الفصل الثاني
لم يجرؤ أحدٌ بعد على قَهْر منبع النيل، ولا على الإنشاء والتنظيم فوق ضِفافه مع أن
عِدَّة
خِططٍ وُضعت حول ذلك الجزء الأفريقي من قِبل مهندسين كثيرين، ومع ذلك نصب جسرٌ حديديٌّ
أسمرُ
على النهر في أوائل حياته؛ أي بالقرب من مجراه التحتانيِّ، فيَصِلُ به قطارٌ بين بحيرة
فيكتورية
والمحيط الهندي، أو يَصِل به قطارٌ بين البحر الصغير والبحر الكبير، وما كان النيل ليحتملَ
جِسْرًا آخرَ إلا بعد ثلاثة آلاف كيلومتر من مجراه التحتانيِّ وعلى طَرَف الصحراء، وما
كان
لإنسانٍ في جميع هذه المسافة بين بلادٍ وشعوبٍ أن يعبُرَ النيل بلا زورق (عدا جسرًا طبيعيًّا)،
وقد حاول ذلك كثيرٌ من الحيوان والإنسان فكان الهلاكُ نصيبهم، والنهر بلا جسرٍ في مسيرٍ
لا
نهايةَ له دلَّ على أنه حاجزٌ بين حيوانٍ وحيوان.
والنهر الفتي لا يأخذ حِذرَه من مِعبَر،
١ والنهر الفتي في رَتَلٍ طويل من المساقط والدوافع يُطلِق العِنَان لصولته الطِّفلية
فائرًا مدحورًا مزبدًا سعيدًا بالحياة، والمَسقطُ الثاني الذي هو مَسقط أُوِين عريضٌ
كالأول،
ولكنه أعمق منه مرتين وأقفر وأقتم، وهو يُعَجِّل سلسلة الدوافع، وإذا ما نُظِرَ إلى الأمر
كما
تودُّ الطبيعة، لا كما تصنع الحضارة، سُمِّيَتْ هذه الدوافع بالشلَّال الأول والثاني،
وينحرف
النيل المُرغي وغير الصالح للملاحة نحو الشمال من غير أن ينقطع نَفَسه، وقد توارت المراعي
والمروج، وقد مُنِعَت سُكْنى تلك البقعة بسبب مرض النوم، ويظل النهر والغابة وحدهما كما
صنعتهما
يد الخالق، ويبقيان نتيجة نبت القرون وقرضها، والنيل في ذلك المسير، وفي ذلك الحين وحده،
يلامس الأيكة
٢ البكر.
وتفصل النهرَ من الغابة وتترُكه يلهو بألعابه أسوارٌ حيةٌ من النبات المعترش المشتبك
وتُخفي
عنه اصطراع الحيوانات الكبيرة ومصائبها، كما يُسعَى في إبعاد منظرٍ أليم عن الصبي، وما
يقع خلف
تلك الأسوار فيَرجع إلى زمنٍ كانت الأرض فيه أشدَّ فَتَاءً والحياة فيه أكثر وفرًا وأعظم
نموًّا، وفي ذلك النبت، حيث تَنَازُعُ الأفراد أخفى مما في بقاع الشمال القُرْع، تلتقي
الحياة
والممات التقاءً وثيقًا، وهنالك تكون البهائم والنوامي التي لم تمسسها يد إنسانٍ على
أتمِّ
التحامٍ، وعلى نور هذا السَّفَر
٣ الأخضر الذي تتجلَّى الغابة البكر به تتعلق جذور الدوح بسالف موتاها على حين تهيمن
ذُراها على ذلك الاشتباك الكثيف كأعاظم الرجال العُزْل فتؤلف مع غيرها شركة رءوسٍ مشمسة،
وما
تنتجه الرءوس فيسقط على الأرض، يسقط على منبع الخصب الجديد في منطقة الحياة التي لا تَفْنَى،
والتي لا أحد فيها يجني ثمار هذه الأشجار، والتي ترى الطبيعةَ بها في بخارٍ حارٍّ ولودٍ
من الحب
طليقةً من كلِّ مأرب.
وفي غضون القرون ما فَتِئَ تراب الغابة البكر يرتفع مدبولًا
٤ إسفَنجيًّا نديًّا فتنبت الجذور والسوق في غصون الأشجار التي توشك أن تنهار مع أنها
لا تزال حيةً، وينمو صائلًا نباتٌ جديدٌ بخيتٌ على أصولٍ عادت إلى التراب أو على أصولٍ
حية
فيتغذى بها، ولا ينفذ عَدُوَّا غاب الشِّمال، الجليدُ والبَرَد، ولا خَرِيقُ
٥ الجبال المجاورة المستورة بالثلج، تلك الأسوار التي أقامتها الغابة بنفسها، وبالعكس
تَجِدُ هنالك الشيء الكثير من حامِيَتَي النبات: الحرارة والرطوبة، والعدوُّ الوحيد الذي
يَجْرُؤ على دخول تلك المحالِّ التي هي أمنعُ من سواها هو الحيوان الذي يرجع إلى ما قبل
الطوفان، والذي ظلَّ باقيًا من خلال الانحلال الشامل، فالفيل وحده هو من القوة ما يستطيع
بأعضائه القوية أن يدوس معه ما يُعاسِرُه أو يَسْحَق معه ما يعوقه، وما كان الإنسان ليطأ
أرض
الغابة البكر لولا خطوات الفيل، والفيل هو الذي رسم سبيل الأَسْوَد التي لا يزال الأبيض
يتَّبِعها في طُرقه.
وإذ إن الغابة البكر هي اشتباكٌ مستمرٌّ من الأسفل ومن الأعلى حيث يحاول الخِنْشَار
٦ والكلأ الأكبر أن يَلحقا بالنبات المعرِّش الهابط؛ فإن السُّورَ الذي لا يُنفَذ منه
يتألف من مائة ضعفٍ مع الزمن من غير أن يَقِفَ رنينَ هذا العالم صوتُ الفأس حين خَبْطها
الشجر.
وكثافة الأيكة تُسْفِر عن سكوتها، وأصواتُ الطيور وحدَها هي التي تَنِمُّ على عمقها،
هي
التي تدلُّ على جزءٍ من بُعدِ غَوْرها، وما هو واقعٌ من ضِحْك
٧ القِرَدَة وطنين الحشرات وحفيف الدوح التي يعوِزُها الهواء ونقيق الضفادع في البرديِّ،
٨ وصفير الشُّحرور وحسيس الوِرْلَان
٩ وكشيش الثعبان ونعيق الغِربان فقد ضَعُفَ كضياء الغابة، وقد بدا حادًّا مفاجئًا
كصوت الأولاد في الكنيسة عند القيام بالشعائر ما دام ظلام الأَجَمَة وعلوُّها يُثِيران
فينا
ذكرى الكنائس.
وفوق الأرض وفي أصول التِّين العظيمة وبين سُوقِ السَّحْلَبِيَّات تكوَّنت كُوَّاتٌ
عميقةٌ
يُمْكِن الإنسانَ أن يأويَ إليها، وهي تشابه كُوَّاتِ أركان الكنائس، ومن العَلَاء وفي
أغصانها
المستورة بالأزهار تَجثِم البَوَابشين
١٠ ساكنةً كالتماثيل السُّود متبرِّمةً من وثبات الرَّبابيح
١١ التي تَلْمَع أذنابُها البيض وخطوطُ ظهورها عندما تَقْفِزُ من مُعَرِّشٍ إلى آخر،
وتدبُّ الحياة دبيبًا خفيًّا في تلك الأشجار الخامدة الخانقة المظلمة بفعل الحيوانات
التي
تؤثِّر فينا بخُطاها وأصواتها أقلَّ من تأثير الأزهار بألوانها، ومن خلال اشتباك المعرِّشات
يُبْصِر جلدُ حيةٍ لامعٌ، ولا يكون لصوت طيرٍ معنًى إلا حين يُرَى ظلٌّ عابرٌ لصقرٍ أبيضَ
وحين
يَصِيح بعض الببغاوات على البَوْبَاب
١٢ الذي هو شجرٌ ضخمٌ ذو قاعدةٍ جلدية متجعدة، وتتلاشى هذه الأصوات بسرعة في سكون
الأَيْكَة البكر المُثِير.
وإليك نداءَ شجرة المرجان المُحرِق، وإليك هذه الشجرةَ التي تَحْكِي أغصانُها فروعَ
شجر
التين فتمسُّ الشمسَ، وإليك هذه الدوحةَ التي تتدلى من الرأس كأنها ضربٌ من فولٍ مارد،
وإليك
السَّنْطَ المُخْمَليَّ، الذي تسطع من بين أوراقه أزهارٌ ورديةٌ حمرٌ كبيرةٌ كيد الإنسان،
وإليك العَشَقَ
١٣ السماوية التي تسترسل أكاليلَ أكاليلَ من أغصان الجُمَّيْز إلى اللمَّاع مع أزهارٍ
حمرٍ متزاحمة كثافةً.
وفي بقاعٍ من الغاب لا شَجَرَ فيها وعلى ضفاف غُدرانٍ تكاد تُستَر بأوراقٍ فتنفُذُ
إليها
شمس البلاد الحارة تكون الأزهار أقلَّ أخذًا بمجامع القلوب وإن وُجِدَ هنالك عشرةُ أمثالها؛
وذلك لأن الحيوان هو السيد على طرف الماء هنالك حيث تبصر القاوَندَ الفيروزي واقفًا على
اللبلاب
١٤ القِرمزيِّ الملتفِّ حول الحسَّاسة
١٥ منحنيًا فوق الماء مترقبًا سمكًا يُمسِكه، ويهتزُّ وكر التنوُّط
١٦ في أقصى سُعُوف النخل فيتفلت بذلك من جشع القرود وطمع الأفاعي، وهنالك، حيث يَمِيل
الخنشار المَذِر
١٧ إلى الماء، ترفرف فراشٌ سَمَنجونِيَّةٌ
١٨ ذواتُ أعين أُرْجُوانية، وهنالك ضُبَّانٌ زرقٌ ذوات نُقَطٍ نارَنجية تَدَّفئ بين البطيحة
١٩ والغدير.
ويُبدي النَّسَّاف
٢٠ حركاتٍ غريبة ويخرج أصواتًا صُحلًا
٢١ كما لو كان كل جرسٍ
٢٢ نتيجة ألمٍ صميم، ويُصَفِّر شحرورٌ جهيرٌ على شجرةٍ قريبةٍ كما لو كان يغازل، كما
لو كان متفنِّنًا مولدًا بجانب مقلِّدٍ أرفل،
٢٣ ويفوق الزَّمَّار كلا الطيرين، ويَخرِق مزماره المغري المُغِمُّ أوراق الشجر كما لو
كان يَعِيش في الهواء والماء، وذلك مع تحدٍّ للغابة البرية وسُخْرٍ من ضرورة النَّقْر
٢٤ ومن عبء ما يحيط به، وذلك إلى أن يقف تغريده نعيق العَقْعَق.
٢٥
وعلى مدًى من تلك القَرْقَرَة والمُفَارَعة تعيش الحيوانات الكبرى في الغابة وتصيد
وتتزاوج
وتتقاتل، وهي تظهر على ضِفاف دوافع النيل الفَتِيِّ مساءً فَتَجْرَع وتكرع من مائه الفُرَات،
٢٦ والزِّنجيُّ في ذلك الحين يتوارى، والزنجي في النهار يصطاد ويغتسل في خليج ساكن،
فإذا دنا الليل ترك المكانَ لسادة الغابة الصامتين عن وَجَلٍ.