الفصل الخامس عشر
من ينظر إلى أجسامهم يَعرِف هل هم من الرعاة أو من الفلاحين، والأبيضُ بجانب الفتى
الشِّلُّكي يبدو ثقيلًا بليدًا على الدوام، وارْجِعِ البصر إلى الشلكي تجده يذكِّرك بتمثال
باخوس
١ البرونزي بجماله وإغوائه كمراهقٍ إغريقيٍّ ومدِّه ساقيه الدقيقتين الطويلتين وسكونه
وزهوِه وعُرْيِه ووضعه جلدَ حيوانٍ على كتفيه وجلالِ يديه وشعوره بحسنه، وتَظَلُّ العروق
الجميلة في أفريقية الوسطى كاملةَ العُرْي كرعيان أوغندة، على حين ترى الزُّرَّاع الصغار
والرَّبعاتِ
٢ لابسين ثيابًا ولو كانوا من الفقراء.
وما عند الرعاة — الذين لهم رفعة شأنٍ بصبرهم وخُلُوِّ بالهم — من ظَرْفٍ طبيعي فقد
زاد
بعُرْي القبائل النيلية وبفضولهم الذي يتعقبون به حركاتِ البيض، وهم لا يُشوِّهون أنفسهم
بقَضِيب الفم ولا بحلق الأنف، ولا تجد فيهم حتى وَشْمَ
٣ عشيرتهم، ولخيالهم الطفولي غِنًى في كون شعرهم على شكل المِغفَر،
٤ ولا بد من انقضاء أشهرٍ على اللاتوكيِّ، واللاتوكُ هم أجمل عِرْقٍ على شواطئ النيل
على ما يحتمل، حتى يَصنَعَ مِغفرًا طبيعيًّا من شَعره الجَعْدِ ومن الخيط والقِشر مع
إمساك
مِخَدَّته الضَّخْمة الدنيا بصفائحَ من نحاسٍ وإدماج صَدفٍ وريشِ نَعَامٍ فيه، وهو يُرِي
أسنانه
الجميلة عندما يتأملها أجنبيٌّ مبهوتًا.
وانظروا إلى رئيس العشيرة الذي يُدخِّن تجدوه متخذًا وضعًا خاصًّا، فهو يَضَع مِرفقه
الأيمن
على مُتَّكَأٍ ويقعد الأُربُعاء،
٥ وهو يمسك قصبة غَليُونه بيده اليسرى ويتنفَّس طويلًا، ثم يسلِّم الغليون إلى العبد
عن خُيَلَاء ويردُّ الدُّخَان إلى أسنانه رويدًا رويدًا في نهاية الأمر.
وما لنا بالملوك حاجةٌ، ولنا بالرُّعاة مَظهرٌ لا يُوجَدُ في غير أفريقية، وتُبصِر
من
الدِّنكا فِتيانًا عُراةً ظِرَافًا كالأوعال التي يَلبَسون جُلودها معلَّقةً على أكتافهم،
غِيدًا
٦ كالفهود التي يقتلونها، غير مُبْدِين هنالك حراكًا تقريبًا، ويقدِّم الأصغر إلى
الأكبر سيغارةً لا يعرف مأتاها، ويمد الآخر يده إلى هذا العشب السحري المشتهى كثيرًا
بسهولة
مترهِّلة كالتي ترى في صور الفراعنة المنقوشة على الجدر، وتُبصِر في الخلف آخَرَ لابسًا
جلدًا
مدبوغًا بلونٍ أحمر، كما لو كان مدَّثِرًا برداء إغريقيٍّ، متوكِّئًا على عصًا طولها
ثلاثة
أمتارٍ منتظرًا صامتًا، ويُوحِي وَضعُ هؤلاء الثلاثة بوضع جمعٍ من النبلاء الذين لا يَرفعون
أيديَهم للعمل، بل للصيد إذا ما هُدِّدُوا أو جاعوا موجِّهين ضربةً رجولية.
وهم إذ كانوا لا يعرفون الحياء يبدون أبدانهم دومًا ويباهون بذلك كما يباهي الأبيض
بثيابه،
بيد أنهم لا يهدفون أبدًا إلى أن يكونوا أقل سوادًا، ويترجح لونهم بين سواد القطران وسمرة
الحديد، وترى منهم من هم بلون الشكلاتة والقهوة وتبغ الهوانة
٧ ومن هم صُفرُ الجلود، ومن القبائل عددٌ قليلٌ يدَّهِن بالرماد أو بالمغرة فلا يُحسن
الدَّهْن، وهم يَمِيلون إلى الجماجم المستطيلة فيَضغَط ملوكهم رءوس أولادهم ويحيطونها
بالعصائب
وصولًا إلى هذه الغاية، ومن الأمور الكريهة وِشَامُهم؛
٨ أي سمات عشيرتهم أو علامات شجاعتهم التي تُذكِّر بأنداب
٩ طُلَّاب الألمان، وتفاخر النساء بأنهن خُطِّطن بحديدٍ حامٍ ليكون ذلك آيةً على
لواعج الحبِّ، ولا يَحمِل الزنوج قلائدَ من غير أسنان ما ذَبَحوه من الحيوانات، وهم يسخرون
من
البِيض الذين يَشرُون منهم هذه القلائدَ أو قواريَ
١٠ رماح.
وهم يفوقون البيض بسالةً ووقارًا ومهارةً في الصيد أيضًا، وهم قلما يستعلمون الأسلحة
النارية، وعليهم، إذن، أن يكافحوا كفاح حياةٍ وموتٍ ضد الأسد والنمر وضد الحيوانات الثلاثة
التي
هي من حيوان ما قبل الطوفان، وهنالك لا يزال الصيد، الذي خفض الأبيض منزلته بجعله رياضةً
بلا
خطر، كما كان في أزمنة ما قبل التاريخ، وهم يحفرون قعورًا يقع فيها الكركدن، وهم لكي
يصموه يرون
مهاجمته من الأعلى بالرمح أو من القرب بالسيف، والنار والضوضاء مما يبعد بقر الماء، فيجب
لصيده
أن يُرمى بالكلاليب والنبال، وهم يخافون التمساح ويمقتونه أكثر من مقتهم الضواري لما
يوجبه من
جذب الحيوانات والآدميين إلى النهر، وهم يتغلبون عليه بالخطاطيف
١١ وبمجموعةٍ من الخيوط كما في مصر قديمًا، ومن الزورق، على العموم، يصيبه الصائد
بضربةٍ مميتة؛ أي بضربة سهمٍ في ظهره تعد دليلًا على شجاعةٍ لا تُقاوم، وهم بعد القنص
يتهافتون
على العدو الميت تهافت الوحوش، ويقطعون هذا الصيد
١٢ إربًا إربًا بأسنانهم كأنهم ينتقمون منه للمرة الأخيرة.
ولا يُبدي معظم هذه القبائل كبير حماسةٍ في اصطياد الفيل، ومما يحدث أحيانًا أن يوقدوا
غاباتٍ بأجمعها فتحترق إناث الفيل وصغارها، وإذ إن الفيل لا يهاجم الإنسان أبدًا، وإذ
إن
الأراضي المزروعة في هذا العرض قليلةٌ فلا يستطيع أن يعيث هنا كما يفعل في أوغندة، فإنه
لا يقتل
عن حقد، ولا عن انتقامٍ، بل عن طمع رئيسٍ في العاج إرضاءً لمحبي النفائس من المتمدنين.
ولا مناص لهم من الاستعداد المستمر لمكافحة الضواري، ومن ثم كان إبداؤهم ما عندهم
من براعةٍ
في صنع السلاح، فاخترعوا سهامًا مسننة لأقواسهم البالغة من العلو مترًا ونصف متر، ولديهم
رماحٌ
مذربة، وهم ينتفعون بلبن نوعٍ من اليتوع
١٣ في سم نبالهم.
والمرأة لدى جميع القبائل هي دون الرجل جمالًا وقوامًا وذكاءً، والمرأة عند هؤلاء
السود
ليست غير آلة للعمل من دون دلال، ولا يبالي كلا الجنسين بالهندام أو بالأناقة، ومع ذلك
لا تجد
سوى نساءٍ يشوهن شفاههن بمخاصر
١٤ أو عقاص،
١٥ ومع ذلك لا يسوغ للأوروبية التي تنزع أهدابها وحاجبيها أن تهزأ بما تزين بها أختها
الزنجية من الوشم ومن زرافين
١٦ الحديد، والحب هنالك أكثر ملاءمةً للأخلاق مما عند البيض؛ وذلك لأن الفتاة تختار
الرجل؛ لأنه يروقها، لا لأنه غنيٌّ، واللوري يدعون الفتاة وحدها في خيمةٍ مع الفتى الذي
ترغب
فيه بعد أن يصبح ثدياها بمقدار جمع كفها، فإذا أضحت الفتاة حاملًا حُمل الفتى على ابتياعها،
والفتاة عند الباري لا تعرف زوجها إلا يوم الزواج، والأم تدخل الكوخ في أثناء مأدبة العرس
وتسأل
الرجل عن سروره بالمرأة فيبلع ذلك بصراخ ينم على الارتياح.
وحشمة نساء السود أسمى من حشمة نساء البيض اللاتي لا تمنعهن السن من كشف أعناقهن،
والفتيات
وحدهن هي اللائي يظهرن عارياتٍ على ضفاف النيل الأعلى وعند معظم القبائل، وتلبس المرأة
البارية
وزرةً بعد أن تضع ولدها الأول، وهنالك نسوةٌ أخر يضعن خلفهن ذنبًا من خرزٍ أو طاقةً من
أوراقٍ
غضة تغير كل يوم، والعرب يدعون نساء الجور بالمذنبات لوضعهن على سترتهن ذنبًا من أهداب
الجلد
الناعمة، وإذا كانت المرأة عاقرًا أمكن طلاقها واسترداد مهرها، ويحق للمرأة في كثير من
القبائل
أن تترك بعلها عند وجود معايب كبيرةٍ فيه.
وإذ تمثل المرأة رأس مالٍ تتجلى فوائده في عملٍ يمكن بيع ثمراته فإنها تعدل لدى الزنجي
على
ضفاف النيل سندًا تجاريًّا عند الأبيض تقريبًا، وإذا ما زوج الرجل عشر بناتٍ ولدن من
امرأةٍ
واحدة نال مائة بقرةٍ يحفظها أولاده الآخرون، ولذا يرحب الباري بالبنت أكثر مما بالابن،
والباري يتطيرون
١٧ من التوائم فيعدونها ذريعةً للطلاق.