الفصل السادس عشر
يقطن المُرَّاد
١ في المناقع، وهم لا يَبعدون من الأقزام أكثرَ من بعد نِيُويُورك من وَشِنغتُن أو
بعد زُورِيخَ من مِيلَان، وهم يَظهرون على ضفة النيل اليسرى بالقرب من بحر الغزال، ويَنزِلون
على الضِّفة اليمنى حتى الدرجةِ الثانيةَ عشرةَ، ولكن المستنقع وحدَه هو الذي يجعل لوجودهم
معنى، وكما أن أقزام رُوِنْزُورِي قَصُرُوا بعيشهم تحت دَوْحِ الأيكة البِكر منذ مئات
السنين
أصبح الدِّنْكا الذين هم سكانُ تلك البلاد الأولون أطولَ رجال الأرض بعَيْشهم كاللقالق
في
الضحاضح وعلى رءوس الغُدْران، وبينما ترى أولئك لا يزيدون طولًا على مترٍ وثلاثين سنتيمترًا
يبلغ الدِّنْكِيُّ من الطول مترين، ويُقَدَّر مُعَدَّل الطول المتوسط لدى الدِّنكا بمترٍ
وتسعين
سنتيمترًا، وإذا نظرت إلى هذه القامة مع استواء أرجلهم وامتداد أعقابهم
٢ وأعناقهم أبصرتَ درجةَ تماثل أحوال العيش وتقاربها في الإنسان والحيوان، وقد يُرَى
البحث هنا عن مصدر الأسطورة الأُوميريَّة حول اصطراع الطِّوَال والأقزام.
ويظل الواحدُ منهم ساعاتٍ بأسرِها واقفًا على إحدى ساقيه اللتين لا حَمَاةَ
٣ فيهما، وذلك مع وضع الساق الأخرى فوق رُكبة تلك الساق وعَقدِها بها، وذلك مع
استنادٍ إلى مِنْسَأةٍ،
٤ ومع عَطَلٍ من شَرَكٍ وشَبَك، ومع بُعدٍ من مواشيهم.
وهم أيقاظٌ غيرُ رُقُودٍ، وهم يَرقُبُون ماذا يَقَعُ بلا حركةٍ ولا بغية ولا فِكرَة
ولا
رَغْبَة ولا كبيرِ عاطفةٍ في الظاهر، وهم يُرَوْنَ فوق ذلك السِّماط المائيِّ الواسع
من فراسخَ
بعيدةٍ، فيبدو تضادٌّ دائمٌ بينهم وبين الأقزام الذين يعيشون كالنمل على مُنحَدَرَات
البراكين
حَذِرين خافين فاعلين مترقبين، وفيما هم يشابهون البلاشينَ بنُحُولهم واستواء ظهورهم
ودقة
قاماتهم واستطالة جماجمهم وانحناء أنوفهم ورقة شفاههم ولُطْف مفاصلهم يُذكِّرنا الأقزام
بالمناجذ.
٥
ونحافتُهم سببُ ظهورهم أكثرَ طُولًا، وهي تناسب كَسَلَهُم الذي لا يَعْدِله كسلُ شعبٍ
آخر،
وهم لكسلهم يفضِّلون تناول حَسَاءٍ من كلأ على إتعاب أنفسهم بصيد السمك، حتى إن النُّوَيْر
الذين هم أشدُّهم كسلًا لا يَدفِنُون موتاهم، ويحاول البيض مكافحة هذه السَّجيَّة باسم
الأخلاق
ظاهرًا، وعن احتياجٍ إلى عملهم باطنًا، راجين أن يَحمِلَهم الذُّباب الذي يُهلِك قِطَاعهم
على
تعاطي الزراعة. والحق أن الأراضي الخصيبة هنالك هي من الاتساع الكبير ما يمكن تحويلها
إلى أراضٍ
صالحة للفلاحة «لو انتهى الزنجي إلى تقدير قيمة العمل»، ولكن الحاجة إلى الذراع تَقِلُّ
في
العالم بأجمعه، ولكن الدِّنْكا يكونون من أصحاب الحظِّ إذا ما فروا من تلك التصاريف واستمروا
على عيشهم الفردوسيِّ الذي نَفَرَ منه إخوانهم حديثًا بعد ألوف السنين.
وأكثرُ الدنكا من الرعاة ومن الذين يُعنَون بتربية المواشي، فتَجِدُ لأفقرهم أربع
بقراتٍ
وتجد لأغناهم ألف بقرةٍ. ومن القِطَاع ما يشتمل الواحدُ منها على ثلاثة آلافٍ من النَّعَم،
٦ والبقرُ يقدَّس له، والبقر يُعبَد، وهذا أفضل من عبادة البيض للعجل الذهبي، ويُوصَل
الحيوان الذي يتقدم القطيعَ بدعاءٍ في الصباح، وتلك بقراتٌ جميلةٌ سُمرٌ نَيِّرةٌ قصيرةُ
القرون
ذات حَدَبٍ كبير، وهي تُزَيَّن بالأزهار أيامَ الأعياد، وهي تُرَشُّ بالماء وقت الحلب
حفظًا لها
من الذُّبَاب، وهي تُحْفَظ ليلًا بين سِيَاجاتٍ شائكةٍ أو بين يَتُوعاتٍ حمايةً لها من
الآساد.
وينام الرجل بجانب فرائه
٧ المفضل الذي يَفصِده بقارِيَته
٨ مرةً واحدة في كل شهر، وقد استغلَّ النخاسون هذه العاطفة نحو الحيوان الذي يقايَض
بالناس، وإذا بحثتَ عن جميع الحَمَلات وجميع الحروب في ذلك البلد وجدت سرقة الحيوانات
سببًا
لها، والسرقة تملأ أقاصيص الدِّنْكا وأساطيرهم، والدنكا يؤمنون بالبقر المقدس الذي يحفظه
غُولُ
النيل والذي يَرعَى ليلًا مقرونًا بأوتادٍ عندما يَستُر الضَّباب ضِفاف النهر.
وإذا كان الموسم جافًّا وارتُمَّ
٩ ما على السهب نُقِلَت الماشية من ضفة النيل اليمنى إلى ضفته اليسرى، ويظل النساء
والأولاد في هذه الناحية من النهر في أكواخهم الخفيفة، ويَعبُر الرجال نهرَ النيل في
سوق
مُجوَّفةٍ من الشجر جارِّين وراءهم عجالًا
١٠ مربوطةً بحبال، وما يَصدُر عن هذه العِجَال من خُوَار هَوْلٍ فيَحمِل أُمَّاتِها
على اتباعها سابحةً فتلحق الثيران هذه الأُمَّات، ويُنقَلُ الضأن في زوارقَ، فترافق الكلاب
القطيعَ عائمةً مع ما في هذا من خَطَر، ويتمُّ انتقال كلِّ أسرةٍ في يومين، وفي تلك الأثناء
يقف
الساحر على شَفير
١١ الوادي معزِّمًا
١٢ على التماسيح التي لا تَفُوتُها غنيمةٌ مع ذلك.
وللدنكا بضعة مُخَيَّماتٍ مجاورةٍ لإخوانهم النيام نيام على ضفاف بحر الغزال، وهكذا
تُبصِر
كلًّا من النباتيين وأَكَلَة لحم البشر يَرقُب الآخر ويحتقره؛ وذلك لأن أحد الفريقين
لا يغتذي
من الدُّخْن واللبن وحدهما، كما أن الفريق الآخر لا يغتذي بلحم الإنسان فقط، فما تَحملون
من
حقدٍ على رجل نصف خصمٍ لكم فأكثر من حقدكم على رجلٍ يخاصمكم أشدَّ الخصام، ويهزأ أحدُ
القَبِيلَيْنِ
١٣ ﺑ «البطين»، ويهزأ القَبِيل الآخر ﺑ «الرجال القَصَب»، وذلك للمَنسَأَة التي يحملها
الدِّنكا في كلِّ وقت تقريبًا، وإذا ما واجه رجالُ هذا العِرْق، الذي هو أسود عروق أفريقية
الوسطى مع شَرَاريبهم
١٤ الكريهة الحُمْر ومغافرهم وريش قلانسهم
١٥ وأسنانهم المُشَذَّبة بالمنشار، أَكَلَةَ لحوم البشر الذين هم أكثر تمدنًا منهم
غَدَا رأيُنا في القيم الخُلُقية من المضحكات.
وإذا كان أكلة لحوم البشر يزدرون الدِّنْكا الذين هم وحوشٌ يعبدون البهائم ويَكرَهون
الصيد
ويجهلون آداب السلوك، فإن الدنكا من ناحيتهم يزدرون الجُورَ الذين يُجَهِّزُونهم بالحديد،
والجُورُ يتَّبِعون النيلَ ومناقعَ النيل المتقلبة ومناجمَ الحديد فيَعبُرون ذلك النهرَ
في
الربيع ويَعمُرون البقاع الغامرة، والجور يركمون فحم الغاب والمعدن الخام المحطم في مواقد
ابتدائية، ولدى هؤلاء الحدادين سندانٌ
١٦ من حجر ومدقٌّ حديديٌّ مربع الزوايا عاطلٌ من مقبض وقطعةٌ خشبيةٌ مشقوقةٌ على شكل الكلابة
١٧ فيطرقون بهذه الآلات حديدًا متينًا، وتصنع نساؤهم قراطل
١٨ وسلالًا كما يصنعن قرعًا وقلالًا
١٩ ويقوض مخيم أولئك النور العراة في الغاب إذا ما جمعوا من الحديد ما يكفي لصنع نصالٍ
ونبالٍ وخلاخل وأسورةٍ للدنكا.
وهكذا ترى قبائل السود حول النيل يحاولون رفع قيمتهم بتحاسدهم وازدراء بعضهم بعضًا
كالأوروبيين.