الفصل الخامس
وكان قدماء المصريين، كتجَّار اليوم، يذهبون إلى هنالك طَلَبًا للبَانِ والعاج والذهب والرقيق، حتى إنه يُعثَرُ في مصرَ على عاج إثيوبيٍّ من عاج ما قبل التاريخ، وأَدخَل أولئك التجار ثلاثة أديانٍ وأربع حضاراتٍ أو خمسَ حضاراتٍ وجَلَبُوا معهم أنوارهم واضطرابهم إلى تلك الأودية الضيقة الوعرة، ولكن الجنادل والجبال والأنهار والأمطار كانت تحالف الإنسانَ على دفع الأجنبي إذا ما أراد الاستيلاء على البلد، ولكن هذه العناصر تُفَرِّق تلك الدولةَ إلى أجزاءٍ كثيرةٍ لا يستطيع أيُّ أمير أن يسيطر عليها كلِّها، تُفَرِّقها إلى أجزاءٍ تتقابل دَوْمًا فتَحفِز كلَّ إنسانٍ إلى أن يكون محاربًا، وكما أن الأجنبيَّ لم يَقدِر على فتح ذلك البلد لم يَسْطِعْ أحدٌ من أهله أن يُهَيْمِن عليه، وهذا الحِصْنُ الطبيعيُّ الذي يَصْعُب قهره والذي يَسُودُه الشِّقاق هو عَتَبَة القارَّة، فتطمع فيه دول البيض التي تَملِك البلاد المجاورة لاشتماله على منبع النهر الحافل بالأسرار، وسنُبيِّن في مطلبٍ آخرَ من هذا الكتاب أن هذا البلدَ ليس من الشأن ما تَعزُوه إليه القصة.
وبعد ألوفٍ من السنين تُبَيِّن الآثارُ عدد الفاتحين الأجانب الذين طردوا من بلاد الحبشة، ومما انتهى إلينا ما ذُكِر على البرديِّ من غَزَوَات المصريين وحملاتهم في البحر الأحمر، ومما انتهى إلينا مما أُحصي على الحجارة المنحوتة من معاهدات ملكة سبأٍ، ومما انتهى إلينا مِسَلَّات الإثيوبيين التي نُصبت قبل الميلاد بألف سنة بعرفانٍ لم يُدرَك أمره، ومما انتهى إلينا روايات هيرودوتس عن كنوز ذلك البلد، وكان أباطرة الرومان يَحمِلون على صَيدِ صِغَار الأفيال هنالك ليتلهَّى بها الشعب، وكان قياصرةُ بِزَنطة يأخذون الذهبَ من هنالك في مقابل أدواتٍ لا قيمةَ لها.
وترى منذ القديم سلسلةً متصلةً من الأمم البِيض قد انقضَّت على هذه البِقاع العاطلة من الطرق والبعيدة المنال، ولا ترى واحدةً من هذه الأمم ظلَّت هنالك، وإنما ملك البلادَ أمراء من أهلها بلا انقطاع تقريبًا، وذلك من عَهْدِ ابن سليمانَ حتى الزمن الحاضر.
ويشعُر نجاشي الحبشة وبطركها بخطر الكفرة فيذكر نصرانيته فيستصرخ البابا، ويكتفي البابا بإرسال كتابٍ باللغة اللاتينية إليه لم يقدر أحدٌ في الحبشة على قراءته، وبمنح هؤلاء الزنوج الأتقياء كنيسةً في رومة لم تنفكَّ تُسمى سان ستِيفانو دي مُورِي منذ ثمانية قرون، ويعرف حجَّاجٌ من الأحباش في القدس بعد مدةٍ أن ملك البرتغال هو أقوى ملوك النصرانية، فلما أتى بلاطه وفدٌ حبشيٌّ بَهِيٌّ ولى هؤلاء الزنوج — الذين لم يعتقد نصرانيتهم — ظهرَه، فهذا هو الجهل السائد حول الأحباش بعد منحهم كنيستهم في رومة بثلاثمائة سنة.
ووقع بعد قرنٍ فقط تعانق الإخوان في يسوعَ المسيح ووعد القويِّ بمساعدة الضعيف، وكان البرتغاليون قد عَلِمُوا أن ذلك القطرَ الافتراضيَّ ذو أرضٍ ثُلُثُها من ترابٍ وثلثاها من ذهب فضلًا عن احتوائه عبيدًا وعاجًا كما يُرَاد، وعلى ما وَجَدَه الملك من مبالغةٍ في ذلك ظنَّ أن العكس هو الصحيح فأَمَلَ — على ما يحتمل — أن يكون ثلث الأرض من ذهبٍ وثلثاها من تراب، والمغامرة تكلِّف البرتغاليين ثمنًا غاليًا في بدءِ الأمر، فلما خَفُّوا لنصر مَلِك البحر الأحمر على العرب الآتين من مصرَ والسادةِ لنصف الحَبَشَة الذي أكرهوه على الإسلام غُلِبَ ابن فاسكودوغاما، غُلِبَ هذا الفارس الذي هو من أنبل فرسانهم، وعُذِّبَ وقَطَعَ قاهرُه رأسه بيده وخُصِيَ جميع أُسَارَى النصارى، وحدث هذا سنة ١٥٤١، وكان لا بدَّ من مرورِ قرونٍ قبل أن ينتقم أحدُ ملوك النصارى وَفْقَ سُنَّة الثأر، وينتصر البرتغاليون بعد عامين ويُعِيدون الملك الحبشيَّ إلى عرشه، وكيف يُبدِي الملك كلوديوس شكرانَه الآن؟
عَزَمَ على انتحال المذهب الكاثوليكيِّ الرومانيِّ فأثار بذلك منازعاتٍ جديدةً، واستقرَّ البرتغاليون بالبلد مع علماء وتجارٍ، وكان من عادة الملوك السابقين ألا يَدَعُوا السفراء يعودون وأن يَغمُرُوهم بضروب الثَّرَاء والنساء لِمَا يُبدُونه من حسن النصح، وأن يُبقُوهم أسرى بمثل هذه المغريات، وفي هذه المرة أقام البرتغاليون في شمال بحيرة طانة مدينة غُنْدار وحصنها مع أبراجٍ مدوَّرةٍ ضخمةٍ وأسوارٍ مهمة كأسوار طُلَيْطلة؛ أي أنشئوا الأثر الوحيدَ الذي تركه الأوروبيون خارج أديس أبيبا بين الأكواخ الزِّنجية في تلك المملكة.
وكأنه قُدِّرَ على ذلك البلد الجبليِّ أن يُفَكَّ بالمنازعات الدينية التي تَقْضمه كما يُفَكُّ بالمطر والنيل، ومن اليسوعيين الرومانيين أناسٌ أرسلهم البابا لم يألوا جهدًا في توطيد سلطانهم هنالك، وفي عَتَبَة العالَم النصراني وبين شباه الزنوج تُبْصِر الصراعَ حول تعاليم يسوعَ قد ثار حين ثار في أوروبة وبمثل الحُمَيَّا التي هاج فيها لدى الأوروبيين، ولمَّا عاد المسلمون لا يهددون النصارى عَزَمَ النصارى على التذابح، ولِمَ يتقاتل رؤساء القبائل العربية اليهودية أولئك مع أن معابدهم كانت من أكواخٍ وكانت طقوسهم قائمةً على الطَّبْل والنداء؟
المسيح ممسوحٌ بالرُّوح القُدُس، ولكنه لا يحتاج إلى ذلك! وكان الخصوم يصرُخون قائلين: هذا ضلالٌ! وإنما يَجْمَع هذا المَسْحُ بين طبيعتيه، وآخرون يصيحون قائلين: هذا أعظم بُهتان! ولا يَتِمُّ فِدَاء البشر على يد المُخلِّص إلا بالروح القدس، وفي الحين بعد الحين تَتَّفِق هذه المذاهبُ الثلاثة على القول بأعلى صوت: اقتلوا اليهود! وذلك على أن تَعُود إلى سابق انقسامها.
وفي سنة ١٦٣٠، حينما كانوا غوستاف أَدُولف وفلنشتاين وتِيلِّي يُحَوِّلُون النصارى بمدافعهم، كان قساوسةُ الأقباط والكاثوليك بالحبشة يُسلِّحون رعاياهم بالسيوف والرِّماح نصرًا لمثل ذلك المذهب.
والإنكليز وحدهم هم الذين كان تِيُودُور يُدْنيهم منه، لاعتماده على عونهم ضدَّ المصريين، وقد بَلَغَ من الصداقة لاثنين منهم ما انتقم معه لقتلهما في إحدى معاركه بقطع رءوس مئاتٍ من الأسرى، وهو — بعد هلاك الصائد الإيرلندي والقنصل الاسكتلندي على ذلك الوجه — لم يَرَ كُفُوًا له غيرَ شخصٍ واحد، غيرَ الملكة فيكتورية التي غَدَتْ أَيِّمًا منذ وقتٍ قصير، وهو قد أبصر أن سلطانها على كثير من الشعوب السود يَزِيد لا رَيب إذا ما تزوَّجت «ملكَ الملوك» بأفريقية، ففي سنة ١٨٦٢، وبلا واسطةٍ، عَرَضَ عليها الزواجَ به.
وحدث ما لا يُصدَّق، حَدَثَ أن ظَلَّ كتابه من غير جواب، ويُوغِرُ هذا الاستخفاف صدرَ أقوى الملوك فيَقِفُ الوزيرَ الإنكليزيَّ كَمِيرُون ويُقَرِّنه بالأغلال مع أحد المجرمين، وتنظِّم إحدى الدول العظمى للمرة الأولى؛ أي في سنة ١٨٦٨، حَمْلَةً تأديبيةً ضدَّ الحبشة، ويُوغِل الإنكليز في البلاد ويحاصرون «ملكَ الملوك» في قصره الحصين، ويطلبون إطلاقَ الأسير، ويذكُرُ المغامر تِيُودُور نشأتَه الأولى الباسلة ويَقتل نفسه، وينال بعمله هذا احترامَ الأعقاب وتقديرَهم للثمن الغالي الذي أدَّاه.