الفصل الرابع عشر
لم تكد عاداتُ زنوج النيل تتغيَّر مع الاتصال بالبيض والأحباش، وبتلك العاداتِ نَنْفُذُ في غابة المشاعر البشرية البكر، ومن غير استبعادٍ لتناقضها باسم الأخلاق نرى هذا التناقضَ هو من تَعَذُّر التفسير كالتناقض في أخلاق الإنسان الأبيض.
وهذه هي عادةٌ لا يُوصَى البيض بها كثيرًا، وهنا تُبصِر السودَ أعلى ذوقًا من البيض، فبينما ترى نساء الوجهاء من البيض في أوروبة يفعلن ما يُرِدْنَ تبصر الزنوج — حتى ذوات الأخلاق الهيِّنة من قبائلهم — لا ينظرون بعين التسامح إلى من يَكُنَّ غير وفيَّاتٍ من أزواج الرؤساء وذوي الجاه منهم.
ويَحمِل الشِّلُّك بعد وضع الولد الأول نساءهم على بيان أسماء مَنْ كانوا يعاشرونهن، فيُلزَم كلُّ عاشقٍ بتقديم بقرةٍ إلى الزوج تكفيرًا عن خطاياه وحلًّا جديدًا للشرفِ الجنسيِّ، وإذا كان للمرأة عدة عشاقٍ وكانت جريئةً أخذت قبضةً من التراب ونَثَرَتْها في الهواء وقالت صارخةً: «هذا هو عدد مَنْ كان منهم.» وهنالك يَشْتِمُ الزوج أمَّها معاقبًا على سوء تربيتها لها.
ولم يُحدِّثهم ليفينغستن عن المنقد قَطُّ، بل كان يحدثهم — فقط — عن الأب القادر الذي يجعل جميعَ الناس إخوانًا، وقد أراهم ساعته وبوصلَته بدلًا من أن يعلِّمهم أساطيرَ غريبةً، ومن قوله: «لا يؤثَّر في السود بالبنادق والآلات البخارية، بل يؤثَّر فيهم بدوام اللطف والإحسان، ويؤثَّر بذلك في بعضهم وحدَه مع ذلك.»
ومن النادر أن كان يجازيهم، وما كان يوحي إليهم باحتياجات جديدة، ومن نتائج تَحْبِيبه نفسه إليهم جعلُهم نصارى، ولم تكن رسالته التي أملاها فؤادُه عليه ضارَّةً كرسالة أناسٍ كثيرين متعطِّشين إلى الذهب والسلطان عن غير شعورٍ أحيانًا، ولِمَ أجمع جميعُ العارفين بالسود على الارتياب من المبشرين؟ وأولئك أناسٌ يجهلون الكتب والصُّوَر، ولا يكادون يَحُوزُون بضعةَ أفكارٍ دينية انتقلت إليهم من آبائهم، وعلى أولئك أن يؤمنوا بإلهِ البِيض رفعًا لثمن القطن ولسندات مصانع القطن، وكان ليفينغستن خاليًا من التعصب وروح التجارة، فكان يعامل الزنوج كما يعامل الأولاد، وكان ليفينغستن يستند إلى الخرافة بدلًا من مكافحتها لِمَا أبصره من كونها مصدرَ سرورهم كما في كلِّ مكان.
ويعتقد البارِي أن كثيرًا من الأموات يتحوَّل إلى أنمار، ومن الزنوج أناسٌ لا يُطلقون النار على بعض الضباع ليلًا معتقدين أنها تكتسب شكلًا بشريًّا في النهار، وتلك القبائل — كمعظم الوحوش — تخشى الأرواح الشرِّيرة التي توجب المرض والموت والعاصفة والجَدْب، ولكنها لا تعرف الأرواح الطيبة، وليس لتلك القبائل أصنامٌ كما في أفريقية الغربية، ولكنهم يَنحِتون أحيانًا آلهةً بيتية لهم من خشب، وهم يسمون السعادة والشقاء لوُمَا وإن شئت فقل القَدَرَ الذي يُعزَى إلى سبب خارجيٍّ. فيقولون «لوما أمرضه»، أو يقولون عن الصائد عند عودته صفرَ اليد: «لم يكن له لوما.»
ويحتاج الهمجي — الذي هو عرضةٌ للعناصر والمرض أكثرَ منا — إلى ساحر يَعزُو إليه كلَّ قدرة ويَرجِع إليه في كلِّ حال. وصانع المطر هو طاغيةٌ مدبِّر أو مُرهِبٌ لرئيس القبيلة كما يشاء، وهو يهدِّده بالجوع والجدب والحرب نَيلَا لجُعلٍ أجزلَ من قبل، وهو يُرقِص الجمهور، ويقدِّم إليه جِعَةً، وهو يرأس العُرُوض الرسمية حيث ينضج بالدم بعضَ الحجارة السحرية، وهو يَفتِن ببيانه، وهو قد يقول الصدق في حَضرة صانعي المطر الآخرين، ومما قاله أحدُ هؤلاء لبيكر: «ولا يَعِنُّ لي أن أصنع مطرًا قبل أن يُعطوني حبوبًا ومعزًا ودجاجًا، وهم قد هدَّدُوني بالقتل. والآن لن تنزل قطرة ماءٍ على أوبُّو، وسأجفِّف حصادهم وسأسلِّط الوباء على قِطَاعهم.» وهكذا يُبَاهِي الساحر الزنجيُّ بقدرةٍ لا يؤمن بها، ولكنك تجد بين السود أناسًا يمجِّدونه ولو تخلصوا منه كما تَجِدُ شعوبًا بيضًا يشابهونهم، فإذا حدث أن المادي حرقوا صانع مطرهم جمعوا ما يسيل من شَحْمِه ليكون علاجًا لجروحهم.
وشُبِّهَ السود بالأولاد، والسُّود على شواطئ النيل أولادٌ فَرحَى مَرحَى تُسْفِر سذاجتهم الكلبيَّة عن قسوةٍ في بعض الأحيان. نعم، يُمكِن الزنجيَّ أن يَقتُل خصمَه في سَوْرَة غضبٍ، ولكنه يَجهَل الخُبثَ وكلَّ شيءٍ يُسَوِّد حياة البيض، ولا يَحفِزه الحقد والحرص والحسد وحُبُّ الذهب إلى الإجرام، ورؤساء القبائل وحدهم هم الذين تُساوِرهم هذه المشاعر، فهم كبعض رؤساء البيض يُثِيرون في نفوس رعاياهم روح الانتقام والحقد ضدَّ القبائل الأخرى فيدفعونهم إلى الحرب والموت.
وسهل الرِّقُّ الذي يعانيه فريقٌ من الناس ذلك العملَ، والعمل لا يقوم به النساء وحدهن، بل يقوم به أيضًا أسرى الحرب ومن ألَمَّ بهم الفقر، ولا تَجِدُ بين السود فروقًا مُوغِرة لفقدان الملاذِّ الغالية والثياب الفاخرة والبيوت والأغذية الأنيقة تقريبًا ولِمَا لا يبدو به أحدٌ أكثر مما هو عليه خلافًا للبيض، وعلى الأبيض يتوقف الربحُ والخسران، والزِّنجيُّ — لحرمانه حقَّ الكسل — ينال آلاتِ الخياطة والمصابيحَ ورحيق الويسكي مقايضةً، وهذه هي خاتمة حياته النباتية ونهاية سلامة طَوِيَّته، وهو يُفِيق ويسعى ليستقلَّ ويَبتغي وجهًا آخر من الحرية؛ أي حريةً ظاهرةً كالتي تتمتع بها الأمم المتمدنة، ومن العَبَث في الساعة الحاضرة أن تجعل دولة أوروبية من الزنجي عبدًا، والزنجي يغدو عبدًا للحضارة من تلقاء نفسه.