قليل تأملٍ وكثيرِ انفعالٍ، عما في الطبيعة الإنسانية من
نواحٍ صالحة ونواحٍ طالحة، وتلك هي غابةُ الروح البكر التي لم يَشُقَّها ولم يَعزِقها
٤ حديد الحضارة في غضون القرون، وفي هذه الغابة البكر الخالصة تنمو المشاعر الفطرية
تحت الشمس والغيث، وبين السماء والسهب والنهر، وضمنَ حرارةٍ شديدة كالتي يتطلَّبها النبات،
فتتعاون وتتنازع مثله، وتبدو الغرائز البشرية أعظمَ وضوحًا، وتظهر الأصوات أكثرَ حياة
وبروزًا
مما لدى البيض الذين اتفق لها عندهم صَقْلٌ غير قليل، وذلك هو الرجل الفردوسي المندفع
الخَلِيُّ
المتصلِّب السائر عن رغبةٍ ساذجة وعن أَثَرَةٍ والشاعر بقدرته، والذي لا يَرُدُّ جماحه
غيرُ
خَشْيَةِ الأرواح ورئيس القبيلة، وهذا إلى ما لا تقصُّه أساطير البيض من عطفٍ وكرمٍ يوحيان
إليه
بمحبة القريب.
قال العارف بأحوال أهل النيل أحسنَ من سواه بيكر: «أجل، إن الزنجيَّ غير صالح، ولكنه
ليس من
السوء ما يكون به الأبيض في أحوالٍ مماثلة. أجل، إن الشهوات الملازمة للطبيعة البشرية
هي التي
توجِّهه، ولكنه عاطلٌ من عيوبنا التي لا تطاق. أجل، إن القويَّ يسلب الضعيف والقبائل
تقتتل،
ولكن أترى الأمر غير هذا في أوروبة؟ أجل، يستعبد بعضهم بعضًا، ولكن منذ كم عَدَلْنا وعدل
الأمريكيون عن امتلاك العبيد؟ أجل، إن الزنوج ناكرو الجميل مثلنا في أوروبة وإن الزنوج
غَدَرَةٌ
كَذَبَةٌ، ولكنْ أترى الفضيلةَ سائدةً لأوروبة؟ أجل، إنهم أكفاؤنا بدنًا، ولكن لِمَ لا
نرفعهم
إلى مستوانا ذِهْنًا؟ ولدى الزنجيِّ الصغير ما ليس عند أولادنا من سرعة الفهم، ثم يغدو
أرعنَ
بليدًا، شأن الفِلْو
٥ الذي لا يُرَوَّض.»
وكما أن الرجل لا يخسر طُهره بالحقيقة، عن عرفانٍ بالجنس الآخر، بل عن علم بالمال،
يُسفِر
حُبُّ الربح والبخل عن حرمان الزنجي الغني بساطته، والأسودُ ولوعٌ باللعب منذ أيام الصبا
فيَلعَب بالحَصباء
٦ على الرمل، ثم يبدو وَلُوعًا بماشيته وكُوخه وحريته، ولكن مع بقاء مَرَحه. والرجل —
قويًّا كان أو غنيًّا — لا يَلعَبُ بالحَصَى ولا يَرقُص ولا يَضَع قرونَ العفاريت على
رأسه، وهو
وحيدٌ حَذِر خبيث مُحِبٌّ للانتقام، وهو حريصٌ يخاف القَتَلة كالطاغية الأبيض، غير أنه
لا يُعطي
القساوسة — ولا الأساتذةَ الذين يُكلَّفون بإثبات أهدافه القومية — شيئًا، ورئيسُ القبيلة
هو
كالطاغية في الغالب، فلا يزيد عن العبد ثقافةً، وهو على العموم لا يمتاز من هذا بغير
فنِّ
الكلام.
وكل واحد يود أن يكون رئيسًا لمثل الأسباب التي تُسَاوِر البيض، فإلى الرئيس تُقدَّم
الجِعَة كما يريد، وإليه يُقدَّم بعد الصيد أطيبُ قطعةٍ من الصَّدر وجلدُ نمر، ونابُ
فيلٍ على
الخصوص، وهو إذا ما ارتحل أُخلي له كوخٌ أينما حلَّ، وتبدو بليَّة الغِنَى حتى في هذه
المرحلة
التي هي أدنى دَرَكات نزاع الطبقات، والغَنِيُّ أي الملك، عاجزٌ عن التمتع بكل ما يملك،
وهو لا
ينفكُّ يبذل جهده في خدع الموت بتوريث سلطانه، وهو إذ كان كثير الأزواج عن طَمَعٍ حَمْلًا
للعمل
وَفْقَ فائدته وعن جهلٍ لمذهب ملتوس،
٧ وهو إذ كان ذا ولدٍ كثير، تراه يؤدِّي إلى قتل الأخ لأخيه بين ورثته، والأُسَر
تتذابح والقبائل تتقاتل وُصولًا إلى مرور بضع مئات من الأنعام
٨ من قريةٍ إلى أخرى، ومما وَرَدَ في تاريخ النيام نيام الذين هم من أَكَلَة لحوم
البشر ذِكْرُ رئيسٍ قَتَلَ الغَنْبَارِي ستةَ إخوةٍ له وذِكْر رئيسٍ آخر كان له من الحفدة
واحدٌ
وعشرون بعد المائة.
ووَجَدَ أبناء أولئك الملوك وحَفَدَتهم، وصانعو المطر أيضًا، صيغةً مهذبة لكي يتخلَّص
منهم،
وهي أن الملك إذا ما أصيب بصداع أو مغصٍ أعلنوا أنه من سُمُوِّ المقام ما لا ينبغي أن
يمرض معه
وقتلوه، وإذا ما دافع الملك عن حياته وحاول أبناءٌ وحَفَدَةٌ له أن يحموه عَرَّضَ هؤلاء
أنفسهم
للذبح، وزنوج النيل ألفوا
٩ رمزًا صالحًا للسلم، وهو أن يَخدِش كلٌّ من الأميرين ذراعَه، وأن يمتصَّ كلٌّ منهما
دمَ الآخر كما كان الألمان يصنعون.
وفي مثل هذه الفوضى التي يلطِّفها الرقُّ وحده ترى عَيْشَ الراعي أسهلَ من عيش الفلاح
الذي
لا يَدرِي هل يحصد ما بذر، وهكذا تُبصر مناحيَ البدويين الشيوعيةَ تستحوذ على قومٍ مزارعين
أيضًا، ويُعَدُّ أولئك من بعض الوجوه عبيدًا لا مال لهم ولا حقوق، وهم يمثِّلون دورًا
كجماعةٍ —
مع ذلك — لكون المراعي والصيد أمورًا خاصةً بالجميع، ومتى ذهب أهل القرية للبحث عن أرض
بكرٍ
فيما وراء السهب تألَّف ضَرْبٌ من القطاع تحت سلطان الملك وخارجًا عنه كما في عهد قياصرة
روسية.
وأَكَلَة لحم البشر هم الأكثر تمدنًا، وهذا الأمر الذي يثير الهواجس فينا هو من تحقيق
الرواد في الكونغو ولدى القَرَايِب، وللنِّيام نيام في الجنوب الغربيِّ من بحر الغزال
وجهٌ
مدوَّرٌ وعيونٌ كبيرة متباعدة وأهدابٌ متكاثفة وأنوفٌ مستقيمة وأفواهٌ صغيرةٌ وشفاه غليظة.
وهؤلاء السود الذين يَعُدُّهم جيرانهم من النُّهَماء هم من الصيادين الذين لا يمسون أيَّ
حيوانٍ
أهليٍّ كان، وهم يرغبون في لحم الحيوانات البرية فيشوي كل واحدٍ منهم حِصَّته على ناره
الخاصة
كخبيرٍ يريد أن يَشبَع، ويُحسَب هؤلاء خَيْرَ حمالي تلك المنطقة، ويصوِّرون بالمَغَرَة
١٠ أزهارًا ونجومًا على أجسامهم ويجدِّدون هذا الدهان مرةً في كلِّ يومين، ولهم نظامٌ
من أقدم النظم، وتراهم كثيري الاكتراث لأوروبة، ويتصفون بوقارٍ طبيعي وبصدق العلاقة ويشتهرون
بالقِرَى.
والملك يستقبل الغريبَ في بيت أبيه المتوفَّى ويضع على قدميه حزمة رماحٍ كتحيةٍ من
الميت
ويدعوه إلى مائدته ولا يذبحه أبدًا، والنِّيام نيام يُكرِمون الأمَّ الوَلُود ويحترمون
الموتى،
ويفرضون عقوباتٍ شديدةً على السارقين ويقطعون بَنَانَ
١١ الزوجة الزانية، وثلاثًا من سُلَامَيَاتِ
١٢ من يُغْوِي بكرًا، وطبائع أكَلَة لحم البشر أولئك دقيقةٌ، فلا يُدركون السبب في أنه
لا يَحِقُّ لهم أن يأكلوا رجلًا حَكَمَ عليه عَرَّافٌ بالموت أو عدوًّا مقهورًا، كما
أنهم لا
يُدرِكون السبب في أنه لا ينبغي لهم أن يقدِّموا إلى ضيفهم رِجْلًا بشريةً مسلوقةً مع
توابلَ
وفطاير.
وقال الفِرغُوم لرائدٍ إنكليزيٍّ، والفِرغوُم أَكَلَةُ لحوم البشر في أفريقية الغربية:
«النانغ في كلِّ موضع، هو فينا وفيك، هو الروح الخفية التي تنتقل بعد الموت إلى حيوانٍ
لنا، لا
إلى إنسان، نحن لا نَذْبَح بقرة، ولكننا إذا ما أكلنا إنسانًا لم يكن هنالك ما نخشاه
من أكل
نانغِنا الخاصِّ.»
ولِمَ نلوم أناسًا ذلك مدى ذوقهم وكرامتهم على قسوتهم؟ أفلم يكن أكل عدوٍّ أكثرَ ملاءمةً
للطبيعة من أكل دجاج أو خنزيرٍ مدة سنوات؟ ألا تبقى حيةً تلك المناظر في أخيلة هؤلاء
النصارى
الحاقدين الذين تَحُول العادات الحاضرة وحدها دون افتراسهم من يؤدِّي تعذيبُهم إلى تمتعهم
بأعظم
اللذات في الزمن الراهن؟