الفصل التاسع عشر
يظهر الإله الجديد من بين الأقواس المَغرِبية ويدنو من النيل، والعابدُ في طريقه
إلى الشرق
وقبل عبوره النهر يَركَع على العشب الأخضر لابسًا ثوبًا أبيض وعِمَامَةً بيضاء، ثم يَغسِل
رجليه
في النيل، فيبدو وحيدًا أمام هذا المنظر الصحراويِّ الأصفرِ والأزرق الذي يُمَيَّز بوضوحٍ
في
الهواء الشَّفَّاف الصافي، وتُخَيِّم زُمَرٌ من الناس على ضِفَّة النهر العالية. وبين
الكُثبان
والتِّلال تَرْعَى الوَسْمَةَ
١ الخضراء قطاعٌ من المعز الأبيض بقيادة بضعة رُعَاةٍ لابسين جلابيبَ بيضًا، وفي
النهر تستقي مئاتُ الإبل من الماء حتى الرُّكَب، وتنتظر نَوْبَتَها جِمالٌ أخرى بحراسة
رُعْيَانٍ رُكْبان خافضةً رءوسها غير مُتَعَجِّلةٍ حائرةً على النَّمَط الشرقي، وتَشرَب
بجانبها
أفراسُ حرسها من ذلك الماء الأصفر. والماء هو هو على الدوام، وضيوفه هم الذين تَغَيَّروا،
والخيل والإبل هما آية مجرى النيل الأوسط، وهنا يلوح كلُّ شيءٍ مطمئنًّا هادئ البال،
وفي النهر
تَرتَفِع الجزر المستورة بغاباتٍ كثيفة كإِلَهَات ساكنةٍ فتزيد ما توحي به الحياة الواسعة
المُتَرَيِّثة الشِّعرية.
ولا يزال الماء يَجرُف أكداسًا من البرديِّ، وتَبدُو أكداسُ البرديِّ هذه كجُزُرٍ
عائمة
وكآخر شهودٍ على اعتراك المناقع وكأَسَارَى حربٍ كبيرة يعودون إلى عالمٍ تسوده سَلْمٌ
فلا
يستطيعون أن يَجِدوا لأنفسهم نافذةً يلائمونه بها، ولا تَقدِر تلك الأكداس على معرفة
نهر
مُضطَهَد كانت عالمةً به، أو على تَبَيُّن نهرٍ يَسير الآن جليلًا بين حقول الذُّرَة
القريبةِ
من أهرام الحَبِّ المركوم، والتي يَفصِل الماء الصافي بين تَلَمها
٢ الأخضر والسُّهْب ذي الرمل الأصفر.
ويظهر كل شيءٍ من شجرٍ ودارٍ وإنسانٍ وحيوان منفصلًا بَعضُه عن بعضٍ في النور الباهر،
ويَظهَر كلُّ شيءٍ بذلك رمزًا أو فكرةً أو صورةً عن جميع الأشجار والمنازل وعن جميع العُبَّاد
والإبل في عالَم الضياء والرمل ذلك، وهنا يسير كل شيءٍ على رِسْلِه،
٣ والسفن الشراعية وحدها هي التي تُسْرِع بفعل الرياح، ولا مناصَ للرجل المدير
لِدَفَّتها من أن يكون شديد اليقظة اجتنابًا للضحاضح الكثيرة المتنقِّلة في النيل، والشاطئ
أقل
حرارةً مما يُنتظر، فمن خواصِّ انحدار الماء على شكل سِمَاطٍ أن يُرَطِّب ريحَ بلاد العرب
المُحرِقة.
وفي حياة الأحلام هذه، وفي رواية الناس والطيور هذه، يَلُوح كلُّ شيءٍ سعيدًا خلا
خالقَ هذه
الحياة، خلا النيلَ، والنيلُ مغمومٌ، والنيلُ يشعر بأن قوةً تَقِفُه، والنيلُ لا يعرف
أيةَ
قدرةٍ خفيةٍ تقاتله، وكلما امتدَّت مياه النيل صَيفًا قَدَّسَ له أهلوه، فإذا حلَّ فصل
الخريف
وتقلَّص النيل ألقى أولئك السكان حبوبَهم وحَصَدُوا ما زَرَعوه بعد ثلاثة أشهر، ويجهل
النهر
ذلك، وكلُّ ما يَعرفه هو أن نظام جِرْيته يَقضِي عليه بأن يداوم على النزول، وهو — مع
ضعف
انحداره — يحاول أن يتغلَّب على القوة التي تقاومه، بَيدَ أنه يَتَّسِع بنسبة تقدمه،
فيَتَحَوَّل البلد إلى بحر صغير، لا إلى غدير، وتنتصب على بُعدٍ جُدُرٌ وأبراجٌ أعلى
وأوسع من
جميع ما لاقاه حتى الآن، وهو يَدنُو من مدينةٍ، وهو ينطلق ليرى أمورًا أخرى.
وتزيد المقاومة، ويَنْقُصُ ضغطه الخاصُّ مقدارًا فمقدارًا، وتَعظُم الأبراج والصروح،
٤ ويزيد عدد الرجال والجمال والأحمال والزُّبُن، ويَشعُر النيل بهديرٍ لا ينفكُّ
يَكبُر، وهذا هو أشدُّ من كل ما سَمِعه، وهذا هو صوت نهرٍ يساويه.
ويجاوز النيلَ جسرٌ ذو سبعة أعمدة مضاعفة مَغروزة في مجراه فتهتزُّ هزًّا خفيفًا إذا
ما
طقطقت عَرَبَات القطار فوقه، ولا تزال تُرَى أمواجٌ قليلة، ثم يَهجُم على النيل من ناحية
اليمين
نهرٌ يَعدِله عَرْضًا ويفوقه صَوْلةً، وذلك النهر الهمجيُّ القاتم الباسل المُزبِد هو
الذي كان
يَقِف جَريَه منذ زمن!
وينطلق النهر الغريب من تحت جسرٍ طويل عالٍ كالذي له، ويضغط النيلَ الأبيضَ العريض
في
مَضِيقٍ ضَيِّقٍ على ضفته الغربية ويَنْقَضُّ على جزيرة دائمة الخضرة ذاتِ حَفيف، ثم
يَقذِف
الآخرَ أمام لسانها الغابيِّ
٥ بأمواجه الهائلة، وما كانت مياهُ أحدهما لتُمرَج
٦ في مياه الآخر بعد، فالجَريُ السريع القاتم يُهَيْمِن على النيل حينًا من الزمن،
وما كان ذلك رافدًا عاديًّا ينتهي أمره في مَصَبِّه، بل هو قِرْنٌ
٧ يعامل النيلَ معاملةَ النظير للنظير عن زَهْوٍ وغريزة لكي يجوب العالَم معه جَوْبًا
مشتركًا، وهو يأتيه بذكريات جِبال شبابه الذي لا يزال خافيًا، والذي سيغدو مُوَلِّدًا
للحياة
عما قليل.
وهكذا يلتقي النيل الأبيض والنيل الأزرق تحت نخيل الخرطوم، وهكذا يُوجِدان بعناقهما
الأَخَوِيِّ مكانًا من أروع بِقاع الدنيا، ويُسْفِر اتحادُ مقاديرهما عن وجود مصير مصر.