الفصل السادس
جَعَلَت الجبالُ من الحَبَشِيِّ محاربًا، وكان المطر يَقْطَع كلَّ حربٍ منذ ألوف السنين، ولا تُؤتِي البغضاء أُكُلَها إلا بين أكتوبر ومايو، ولذَيْنِك العنصرين لم يُغْلَب هؤلاء القومُ الذين هم من شباه الهَمَج تجاه أساليب الحروب الحديثة، بل انتصروا في سنة ١٨٧٠ وسنة ١٨٩٠ على شعبين ذَوَيْ أسلحةٍ جديدة وطَرَدُوهما من بلادهم: انتصروا على المصريين ثلاثَ مراتٍ، ثم غَلَبُوا إيطالية. وفي سنة ١٨٨٥ كانت مصر تعالج فتنةَ المهدي الذي كان السودان قَبضَتَه، والذي كان يُهَدِّد الحبشة، وتُحَدِّث إيطاليةَ نفسها بأنها تستطيع أن تَظْهَرَ حامية لهذا البلد ظافرةً في الساعة الأخيرة بحِصَّتِها من الحلوى السوداء الكبرى، ويَلُوحُ أن مصير الحبشة أمرٌ مفروغٌ منه، وما كان أحدٌ ليعتقد بقاءَ كيانها.
ويُقتَل آخرُ نجاشي على الحدود في أثناء محاربته المهدي، وينادي أحدُ أتباعه الأقوياء بنفسه نجاشيًّا، ويرى هذا النجاشي الجديدُ في ذلك الحين الذي استفحل فيه أمرُ أنصار المهدي أن يُقطِع الطلاينةَ منطقةً من الأراضي، وأن يَرضَى بحمايتهم صورةً، ويعلم ذلك النجاشي الممتاز من البِيض أن على وليِّ الأمر أن يُثبِتَ صفاءَ أصله، فيتسمى بمِنليكَ الثاني، مدعيًا أنه من ذرية مِنِلِيك الأولِ الذي وَرِثَ حكمةَ سليمان وجمالَ ملكة سَبَأٍ منذ ثلاثة آلاف سنة.
وهو إذ كان ابنًا لأميرٍ قويٍّ لم يَدَّخِر وُسعًا في توطيد سلطانه بأية وسيلةٍ كانت، ولما قَبَضَ على زمام الأمور في الخامسة والأربعين من سِنِيه سالَمَ منافسه فزوَّجه ابنته، ورَكِن إلى رجال الدين مع عدم اغترارٍ بهم، وبما أن النجاشي هو المتصرف في أموال رعاياه كلِّها وَفْقَ شيوعيةٍ معكوسةٍ فإنه أباح للأمراء نَهبَ ما يَوَدُّون كما في الماضي، وما بدأ به من تغييرٍ قليلٍ فقد أملاه العقل عليه أكثر من أن يُمليه عليه البِيض الذين لم يقتبس منهم سوى نظام الجيش، وما كان ليرضى بالسجون، فقد قال: «لا أريد أن يغذَّى المجرمون ويُحرسوا على حساب أهل الصلاح والفضل، ولا ينبغي أن يُرَوْا، بل يجب أن يُنسوا بسرعة.»
ومن المحتمل أن كان أحسم عملٍ في حياته نتيجةَ غَلَطٍ، وهو عندما عاهد إيطالية أخطأ تقديرَ قوةِ هذه الدولة في ذلك الحين جاهلًا — تقريبًا — أمرَ منافساتها من الدول العظمى التي هي أوفر منها حظًّا بأفريقية. ومن الممكن أنه كان ينتفع بإيطالية زيادةً في سلامته وكسبًا للوقت في تسلُّحه، ومهما يكن الأمر فقد أعلن حريتَه في معاملة الدول الأوروبية الأخرى لنصِّ المعاهدة على أن من حقِّه أن ينتفع بإيطالية كوسيطٍ بينه وبين الأمم الأخرى، ويتمسك الطَّلَاينة بأنه ألزمَ نفسَه باتخاذ إيطالية واسطةَ اتصالٍ، وبأن كلمة «الحقِّ» شيءٌ عقيمٌ يحاوِل به منليك أن يُفلِت من المعاهدة، وكان جيشه مستعدًّا، وكان خَطَرُ المهديِّ زائلًا، وكان مَعقِلُه الطبيعي مع جباله ومطره من المَنعة كما في دَورِ ظهور البراكين، ويحاول مبارزة إيطالية إذن، ويَنَال نصرًا حاسمًا عزيزًا إذن، وتعد هذه مقابلةً للهزيمة التي وقعت منذ ثلاثة قرون ونصف قرن، والقصةُ القديمة تقول: إن نجاشي الحبشة النصرانيَّ كان قد أَمَرَ بخَصْي كثيرٍ من أَسْرَاه النصارى.
ولكن تلك الإهانة لم تُحرِّك ساكن وزارات أوروبة، وقد قيل: إن الوزيرَ الذي يفكر في مصير جنوده لا يَشهَر حربًا أبدًا، وقد أوجب عدمُ وجود مثل هذا الخيال هلاك الملايين من المؤمنين بالمَثَل الأعلى الذي يلوِّح لهم به، والذي يرون أن من مقتضيات الواجب والشرف أن يضحَّى بالحياة في سبيله.
وفي سنة ١٨٩٦، وبعد معركة عَدْوَى، يكتئب أذكى الأوروبيين فلا يعرفون أين كانوا، فقد هُزِمَتْ دولةٌ أوروبية عظيمةٌ من قبل قبيلةٍ لونها كلون القهوة مع اللبن، وهل كان ذلك نذيرَ ارتقاء الشعوب السود وعصيان الزنوج؟ وهل كان من الواضح أن الطبيعة تَحمِي الحبَشَة تجاه كلِّ غزوٍ كحمايتها لروسية؟ وهل نَجَا منبع النيل من أوروبة إلى الأبد مع أن مستقبل بلدين كبيرين يتوقَّف على امتلاكه؟ لا يزال رجالُ المهديِّ يُمسِكون السودانَ وإن ضَعُفُوا، ويمكن «مفتاح النيل» الأسطوري، الذي يتحدَّث عنه جميع العالم من غير أن يُعْرَف أمرُه، أن يعيِّن السيادة هنالك وفي مصرَ، ويؤثِّر بَطَلُ عدوى في زملائه البِيض لِمَا كان من عدم مطالبته إيطالية، حين إمضاء المعاهدة، بغير الاعتراف بسلطانه، كما طلب بسماركُ من النمسة بعد معركة سادُوَه.
وتُلقِي دسائس البلاط رداءً من الكآبة على أواخر أيام منليك، ويتوفى منليك سنة ١٩١٣ في السبعين من سنيه، موحدًا الحبشة بعد فوضى دامت أكثر من قرنٍ، جاعلًا جسمًا واحدًا من سبع ممالك ومستعمراتٍ واسعة.