الفصل السابع
رجلان يسيران في مَرتَجٍ
١ على طول نهرٍ نصفِ جافٍّ، وكلا الرجلين على سفر، والذي يتقدم الاثنين هو الرسول
بطرس المشابهُ الذي يبدو على فسيفساء رافنة،
٢ فهو ذو رأسٍ أسمر يحيط به شعرٌ طويلٌ ولحيةٌ قصيرةٌ سوداء، وهو ذو عَمْرَةٍ
٣ لا شكلَ لها ولا لون، وهو أسودُ العينين حاملٌ بيده سيفًا مجردًا ذا مقبضٍ على صورة
الصليب كأنه من جنود الحروب الصليبية، ويبدو خلفه عبدٌ جافٍ ذو رداء رمادي واسع عاري
الساقين
حاسرُ الرأس حاملٌ حملًا ثقيلًا على ظهره خافضُ الرأس خفضًا يَحُول دون تَبَيُّن ملامحه،
وهكذا
يسيح الحبشي البعيد من عاصمة بلده على جباله، راكبًا ظهر بغلٍ أحيانًا ماشيًا غالبًا،
وذلك في
سنة ١٩٣٠ كما لو كان في سنة ١١٣٠.
ويتعذر في داخل البلاد تمييز مختلف الأمثلة البشرية، فبينما ترى العرقَ العربيَّ
غالبًا في
الساحل يبدو العرق الزنجي غالبًا في الجنوب؛ ولذا يكون الجنس الحامي الأصلي قد تَغَيَّرَ
تغيرًا
تامًّا باختلاط العروق، وما نشأ عن هذا الامتزاج من شعب فيرجع اسوداده إلى فعل الشمس،
وإلى ما
فيه من دم زنجيٍّ، وليس إلا ضربًا من الرموز أن تكون تلك القبائل ذاتَ أظافر صفرٍ بيضٍ
وملتحماتٍ
٤ صُفْرٍ، ومن صفاتها التي لا تَجِد لها تفسيرًا هو أنها عُسرٌ
٥ بأسرها تقريبًا، فهي تَحمِل أسلحتها وآلاتها باليد اليسرى، وهي لا تستعمل اليد
اليمنى إلا في حالٍ تَعُدُّها شاذةً مقدسة كعدِّ النقود والنزول من ظهور الخيل.
وللأشراف مِشيَة الرُّسُل، وإليك القديسَ مرقص اللابسَ حلةً بيضاء، ذات كُمَّين واللابسَ
سروالًا ضيقًا، وله طَوْرٌ بزنطيٌّ حين جلوسه على كرسيه المنسوج وَغْسل عبدٍ لقدميه.
وآخرون يستقبلون الضيوف في أكواخهم المصنوعة من صَلْصَال، وهم، بأوضاعهم وملامحهم
ولونهم
البرونزي وسَنَاء ثيابهم الكثيرة الوِشَاء،
٦ يذكروننا بِزُمَر تِنْتُورِيتُّو،
٧ وإذا أضفتَ ذلك إلى عيونهم السُّود وصمتهم الناطق والأسلحة التي يحملونها دومًا
أبصرتَ فيهم منظرَ الأنبياء المثيرَ للحَنَان ويَلبَس الراسات — الذين هم أقوى أولئك
— معاطفَ
ذات قَبَّاتٍ
٨ ضيقةٍ مع حواش بيض فيُشابهون بذلك أعيانَ تِيسَان لو كانت شفاههم رقيقةً، وتَرَى في
الظِّلِّ وراءهم تُرسًا مُحدَّبًا وسيفًا قصيرًا ورمحًا ساطعًا، وتَنِمُّ قُدُودُهُم
ولونهم على
حسن صحة أبدانهم في الغالب، ويُطِيلُون الإقامة بالجبال في الهواء الطَّلق.
والحشمة سِمَة نساء الطبقة العليا، ويندُر أن تراهن في الطرق، وإذا ما أبصرتهن في
البيت —
والبيت وحده هو الذي يحقُّ لهم أن يجتمعن فيه بالرجال — بَهَرَتْكَ عيونهن اللوزية والعناية
العظيمة التي يبذلنها في زينة رءوسهن والوقت الكبير الذي يَقضِينَه في هذا السبيل، وهن
— لِمَا
يشددن بعضَ ضفائرهن الصغيرة المجدولة جدلًا فنيًّا ببعضٍ — يظهرن قصيراتِ الشعور بعضَ
القِصَر
على حين تبدو شعور الرجال طويلةً بعض الطول، ويبلُغ النساء من الزهو بعملهن هذا ما يضعن
معه
رءوسَهن على قطعة خشبٍ في أثناء نومهن وُصُولًا إلى دوام أثره، والزُّهْمُ
٩ هو الدِّهان الذي يستعمله كلا الجنسين.
وهن كالباريسيات المتبربرات يَنْزعن حواجبهن، ويُخطِّطن أقواسًا سُمرًا بدلًا منها،
ويَدْهُنَّ الأجفان بصباغٍ أسود، ويدهن الأيديَ والأرجلَ بصباغٍ أسمر وأحمر.
والحبشة دولة كهان بلا تديُّن حقيقي، وكل شيء هنالك خاثِرٌ
١٠ في شعائرَ كئيبةٍ عاطلة من التصوف خليقةٍ بالقرون الوسطى غائرةٍ في الخرافات فاسدةٍ
بالتِّجارات، ويَرَى الرُّوَّاد أن خطَّ الأدب الخلقي هنالك يَصعَد من النصرانيِّ إلى
المسلم
فإلى اليهوديِّ فالوثنيِّ.
ويجوب البلادَ مئاتٌ وألوفٌ من القساوسة والرهبان، ويُعرَفُون بلحاهم الطويلة السود
أو
الرمادية وشالاتهم البيض فوق رءوسهم وأحذيتهم الناتئة الطرف وبصلبانهم الذهبية أو المعدنية
المتدلية على صدورهم، وطبقة الكهنوت العليا مؤلَّفةٌ من العلماء، وهم كمعظم الأقباط عارفون
بعضَ
المعرفة بالدنيا، ولكنهم يظلون في برجهم العاجي ويهدِّدون بالقتل كل من يود ترجمة التوراة
من
الإثيوبية القديمة إلى الأمحَرية الحديثة، وهم إذ يلجئون إلى الحِرْم وما إليه من الوسائل،
غدوا
أصحاب أملاكٍ واسعة يؤجرونها أو يستغلونها بواسطة العبيد، وهم — كأساقفة القرون الوسطى
— يعيشون
بما لهم من نفوذٍ في الأمراء، ويحمل البطرك لقب «بابا الأقباط والأحباش»، وهو يُنتَخَب
من قبل
المجمع الروحي القبطي في الإسكندرية، ويجب أن يكون دومًا علمانيًّا من الطبقة الدنيا،
وهو كلما
زُكِّيَ ظهر مختارًا من الرب، وهو يُعنَى بتربيته ويكرَّس باحتفال ويرسل إلى الحبشة فلا
يحق له
أن يغادرها بعدئذ، وأطيب من ذلك حياة سجين الفاتيكان.
ولا يصعب على جماعة القسِّيسين أن تُخفِي حكمتها عن الشعب، وهي التي لم تتعلم شيئًا،
وهي
التي لا يعرف أكثرها حتى القراءة، وإن الشابَّ الذي يكون من الفقر ما لا يستطيع أن يعيش
معه
وجيهًا إقطاعيًّا، والذي يكون من الكسل ما لا يتعلم معه استعمالَ السلاح ينال — عن قرابةٍ
أو
بوسائل أخرى — حظوةً لدى قسيسٍ عالٍ فيُصَلِّب
١١ له هذا القسيس ثلاث مراتٍ وينفخ عليه فيصبح قسيسًا مصنَّفًا كأمراء الألمان الذين
كانوا يغدون من قواد الجيش فيصير بذلك في حمًى من حدثان بقية أيامه، ولا مناص من إطعامه
لما
يتمتع به من حق منح البركة وغفران الذنوب، والناس يزدرونه مع ذلك، والناس يخشونه مع ذلك،
ويحق
للقسيسين المرءوسين أن يتزوجوا مرةً واحدةً، فإذا ما آمَ
١٢ أحدهم من زوجه لم يحقَّ له أن ينكح امرأةً أخرى.
ويعيش الرهبان والراهبات في فقرٍ وبطالة وعبور سبيلٍ فاقدين كلَّ كرامة، ومن هؤلاء
أمراء
مخلوعون وأغنياء محرومون ومجرمون سياسيون باحثون عن ملجأٍ لهم في ديرٍ وأناسٌ أفزعتهم
ضروب
الوعيد، وشغل جحفل هؤلاء الرهبان المتسولين الوحيد هو أن يجادلوا على مدى البصر مبشِّري
الأجانب
حول طبيعتيْ يسوع ليعيَّن أمر تعميده مرتين أو ثلاث مراتٍ.
ويقوم القس بالقداس في أكواخ الجبل العالي مزمِّلًا
١٣ عادةً بجلد ضائنٍ
١٤ لخصره
١٥ حاملًا بيديه الغليظتين صليبًا وسبحةً ورديةً، ولا ينبغي له ولا لأحدٍ من المؤمنين
الحاضرين أن يمسَّ امرأةً بعد هَزِيعٍ
١٦ من الليل ولمدة أربعٍ وعشرين ساعةً. ولكن صراخ الذكور والإناث وما يمازج دَرْدَاب
الطبول وصوت الدفوف من نهيق الحمير وخُوَار البقر أمورٌ تُثِير في النفس منظر العَرْبَدَات،
ولو
قيست التقوى بعدد الأعياد الدينية ما وجدنا أمةً أتقى من أقباط الحبشة، ولا عَجَبَ، فأعيادهم
تعدل ثلثيْ أيام السنة، وتعد أيام الأربعاء والجمعة أيامَ صومٍ، وإذا ما فكِّر فيما يسود
الناس
هنالك من كسل شاملٍ سئل عن العلة والمعلول.
وهكذا يعيش مُعْظَم الأحباش في غَسَقٍ
١٧ ذهنيٍّ، ولا يُعرَف عددهم معرفةً تامةً ويَزْعُم ثلاثة، أو أربعة، ملايين من
الملايين العشرة أنهم من «الخُلَّص»، وأنهم من نَسْل النصارى الأولين، ومستواهم دونَ
ما عليه
زنوج بحيرة فيكتورية الذين لا يدرون ما الدين ولا الإيمان، وليس عندهم حتى براءة الدِّنْكا
العجيبة النابتة تحت الشمس، وما يُبدُون من اعتقادٍ كاذب بالربِّ فيُنعِم عليهم بالغرور
ويَحرمهم نعمةَ الحرية.
والمسلمون أكثر عملًا، ويبلغ عددهم بضعَ مئاتٍ من الألوف، ويَعِيش أكثرهم في ولاية
هرر
الشمالية، ولا يساوي ما يَحُوكونه من نُسُجٍ كبير شيء، وهم أهل كدٍّ، وهم، وإن كانوا
لا يحسنون
إدراك تعاليم دينهم الصحية، يراعونها على كل حال، ويُسَمَّى بقر الماء عندهم «خنزير النهر»
فلا
يأكلونه لتحريم لحم الخنزير عليهم، ويستعملون مع الفتيات طريقةً خاصةً اخترعوها، أو انتقلت
إليهم لوجودها في المجرى الأوسط من النيل الأبيض، وهذه الطريقة أشد فعلًا من نطاق الطُّهر
لدى
الصليبيين، فهم يَلفِقونهن
١٨ بسبائب
١٩ الخيل ليكنَّ أبكارًا يوم الزواج. ومن الأزواج من هم غيارى فيلجئون إلى هذه الوسيلة
مع زوجاتهم إذا سافروا، وهي أرخص من حراستهنَّ بالخصيان لما يكلِّفه الخِصيان من أجرٍ
عالٍ.
وليست لدينا معرفةٌ تاريخيةٌ ثابتةٌ عن اليهود، عن الفَلَاشَا، هنالك، ويبلغ عدد هؤلاء
نحو
خمسين ألفًا؛ أي تعدل نسبتهم بين السكان واحدًا من مائتين تقريبًا. وهل جاءوا الحبشة
حينما
دخلها دينهم قبل الميلاد بألف سنة أو بعد الميلاد؟
وقد انجذب العرب مبكِّرين إلى التوحيد اليهودي الذي كان وحيدًا في ذلك الحين فاعتنقه
أمراؤهم، والآن لا يَعرف هؤلاء اليهودُ العبرية ولا يؤمنون بمسيا (المسيح) ولا يزاولون
أية
تجارة كانت، وهم من الناحية الجثمانية يشابهون الأحباش الآخرين، فلهم أنفٌ أفريقيٌّ وفمٌ
أفريقيٌّ، مع أنك ترى اليهودي في الناحية الأخرى من البحر الأحمر، وعلى درجة العرض نفسها،
يختلف
عن العربي اختلافًا تامًّا، ويمتاز اليهود من أهل البلاد الآخرين بما يَعْتَرِف لهم به
النصارى
والمسلمون من ذوقٍ وخلقٍ.
ويرى رائدٌ ألماني: «أنهم أنفع سكان ذلك البلد.»
ويقيمون بجوار العاصمة وحول بحيرة طانة، ويظهرون أمر صناع الحبشة وأحسن حداديها وبنائيها
وصيدلييها وخزافيها وصائغيها، وقد يملكون أطيانًا، ولكنهم ليسوا من الأغنياء، وهم لا
يؤجرون
خدمًا ولا يقرضون نقودًا، وتكاد صلواتهم
٢٠ تشابه بيع
٢١ النصارى، ولكنهم يكتمون طقوسهم الدينية ورموزهم وكتبهم المقدسة التي هي بالأمحرية،
ويحافظون على سنن الأكل وقواعد النظافة ويتوضأون إذا ما مسوا من ليس يهوديًّا، ولا يعرفون
غير
قليلٍ من التوراة كالنصارى.
وعلى ما هو واقعٌ من نقصٍ عدد اليهود كثيرًا لا تزال عاداتهم ذات نفوذٍ كبير في الطقوس
النصرانية كما في الماضي، فمما اقتبسه النصارى منهم ختان الجنسين، وتقديس السبوت مع الآحاد،
واتخاذ خلق العالم مبدأ للتاريخ، ورقص القسوس حول قدس الأقداس، وشيد الكنائس المهمة على
طراز
هيكل سليمان، وتفضيل العهد القديم، واعتقاد العود إلى أورشليم (القدس)، وتحية «ليكن السبت
معك!»
والغلا الوثنيون، الذين يقال: إنهم هاجروا إلى البلاد في القرن الرابع عشر نتيجةً
لعدم
المراعي في منطقة جبل إلغون، كثيرون بين الأرقاء والشرفاء، ويعدون أحسن جنود البلد، وهم
سيافةٌ
٢٢ ونبالةٌ
٢٣ ماهرون، وهم فرسانٌ ممتازون، وهم لا يستعملون الأسلحة النارية مع ذلك، ولا ينفك
الأمراء ينتفعون بهم في حروبهم الطاحنة كمرتزقةٍ، ويقال: إنهم يمتازون من النصارى بأعمالهم
ونشاطهم وقناعتهم، ولكنهم كالنصارى قسوةً وتعطشًا إلى الانتقام، ومن المحتمل أن تكون
عادة المثلة
٢٤ بالعدو وخصيه وحمل قضيبه على الزنار
٢٥ كغنيمةٍ أو تعليقه على باب القتيل من مبتكراتهم، وإذا عاشت زوجة المغلوب مع الغالب
من غير مراعاةٍ لهذه العادة طعنت فيها النساء الأخر، ويروى أن الغلا يقدمون قرابين بشريةً
إلى
آلهتهم، وأن هؤلاء الضحايا يعينون بالقرعة وقت المجاعة، والغلا يخافون النيل (الأزرق)
فيضحون
عند منبعه بعجولٍ وبقرٍ، والغلا يعبدون الشمس والنار والأشجار والحجارة الثلاثة الكبرى
التي
سقطت من السماء بالقرب من النيل الأزرق، بيد أن عاداتهم تختلف بين قريةٍ وقرية، وهم حين
تظهر
بينهم هنالك بقايا من التمدن المصري القديم مع الكاهن الملك والثور المقدس يبدو لأعيننا
منظرٌ
شاملٌ لحضاراتٍ لا يستطيع أن يحققها غير النيل في جميع العالم الغربي.