الفصل الثامن
ضِيقُ الرَّتائِج،
١ وظاهرة الأمطار، واتساعُ البلد الذي هو أكبر من فرنسة وإيطالية مجتمعتَيْن،
وتَعَذُّر مراقبته في مجموعه، ومشكلةُ حكومةٍ في قُطرٍ يَأبَى المركزية وعاطلٍ من أيِّ
شعورٍ
بالتضامن الاجتماعيِّ كما في سويسرة، والغزوات التي تعرقل الصناعة، وجمهورُ القساوسة
الذين
يخشون العمل، واستبداد السلطة المركزية التي يُحمَل عليها الأفراد دومًا، كلها عوامل
تؤدي إلى
الفوضى ولو لم يكن في الأساس عَبِيدٌ، ولا يُرجَى إصلاحٌ اجتماعيٌّ بواسطة العبيد، وقد
حُلَّت
المعضلة الاجتماعية بأبسط الطرق، ولو لم يكن القومُ نصارى ما اعتُرِض على الحل، وليس
الخلاف بين
السلطان والإيمان أعظمَ مما عند شعوب أوروبة، وإنما هو أكثر منه وضوحًا.
والنجاشي الشديد النصرانية هو أول من يتجلَّى فيه ذلك الخلاف، فمنذ ثلاثين سنةً مضت
كانت له
خمسمائة سرِّيةٍ، وكان من هؤلاء السراري عشرون يُقِمن بجوار قصره المباشر، (وهذا ما يَصعُب
تحقيقه الآن)، وتجد أصل هذه العادة في المبدأ الغريب السائدِ لجميع تلك القبائل، وهو
أن على
الملك أن يكون له أكبر عددٍ ممكن من الأولاد. وفي بلاد العرب القديمة، حيث تقترن الحظوة
بالمنزلة، كانت حظيَّة السلطان تُغْمَر بالهدايا كما في رواية ألف ليلة وليلة، واليوم
يَعُدُّ
النجاشي مثلَ هذا الأمر من شدة القبول ما يَجِبُ معه على كل سُرِّيَّة أن تأتي بجهازٍ
جميل، أن
تأتي بالبقر والخيل والعبيد والفراء، ومما يُضِيفه العقد إلى ذلك أحيانًا إحضار اثني
عشر هِرًّا
لإبادة الفئران، وهذا إلى وجوب اعتناق السرِّية للنصرانية.
والسرية إذا وضعت ابنًا غير شرعيٍّ كانت أوفر حظًّا من الإمبراطورة التي يُسجَن أبناؤها
على
العموم عند تغيير ولي الأمر، والقرآنُ ينظم هذا الوضعَ بأحسنَ من ذلك، وأكثرُ من ذلك
ملاءمةً
للفطرة وضع الزنجي الوثني الذي يَعُدُّ المرأة أداةً للعمل فلا يفرق حتى بين الولد الشرعي
والولد غير الشرعي الذي كان اختراعُ البيض لعدم شرعيته أعظمَ الأمور مخالفةً للأخلاق!
وتُوِّج النجاشي الجديد سنة ١٩٣٠، ويلوح أنه عصريٌّ أكثر مما يودُّ أن يبدو به، ولكنه
يسيطر
كأحد الخلفاء، والخط الحديدي الوحيد في بلده هو الذي يصل الساحل بالعاصمة التي لا تحتوي
غيرَ
هاتفٍ واحد، وبالقرب من بحيرة طانة تَرَى أعمدةً مقلوبةً لخطٍّ برقيٍّ خَرِب، ويأكل النجاشي
على
أطباقٍ من ذهب، غير أن أكثر مساكن مدنه الثلاثِ من الوَقْشِ،
٢ وهو قد دَعَا مجلسين ليقوم عملهما الوحيد على الموافقة بهزِّ الرءوس، وهو مع ذلك قد
كان من النباهة ما زَوَّج معه أحد أمرائه بقريبةٍ لملك يابانيٍّ في سنة ١٩٣٢ حين مَنَحَ
اليابان
امتيازاتٍ عظيمةً.
وإذا ما أقام النجاشي مهرجانًا ترويحًا لحرسه فَصَلَته هو وحاشيته ستائرُ مسرحيةٌ
كبيرةٌ من
الرواق الذي يُعَيِّد فيه ألفا جنديٍّ، وتَرَى بجانبٍ من الستار منظرًا من مناظر القرون
الوسطى،
ترى ضبَّاط القصر جثيًّا، وترى ملكًا يأكل ويشرب ويسمع لمغنٍّ ويهيمن. وترى في الجانب
الآخر
جمهورًا جالسًا القرفصاء حول موائدَ منخفضةٍ صاخبًا مصفِّقًا لينسجم هو وجوقةٌ مؤلفةٌ
من دفوفٍ
وطبول، وبين الصفوف تُبصِر مئاتِ العبيد يُحضِرون ضأنًا كاملةً وأرباعَ بقرٍ فيُمكن كلَّ
مدعوٍّ
أن يقطع حصَّتَه بسكِّينه، ثم يُؤْتَى بطُسُوتٍ
٣ مملوءةٍ ماءً وبمناشفَ لغسل الأيدي القذرة بعد المأدبة، ثم يُجْلَب شراب العسل في
براميل والجعة في دِنَانٍ
٤ فيَملأ عبيد آخرون أكوابًا وقرونًا للشرب، ويُرْفَع الستار في آخر الأمر فيَخِرُّ
الحضور للنجاشي ساجدين، وهكذا تُشد في يومٍ واحد مشاعر ثلاثين ألفًا من الرعايا
الأوفياء.
ورئيس التشريفات أكثر رجال الحبشة هَمًّا؛ وذلك لأن الألوفَ من كبار الموظفين هم
في دَوْرِ
الانتظار بحكم المقام والوسام، وإلى أيِّ مَدًى يكون صدر النجاشي مجردًا، وما هو المقدارُ
الذي
يَجِبُ أن يكون به بَدَنُ الأعيان كاسيًا؟ وما هو عدد الدَّفَّافين
٥ والطبَّالين الذين يَجُوز أن يتقدموا أحدَ الموظفين في الطريق؛ أي إلى أيِّ مدًى
يَحِقُّ لموسيقاه أن تكون صاخبةً، وإلى أيِّ درجةٍ يَجِبُ أن تكون موسيقى الموظف التابع
أقلَّ
ضجيجًا؟ ومن ذا الذي يَحِقُّ له أن يلبس سروالًا كسروال النجاشي أو مماثلًا لسراويل الوزراء؟
ومن ذا الذي يكون على مِقْبَض سيفه شِبه لوحٍ مَعْدِنيٍّ؟ ومن هم أصحابُ الامتيازات الذين
يستطيعون أن ينتحلوا بعضَ الألوان لمعاطفهم ومَظَالِّهم؟ هذه هي المسائل التي تشغل بالَ
الأشراف
في طول البلاد وعرضها، وهي مَصدَر كلِّ سلطان، وبفضل علامات الشرف هذه يُتَمَتَّع بملاذِّ
الحياة.
وتُبصِر على ذورة الهرم الحَبَشِيِّ إمبراطورًا واحدًا، وتُبْصِر ألوفَ العبيد دونه.
والواقع أن الحجارة في الهَرَم يَثقُل بعضها على بعضٍ، فعلى المرء أن يَسعى ليكون فوق
غيره إذن.
على أن النجاشيَّ إذا ما أراد أن يكون عادلًا لم يسطع أن يَرَى كل شيء، فالجبال أعلى
من هَرَمه،
ولم يحدث حتى الآن أن بَحَثَ رجلٌ أبيض بحثًا عميقًا عن لُصُوصيَّة الإقطاعيين في المدن
والقرى
والمراعي وضفاف الأودية العليا، وعن الأساليب الجديرة بالقرون الوسطى فيَعِيش بها الأمراء
والشرفاء والقساوسة على حساب مرءوسهم، وليس للضباط والموظفين شهرياتٌ أو لا يَقبِضون
غيرَ
رواتبَ هزيلة فتجدهم يَنْهَبُون الشعبَ مع ازدرائهم إياه كازدراء الشعبِ لفقراء الضباط
والقُسُوس، ومما يُروى أن راسًا أَمَرَ وهو يُحْتَضَر قائلًا: «ادفنوني مع تركِ ذراعٍ
لي خارجَ
التراب حتى أستطيع أن أَجبِيَ ضرائبَ.»
ومن ذا الذي يشعر بحافزٍ نفسيٍّ إلى العمل في هذه الدولة التي لا يكون غيرُ الموظفين
أصحابَ
مالٍ فيها؟ وكل شيءٍ هنالك خاصٌّ بالنجاشي، والنجاشي لا يُقطِع المقربين أرضًا إلا لكي
يجمعوا
ضرائبَ عالية، ومثلُ هذه الضرائب لا تُجبَى في بلدٍ سيئ الزراعة كذلك البلد إلا بالإغضاء
عن اللَّصَاص
٦ والنِّخاسة، ولا تَجِد غنيًّا يشتغل هنالك، وتجار المسلمين وحدهم — وهم أوسع حيلةً
من النصارى — ينالون بعض الربح من السِّلَع التي يصدرها النجاشي كالعاج والبُنِّ والشمع
والجلود؛ أي ما تعدل قيمته ثلاثين مليون دولار
٧ دع عنك حسابَ الذهب.
وليست النقود الذهبية هي التي يَعرِفها الجميع ويرضى بها، وإنما هي الدولارات الفضية
الكبرى
المشتملة على صورة عاهلةٍ بعيدة يَجهَلها الناس في الحَبَشَة جهلًا تامًّا، فمما حَدَثَ
منذ
قرنٍ ونصفِ قرنٍ أن أدخل نَمسَويون من تُجَّار الشرق الأدنى تاليرَ مارِي تيريز، فلم
ينقطع ضربُ
هذه النقود منذ ذلك الحين لهذا السبب، ويُسْتَحَبُّ أن تُلَوَّثَ النقود قبل أن يتداول
بها لرفض
القِطَع اللامعة من قِبَل سكان البلاد الأصليين، وعند بِيكَر أن سبب حُظوة هذه النقود
هو وضوح
نقوشها البارزة.
وليس لنصارى الحبشة — بعد اتصال قرونٍ بالحضارة — حتى أخلاق الأوغنديين الوثنيين وأوضاعهم
قبل وصول البِيض الأوَّلين، فالشعب يمزِّق اللحم التِّيء بالأسنان، وهم لا يختلفون عن
الأنمار
في ذلك إلا بتقطيعهم اللحم بسكاكينهم بين أسنانهم، والأغنياء منهم، ويلبسون قلائدَ كثيرةً
من
ذهب وريشٍ، لا يُفَكِّرون إلا نادرًا في تعليم أولادهم شيئًا غيرَ القراءة والكتابة،
وقليلًا من
تاريخِ بلدهم وجغرافيته في بعض الأحيان، ومعارف ضئيلةً عما يعيش فيه من حيوانٍ ونبات،
ولا ترى
هنا شيئًا من مهارة زنوج أفريقية الغربية، وتقتصر الموسيقى على الأوراد الكنسية المملة
وعلى صوت
الدفوف ودَرْدَاب الطبول، ولا تُبْصِر رقصًا قوميًّا، ولا تعرف الدُّمَى التي هي ألعوبة
جميع
القبائل الزنجية، وتُلعَب لُعبة الدَّاما وضربٌ من لُعبة الكرة والصَّوْلَجان.