الفصل السابع عشر
وفي أقصى شمال المناقع، ونحو الدرجة العاشرة من العَرض، يمتدُّ هَوْرٌ
١ واسعٌ مماثل للأهوار الأخرى، ولكن من غير أن تُبصَر غايتُه، وذلك الهَور هو بحيرةُ
نو التي هي نقطةُ انطلاقٍ جديدة للنيل، والنيل بذلك يَبلُغ الحدَّ الغربي من مجراه في
الدرجة
الثلاثين من الطول الشرقيِّ التي تُبلَغ مرةً أخرى بالشلال الثالث، وبالقرب من هذه البحيرة
وإلى
هذه البحيرة نفسها تنتهي الروافد الثلاثة التي تعيِّن نظام مياه النيل، ويُرَى مَسِير
النهر في
هذه البحيرة التي يُحدِث فيها عطفةً مباغتة نحو الشرق حيث يداوم على اتجاهه ١٢٠ كيلومترًا
إلى
أن يَبلُغ مَلَاكال فيسلُك سبيله الطبيعيَّ من الجنوب إلى الشمال. وهكذا يلوح أنه يشتدُّ
على
مجراه العاديِّ نَيْلًا للسواعد الثلاث التي تَهَبُ له حياةً جديدة.
ويَتَغَيَّر المنظر رويدًا رويدًا بتغيُّر اتجاه النيل وسجيَّته، والآن تغدو الضِّفاف
أكثرَ
وضوحًا وأعظمَ عَرْضًا عن يَبْسٍ، ويَصِلُ النهر إلى اتساع مائة متر أو يزيد، ويكون النهر
أقلَّ
ازدحامًا بالبرديِّ ويتسع شجرُ السَّنْط مظالَّ، وتتجمع الأكواخ الصغرى المُدَوَّرة على
شكل
قرية، وتَشرَب الماشية الرمادية اللون من النهر وتحافظ عليها كلابٌ صغيرة، ويُدخِّن الدِّنْكا
جامدين بالقرب من النار وينظرون إلى نسائهم اللائي يَسِرن في الوَحَل حتى الرُّكَب ويملأن
جرارهنَّ الزرق من ماءٍ ضارب إلى صفرة، ثم يَحمِلن هذه الجَرَّ
٢ على رءوسهنَّ بجهدٍ ويرجعن إلى القرية فارهاتٍ،
٣ وإذا ما وقف الدنكي على ساقٍ واحدة منفردًا ظهر كالطيور الخوَّاضة التي يقف بعضها
بجانب بعض فوق مستنقع.
ذلك هو منظر المكان الواقع في غرب بحيرة نُو الأقصى حتى يلتقي بحرُ الغزال وبحر الجبل،
وعلى
ما يُعَدُّ به بحر الغزال من روافد النيل تراه عِملاقًا، فيمتدُّ حَوْضه على الدرجة العاشرة
من
العَرْض والدرجة التاسعة من الطُّول وفيما وراء صَحْن البحيرات الاستوائية التي يُولَد
النيل
منها، وكما في تاريخ البشر يَثُور الذهن أحيانًا ضدَّ المبدأ القائل: إن دافع الإتاوة
٤ أقوى من الذي تُؤدَّى إليه، وإذا لم يكن الأقوى غيرَ رافدٍ فإن الذي تكون حيويَّتُه
أعظمَ من سواه هو الذي يظلُّ منصورًا، ويُعاني بحر الغزال مصيرًا مؤثِّرًا، ويكابِد بحر
الغزال
مغامرةً مسرحيةً قبل أن يَدْنُوَ من النيل، وبحر الغزال أكثر ماءً وأشدُّ كفاحًا من كلِّ
نهر في
أوروبة، ويحيا بحر الغزال بسواعده الخاصة وحدها حياةَ نهر كبير، ويُبصِر بحر الغزال عند
انصبابها فيه سَبَاسِبَ
٥ ذات أدواحٍ
٦ ثم يُبْصِر الأيكة الكثيفة البِكرَ حتى الخطِّ الفاصل بين مياه الكونغو، ثم يُبصِر
في مجراه الأدنى اصطراعَ الماء والأرض كما هو أمرُ النيل.
والآن ظَهَرَ أمرُ الأقوى، وعندما يخسر بحر الغزال مجراه واتِّجَاهَهُ وسجيَّتَه وتربكه
الأسداد النباتية وجزر الكلأ والشعب والجداول يُضحِي عرضةً لفوضى المناقع ويُضِيع سلطانَه،
فيترك هنالك ضِعْفَيْ ما يَترك النيل. وبحرُ الغزال بعد أن يغدو عاطلًا من الضِّفاف ويدخل
دورًا
كبيرًا من الانحلال لم يبقَ له غير مضيقٍ فيُلاقيه هذا المضيق الذي قاوم مثلَ تلك المحن
ويَقبَله مترفِّقًا وينتفع به.
ولبحر الزراف الذي يَنصبُّ في النيل بشرق بحيرة نو، وعلى ذلك العرض مغامرتُه أيضًا،
وهو
يَخرُج من مناقعَ واقعةٍ «في مكانٍ ما من مجرى أَوَاي التحتانيِّ» كما يقول الجغرافيون،
وكما
يحدِّثون عن لقيطٍ يَجِدُونه، وتُوحِي أضواجُه في بلدِ الأهوار بالافتراض القائل إنه
تَكَوَّن
في مناقعَ زائلةٍ، وتُوحي شِبَاهُ ضفافه المؤلفة من جذورٍ متراكمة قديمة، وإن شئت فقل
شُعَبه
الممتدة إلى كلِّ ناحيةٍ كشُعَب الرِّية،
٧ وذلك عند النظر إليها من الطائرة، بفكرةٍ عن مرضٍ كريهٍ يَقضم لحم ذلك
البلد.
والسوباط أكثر الثلاثة وقْفًا للنظر، وهو يَصُبُّ في النيل حيث يستردُّ النيلُ مجراه
إلى
الشمال قريبًا من بحر الزراف التحتاني، والسوباط هو الرافد الأول الذي يَحمِل إلى النيل
غِرْيَنَ الحبشة الذي يتجلَّى به شأنه القادم، ويمثِّل السوباط حَوْضًا عظيمًا، وهو لا
يتناول
من هضبة البحيرات الكبيرة غيرَ جزء من مياهه، وهو يَتَلَقَّى بقيةَ مياهه من جبال الحَبَشَة
العالية التي تَبلُغ ذُرَاها الجنوبية الغربية من الرَّوْعَة الشيءَ الكثير على رواية
العارفين
بها، ويَسِير السوباط على غِرَار أنها الحَبَشَة الأخرى المتوجهة إلى النيل فيقوم بِجَوْلةٍ
طويلة في الجبال فلا يجري في السهول غيرَ زمنٍ قليل لملاقاة الأنهار الآتية من البحيرات
الكبيرة، ويشُقُّ السوباط طريقًا لنفسه بحَزْمٍ في جريه الصائل، ويتغلَّب السوباط على
مغريات
حياته المقبلة بقوةِ شَبَابه الراهن.
وعلى ما يَتَّفِق للسوباط من ابتعادٍ عن أخطار المناقع أكثرَ مما يَتَّفِق لبحر الغزال
تراه
يَترُك هنالك كثيرًا من مياهه، وبما أن ضِفافَه أكثر ارتفاعًا من جِوارها لا تَجزُرُ
٨ مياه الفيضان إلى السوباط بعد موسم الأمطار، بل تظلُّ راقدةً مدى العام ما لم
يُجْرِها الزنوج نَيْلًا للسمك، ويُمثِّل السوباط — مع ذلك — ١٤ في المائة من مياه النيل
في
الخرطوم.
وفي مَلَاكال، وبعد تلك المُلتَقَيات الثلاثة، وحين ينحرف النهر نحو الشمال، يَحمِل
هذا
النهر اسمه الرابع، وكان هذا النهر قد دُعِيَ نيل فيكتورية ونيل ألبِرت بعد اجتماعهما
ببحر
الجبل، وتُبصِر النيل الأبيض بعد الآن، وسيجري هذا النهر مستقيمًا نحو الشمال بلا روافدَ،
وذلك
إلى أن يُبَسِّط اسمَه أغربُ التقاءٍ مرةً أخرى.