الفصل الثالث
هنالك، في العُدوة، تَسقِي الحيوانَ مئاتُ الجداول والأنهارِ قبل أن تَضِيعَ في المجاري
العميقة التي تأتي بها إلى النيل، وفي ذلك الصُّقْع المُمَزَّق يَحبِس البِرذَوْن
١ عن الإنسان خِدَمَه، فيُضطَرُّ الرائد إلى الهبوط والصعود ١٢٠٠ متر لدراسة مجرى أحد
الأنهار الأسفل، ويكون النيلُ في الغالب غائبًا عن الأبصار من علٍ، ويَلُوح غَوْرُه في
فُطُور،
٢ ويُحْسَب وجودُ مجرًى له تحت الأرض، فإذا ما ظهر ثانيةً لم يَبدُ مُوَسَّعًا حتى في
فصل الأمطار، وما تجلُبه إليه الروافدُ غير المهمة فيَفقِدُه بالأبخرة والمساقط والقِضاض.
٣
والغِرْين هو الذي يَزِيد، وبما أن مُعظَم روافد النيل تجيء إليه من داخل الجبال التي
يحيط
بها يؤدِّي ما تَرِدُ به عليه من الموادِّ المعدنية إلى جعل مائه شديدَ الاسمرار بعد
خروجه من
بحيرة طانة كثيرَ الصفاء، ولا يدلُّ تسمية العرب إياه بالبحر الأزرق على كونه نهرًا أزرق
فقط،
بل يدلُّ على أنه أغبر، وعلى أنه أسود أيضًا، ويَنخفض ماؤه في الموسم الجافِّ فلا يَنقُل
أكثر
من اثنين في المائة من الموادِّ فيبدو في الغالب أزرقَ صافيًا تحت سماءٍ خالية من السُّحُب،
فإذا ما حلَّ فصل ارتفاع مائه حَمَلَ ١٧ في المائة من الغِرْيَنِ وظهر أسمرَ قاتمًا ويُعَزَّزُ
هذا اللونُ بما يَجلُبه من مليارات النمل الأبيض، ومن الإنكليز رُوَّادٌ ذهبوا حديثًا
إلى
النظرية الطريفة القائلة: إن هذا النمل الأبيض هو الذي يَقْضم التراب فيُجَرُّ معه، وإنه
هو
العامل الحقيقي في وجود غِرْيَن النيل.
وفي الهضبة العليا العامرة بالناس تَضخُم جميع الموادِّ المعدنية البركانية بفيضٍ
من
النباتات الاستوائية، وعن تلك الهضبة قال بلُونْدِل الذي هو من البيض القليلين الذين
زاروها:
«إنها أجمل بلد رأيته.» والحقُّ أن الجَفَاف في جنوب الحبشة أقل ضررًا مما في الشمال
حيث
يَتَعَذَّر في شهر فبراير وضع إنسانٍ جنةَ عدنٍ في صُقْعٍ صادٍّ كذلك، والمطرُ في شمال
الأبَّاي
يُوجِد غابةً ذاتَ ألوانٍ فتَّانة.
والأحمر والأصفر هنالك يَبْهَران الأبصار، فتَهبِط طاقات العَنَمِ
٤ الأرجوانية من شجر الخَيْزُرَان الجسيم على استدارة عشرين مترًا، ويتَشَعَّب
اليَتُوع كالشَّمَاعِد
٥ وتَتَمَوَّج خُصَلٌ كثيفةٌ لألوفِ الأزهار الصُّفْرِ البارزة من العُلَّيق المعروف
بالأَبْرِيقُم، ويتدلَّى الياسمينُ البريُّ الأزرقُ الشاحب من الأَثْلِ،
٦ وتَستر مساقطُ من القُوَيْسَة
٧ الزرقاء الحيةِ وتَخنُقُ أحيانًا ما يعيش تحتها، ويسطع البَيْلَسَان
٨ بين الخُضَر، وتكسو ذوات الفِلقَتَين غاباتٍ بأسرها، وينحني الشيح
٩ العطري ظَهرًا وبَطنًا فيؤلِّف أنفاقًا
١٠ أرجوانية تبلغ من غِنَى الأزهار ما «قد تُدْفَن فيها قافلةٌ».
والزنجي في قُرَى الجبل العالي يَزْرَع الذُّرَة والبُرَّ
١١ بلا عَنَاء، وله كلُّ العَوْن بالتراب والمطر، والقطنُ أقلُّ من ذلك نجاحًا، ولا
يُفْلِح شجر البُنِّ إلا في حالٍ برِّية كالكَرْمة فيما مضى، ولم تَنَلْ يَدُ التغيير
شيئًا من
المحراث الذي يُستَعْمَل بلا رَوِيَّة، كالخنازير البرِّيَّة، منذ عهد المِحراث الذي
صنعه آدم
بعد إبعاده من الجَنَّة.
وتعيش تلك القبائل الحَبَشية المتأخرة كثيرًا عيشًا ابتدائيًّا كزنوج النيل الأبيض
الأعلى،
ولكنك تَجِدُ عندهم حيوانًا أهليًّا يعاملونه معاملةَ الضيوف من الأمراء، وهل هو ساحرٌ
أو حكيمٌ
أو أبيضُ هذا الذي كان عند ذبح سِنَّوْر الزَّبَاد
١٢ أول من كَشَفَ الرائحة الزَّكِية التي تسطع من إحدى غُدَده؟ إن المحتمل أن ادَّهَنت
بها إحدى سراري النجاشي الثلاثمائة إغواءً لسيدها.
ومهما يكن الأمر فإن جميع الشُّرَفا وَدُّوا ذاتَ يومٍ حيازةَ سِنَّوْر الزَّبَاد،
فحَمَلُوا عبيدًا لهم على البحث عنه، فوَجَدَه هؤلاء على أبعد شواطئ النيل جنوبًا، ويمسكه
السود بحِبَالةٍ
١٣ ويُؤَنِّسونه في أكواخهم ويغذُّونه بالبَيْض وقت الظهر وبحساء اللبن وقت المساء،
ويُوقِدون النار شتاءً لكيلا يبرد، ثم يَقشِطون بملعقة خيزرانٍ ضربًا من الرَّغْوَة في
غُدَّةٍ
منه لها رائحة المسك ويحفظونه في قرونِ البقر، ويَبِيعونه من التاجر الذي يأتي من المِصْر
١٤ في مقابل ثيابٍ وقِصبَانِ ملح أو نقودٍ فضية، وهكذا ترى سُودًا لا يَعرِفون سوى
الجوع والصيد والحُبِّ في جبال الحَبَشَة الموحشة يغتنون بفضل نفائسِ بلاطٍ بعيدٍ، ويزيدون
قطاعهم وحقولهم من غير أن يكونوا في نهاية الأمر أكثرَ سعادةً من إخوانهم الذين لا يَقشِطون
غُدَدَ سنانير الزَّبَّاد.
ومن الحيوان ما هو أقل أُنسًا، ومن ذلك القُردُوح
١٥ ذو الذؤابة الرمادية الذي يَتَّخِذ في كِبَره سَيرَ الأفَّاق المنبوذ المتوحِّش،
والقُرْدُوح يَغزُو الحقولَ، وإذا ما مُنِعَ فلم يدخلها إلا بعد الحصاد استعدَّ كالآدميين
ووَضَعَ من الأرصاد ما يَحمِي به صِغَارَه تِجاه الأنمار، والأنمار تَخَافُه فلا تدخل
القرية
إلا بعد انصرافه.
والفيول هنا — كما في كل مكان — تَسِير بحَذَرٍ كبير، والفيول تَعرِف متى يَضَعُ السود
في
قراهم بُرَّهم على ظهور جمالهم، والفيول تُوَاثبهم في ذلك الحين فتَضَع الجِمال أثقالها
وتنال
الفيول ما تريد، وتقول القصَّة: إن أحد الملوك أراد ذات يومٍ إخضاع زنوج ذلك الصُّقْع،
ويَجِدُه
هؤلاء الزنوج من الخُبْث والهول كنهَّاب غلاتهم البغيض ذلك فيَصِيحُون عند وصوله بقولهم:
«يان
هوي! أنت فيلٌ!» ويسأل الملك عن معنى ذلك، ويدرك الدعابة كشرقيٍّ ويضع حدًّا للغزو ويَعِدُ
بإنصاف كلِّ من يدعوه على هذا الوجه، ومن ذلك الحين يَركَع كلُّ سائلٍ مُلحِفٍ أمامه
وهو يقول:
«يان هوي». واليوم تجيء هذه الكلمة بمعنى «أيها الملك! يا صاحب الجلالة!» وهكذا يحمل
نجاشي
الحبشة العادي اسمَ أقوى وأنبه حيوانٍ في الكون.
وفي الشتاء يعود الفيل إلى بِقاع الجنوب المهجورة متسلِّقًا مُنْحَدَاراتٍ تتحدى الإنسانَ،
وتجتذبه غابات الخَيزُران حول مصبِّ نهر دِيدِسَّا في النيل الأزرق من الناحية اليسرى،
وهنالك
تُرَى مطروحةً على الأرض مئاتٌ من الشجر الكبير الذي يحب الفيل النهيم ثماره السرية الصغيرة،
والفيل يهز الأشجار بخرطومه ويُجَندلها عند عدم فائدة الهَزِّ، ويجمع تلك الثِّمار
السُّكَّريَّة واحدة بعد الأخرى باعتناء.
وفي أقصى عقدة النهر يمهِّد البلد رويدًا رويدًا، ويغدو المَضِيق أشدَّ أنسًا، ويبدو
مجرى
النهر أكثرَ ظهورًا، فإذا قُطِعَت أميالٌ قليلة لاح سهلُ الفُنْجِ ولاحت تلالٌ متفرقةٌ
في سُهْب
السودان، ويشهد النيل — قبل مغادرته الحبشة — منظرًا غريبًا يوحي بمصير هذا البلد.
وفي مَصَبِّ دِيدِسَّا وغيره من روافد النيل، وبالقرب من حدود السودان، يَجلِس القُرفُصَاءَ
بضعُ مئاتٍ من الزنوج عراةً في السَّعِير الذي يَفِرُّون من حُمَّيَاتِه عادةً، ويخرج
أناسٌ
آخرون من الغابة ممسكين بضربٍ من صولجان الكرة وصحفةً مسطحةً من الخشب، وحاملين في أعناقهم
قَرعَةً صغيرة مربوطةً بسَحْل،
١٦ وهم ينحنون في الماء الأدنى ويَبحَتون بين الحجارة ويرمون معظم الحَصَى، ولكن ما
يَضَعُونه في صحافهم يَسطَع تحت الشمس، وإذا ما مَرَّ النهار صَبُّوا في القَرعَة ما
وجدوه
وحملوه إلى رقيبٍ يزنه بميزانٍ أوروبيٍ صغير.
ويُقْرَض الحجر الناري الأعلى قرضًا عميقًا، وتظهر طبقةٌ بِلَّوْرية وتَغْشَى حصباء
المَرْوِ
١٧ وشظاياه بِقاعًا بأسرها ويُكتَشَف الذهب في ذلك منذ القديم.
ويقوم نصيبُ ذلك البلد على البحث عن الذهب والعبيد، وفي غير مكانٍ خَلَطَ إلهُ النار
الذي
تحت الأرض عنصرَ الذهب بالموادِّ التي كان يحرِّكُها باليد، وبما أن هذا المَعدِن يُعرَف
بسهولةٍ في الأنهار بحث ملوك البلد عنه منذ أقدم العصور، حتى إنه ظُنَّ أن بلد الذهب
أُوفِيرَ
١٨ هو هنا، ومما يُرْوَى أنه يستخرج منه ثمانون ألف جنيهٍ في كلِّ عام، ولكن هل من
عادة الملوك المطلَقين بيانُ الرقم الصحيح لدَخْلِهم؟ والنجاشي يأخذ نصف ذلك رسميًّا
ضريبةً.
ويُجمَع ذلك في قوادمَ،
١٩ ويُصنع منه خواتم ويُبَاع، وماذا يُنَال مقابلةً؟ يُؤْخَذ سلاحٌ وآلاتٌ. ومَن
يستفيد من ذلك؟ إن الزنوج الذين يَغْسِلون ذهب النجاشي قاعدين القرفصاء في الماء عشرَ
ساعاتٍ
يوميًّا هم من الغَلَّا أو من العبيد، فلا يُعطَوْن ملحًا ولا نقدًا ولا قلائدَ ولا بقرًا!
والذهب قد ذَهَبَ من هنا إلى أديس أبيبا حيث يُحوَّل سائل سِنَّوْرِ الزَّبَادِ الغُدِّيُّ
إلى
عطر، وفي رَدْهةٍ مغطاة ببُسُطٍ يلمع الذهب في جيد سيدةٍ ذات لحاظٍ يتَّقِد شهوةً أو
تُسْتَبْدَل به سيارةٌ إنكليزيةٌ أنيقة يركبها منتفخًا راسٌ مزيَّنةٌ أصابعه بالخواتم
توَّاقٌ
إلى المطامع مشتاقٌ إلى الانتقام، كما هي الحال منذ ثلاثة آلاف سنة.