الفصل الثالث
يهدأ النيل الشاب على مسافة ستين كيلومترًا من مجراه بعد منبعه، ويتعرَّفُ النيل الشاب
ببطائنه، ويَنزِل مائتي متر بين المساقط والدوافع، ويُحيط ببضع جُزَيراتٍ كثيرة الغابات،
ويُبصِر أناسًا عراةً أنشئوا أكواخًا لصيد السمك وتجفيفه وتدخينه.
والنيل عندما يغادر الدوافعَ ويَتَّسع ويَسلُك سبيلَ الحكمة يباغته الناس ويُرهِبُونه
بأمرٍ
جديد عليه لا ريب، وبيانُ ذلك أن زوارق وبواخر صغيرةً تنتظره فيرى لزامًا أن يحتمل استواء
أناسٍ
على ظهره، ويبدأ النيل وَضْعَ ذلك الوِزْرِ
١ عنه بشدة، وتُعِينُه حجارة قَرَاره وصخور قاعه على ذلك، ثم يُذْعِن لما كان من
إنشاء الإنسان الماكر سُفُنًا ذاتَ حَيَازِيمَ
٢ مسطحةٍ. فيظل النيل صالحًا للملاحة مائتي كيلومتر، وبالقرب من المكان الذي يغدو به
ذلك الأمر ظاهرةَ النيل، ومن درجة العرض الشمالية الأولى، يلوح الخطُّ الحديدي متوجهًا
إلى
الجنوب الشرقي نحو كينيا والبحر بما لا يكاد يُمَسُّ به النيل، ولا يدنو الخط الحديديُّ
الثاني
من هذا البر إلا في الدرجة الثالثةَ عشرةَ الشمالية؛ أي بعد ألفيْ كيلومتر، فهذا هو طول
البقاع
التي تعترض دون إنشاء خطوط حديدية.
ولا يكاد النيل يحتمل باخرةً حتى يُعَانِيَ مغامرةً جديدة؛ وذلك أن ضفاف مجراه تتوارى
فيتَّسع مقدارًا فمقدارًا، وأين الغابة التي تَفرِض عليه حدودًا ثابتة؟ كان عرضه ستمائة
مترٍ
منذ هنيهة، فلم يلبث أن انبسط على كيلومترات ويَغِيض ماؤه، ويصبح ناقصَ الصورة، ويهبط
في ضربٍ
من الإسفنج فيُخشَى ضَيَاعُه، ويتقدم، وكلما تقدم تمطى وأضحى عمقُه ثلاثةَ أمتار أو أقلَّ
من
ذلك عند طرف المستنقَع، وهذا إلى ما يظهر من ستره بالخُضَر والزهر، ويبدو كل شيءٍ حوله
ساكنًا
نائمًا، ويلوح إقدامه معطَّلًا وسروره زائلًا، وماذا حدث إذن؟
ترانا في بحيرة كيوغا، وهي مساحةٌ واسعة من الماء مع أربعة فروع كبيرة، وهي مستنقعٌ
يحفُّ
البردي من حوله، ويجتابه النيلُ في مائة كيلومتر فيعاني نباتَه، وتتأصَّل جذور النِّيلُوفَر
٣ بسهولةٍ في تلك المياه الدنيا، ويَكسُوها هذا النبات العجيب الأزرق السماوي مع
تجاويفَ ذهبية يعلوها زهرٌ آخر أحيانًا، فكأن ذلك بِسَاطٌ حقيقيٌّ مُصوَّرٌ نَمَطِيٌّ
يتوارى
النهر تحته تقريبًا.
وتحاذر الروافد الأولى أن تُفْضِيَ إلى هذا الإسفنج لما يسفر ذلك عن امتصاصه لها،
وفي أقصى
طرف البحيرة الغربيِّ، حيث يتركها النيل، ينضمُّ إليه أخوه الصغير نهر كافو خاتمًا حياته
الصغيرة هنالك، ويتجه النيل إلى الشمال بعد أن يصير نهرًا مرةً أخرى، ولكن مع محافظته
على
جِرْيَة بحيرةٍ، ولكن مع ظهوره متثاقلًا متوانيًا مستغدرًا
٤ مُتخيِّلًا.
وفي تلك المرحلة من المجرى يمكن قياس نظام النيل بما لبعض السجايا من تغيرٍ دوريٍّ،
والنيلُ
يغيِّر ثم يغيِّر جريه ولونه مناوبةً وعلى غير انتظامٍ في ألوفٍ من الفراسخ وطويلٍ من
الشهور،
فطورًا تراه هائجًا عبوسًا وطورًا تراه سائبًا تَعِبًا، ومن المتعذر أن يُعرف أيُّ الأمرين
يؤثِّر في الآخر ويطبعه بطابعه: النيل أم البلد المحيط به؟ وإنما الذي يقال الآن هو أنه
يَدْلِف
٥ نحو الشمال مع انحدارٍ غير محسوس على وزن بحيرة كيوغا.
وينعطف النيل بغتةً، ويترك ذلك الاتجاه الشماليَّ للمرة الأولى، ويَسِير نحو الغرب
ويتحول
تحولًا تامًّا، وما يلاقيه من أرضٍ صخرية فيشُدُّ عزيمته فيقلب السفن، وينقلب إلى سيلٍ
منيع كما
في صباه ويَضِيق مجراه ويعمُق مسيله، وهل هذه مغامرةٌ جديدة؟
يظهر فَلْقٌ أفريقيٌّ فجأةً مع طرف متلفف، فالبُقعة تصير صخرية، وتتجمَّع كتل الصوَّان
ويتكوَّن عقيقٌ،
٦ ولم يجاوز النيل حتى الآن غيرَ دوافع واسعةٍ جدًّا، ويَهبِط النيل الذي ضُغِطَ في
عرض ستة أمتار للمرة الأولى من ارتفاع أربعين مترًا، ويؤدِّي مَصَبُّ البحر الاستوائيِّ
الداخلي
إلى هذا المسقط الذي يتدهور به النهر في بضع ثوانٍ مع إرزام
٧ رعدٍ وهباء
٨ ماءٍ وزَبَد.
ويُوجِدُ النيل سجيَّتَه بمساقط مرشسن تلك التي هي أهمُّ ما في جريه، ويعرض للنيل
أمرٌ
هائل، فهو يهبط من منطقة أفريقية إلى أخرى، وتُحَوِّله مغامرةُ الشباب هذه التي هي ولعٌ
جامحٌ
تحويلًا تامًّا، وهنا لا يلهو بقر ماء ولا تمساحٌ، حتى إن الطير قليلٌ هنا، حتى إن السمك
لا
يحاول العودَ إلى مأتاه هنا، ولكنك ترى جسرًا خالدًا يصل الماءَ بالسماء، ولكنك ترى قوس
قزح،
وينعكس النور في كل مكان على الألوف من مَهَا
٩ الطلق
١٠ التي هي أساسٌ برَّاق لهذا المنظر المؤثر.
وعلى مسافة فرسخٍ من هنالك لا يزال الزَّبَدُ فوق الموج الهائج مشاهِدًا لما يعانيه
النيل
من رَجٍّ، ثم يتَّجِه النيل من بين شجيرات منثورةٍ في السُّهْب،
١١ إلى وادٍ يتسع بسرعة، ويجد النيل نفسه للمرة الأولى تجاه ظاهرةٍ عجيبة ترجع إلى ما
قبل التاريخ، فالفيل يدنو من النيل نحو المساء.
هو ضخمٌ، هو آخر مَنْ سَيْطَرَ في تلك الأرض على جميع المخلوقات الأخرى، هو الأقوى
الذي لا
يقدر على مقاومته حيوانٌ ولا شجر، هو الذي لا يبالي بشكِّ شوكةٍ
١٢ أو لسع ثعبان، هو شاعرٌ كالعظماء بقدرته التي لا يحتاج من يخشاها، هو ليس فحورًا
ولا ضاريًا، هو أكرم الحيوانات وأذكاها طُرًّا، هو حليمٌ طَيِّبُ المزاج مع شدة انتقامٍ
عندما
يدافع عن صغاره تجاه هَجَمَات الإنسان الغادرة، هو مُجَهَّزٌ بأصغر العيون في أكبر الوجوه
وبأدقِّ صماخٍ
١٣ تحت أعظم لُغْدٍ
١٤ هو ذو عُضْوٍ نصفه أنفٌ ونصفه ذراعٌ وذو عاجٍ يستطيع أن يُتْلِف به كل شيء، هو لا
يخرِّب غيرَ الضروري مع ذلك، هو قلما يُرْهِب أو يصطاد الحيوانات الأخرى، هو لا يأكل
منها، هو
يغتذي بالعشب الغَضِّ وبقشر الشجر وبالثمر كغيلان الأقاصيص، هو إذا ما وَطِئَ الأرضَ
بقوائمه
الهائلة كان دَوْسُه من الحفة كدوس الجائل، والحق أن هذا الحيوان الذي يرجع إلى ما قبل
الطوفان
بعيدٌ من الثقل والتوحش، والحقُّ أنك تبصر الهدوء في نظره وسيره.
وفي سالف الأدوار كان الفيل معروفًا في جميع الأرض، وليس في العالَم مكان وُجِد فيه
من
العاج مثلما وجد في منطقة مضيق برنغ،
١٥ ووجد الفيل في رومة وإرلندة وإسبانية الشمالية وسيبرية، وما عُثِرَ عليه في هذه
البلدان من عظامه التي هي عظام الفيل الأفريقيِّ فيكفي لإثبات سابق اتصالٍ بين القارتين،
وكان
الفيل يعيش في أوروبة في الأزمنة التاريخية أيضًا، فقد رأى سائحٌ فنيقيٌّ فيولًا بجوار
جبل
طارق، ويدلُّ رسم فِيَلَة هَنِيبال في النقود على صمخٍ ضخمةٍ وظهورٍ منحدرة لا تَرَى
لها نظيرًا
في أفيال الهند.
وتخرج من الغابة جماعةٌ من الفِيَلَة، ولا يكاد يُشعِر بطقطقةٍ لها لشدة حَذَرِها،
والبلاشين وحدها هي التي تَنِمُّ عليها حينما تَحُوم فوقها؛ وذلك لأن البلاشين تتغذَّى
بالحشرات
التي تَعِيش على جلودها كما يعيش اللغويُّون من الشعراء، وتحذر الفيول الإنسان، والإنسانُ
يَنْصِب لها أشراكًا في الغالب، وتَقِفُ الفيول وتترقَّب ولا يُسمع سوى تصفيقٍ لآذانها،
وتتحرَّز الفيول لوجود صغيرٍ بينها، وهي تتوارى صامتة إذا لم تُبْصَر، وهي على عكس الإنسان
تجبه
العدوَّ إذا ما كُشِفَ أمرها، والآن تخرج الأفيال من الأدغال ويبدو ثلثا أجسامها ويبلُغ
الكلأ
الطويل مستوى رُكَبِها، ويجعل الصغير نفسه تحت أُمِّه وبين قائمتيها الأماميتين حيث اللَّوَابِن،
١٦ ويُلقي الصغير خرطومه إلى الخلف ليرضع بفمه، وتدخُل الفيول الأخرى في الماء بعد أن
تسحق كل شيءٍ في خليج، لا عن حِدَّة، بل عن ضخامة، وتزنخر
١٧ بمنخرها في النيل وتَنْضَح
١٨ ظهرها بخرطومها وتشرب وتأكل الكلأ العالي في المرج، ولا يُرى لها مَضْغٌ، فهي لا
تَفْغَر فمًا عظيمًا كما يفعل بقر الماء، وإنما يتوارى كلُّ شيءٍ في هُوَّةٍ لا قعر لها
كما
يلوح.
وعندما تأخذ الفِيَلة في الأوب من النهر تبدُو سودًا في سهبٍ أصفر، غير أن أنيابها
تلمع
بيضًا في الذكور والإناث منها على السواء، ويقود الذكر جمعها، ويأخذ مالك الحزين مكانَه
من ظهره
كالجِنِّيِّ الأبيض الذي يقود كبار المجرمين وشيوخَ الأشرار وفقَ ما جاء في الأساطير،
ويرجع
الفيل الضخم إلى الغابة مُرَوَّحًا مبللًا سعيدًا مائدًا،
١٩ والفيلُ في طريقه يمسُّ بخرطومه شجرة سنطٍ ليرى هل تستحقُّ أن تُقْشَر، والفيل في
طريقه يلتفت ليطمئنَّ إلى أن زوجَه وولده يتَّبِعانه، وهكذا يعود الفيل من ضفاف النيل
إلى ظلال
الأيكة البكر المدهامَّة حيث يسيطر بعقل إنسانٍ بصير فيرتِّب ويذكُر طليقًا طلاقةَ موجودٍ
عالٍ
قويًّا أكثر من كلِّ حيٍ باديًا آخرَ مَلِكٍ حقيقيٍّ للطبيعة.
وهنالك حيث يتَّسِع النهر بالتدريج ترى وطنَ بقر الماء والتمساح، وفي مساقط مُرْشِسُن
بمجرى
النهر التحتانيِّ تبصر الألوفَ من هذه الحيوانات، وتلك المياه التي تُبدي نفسها للشمس
والتي هي
حمامٌ جبَّارةٌ تَحمِي هذه الموجوداتِ المائيةَ من كلِّ خَطَر.
والحقُّ أن النيل للمرة الأولى يُلاقِي بحيرةً كبيرة بلا شواطئ كبحيرة فيكتورية التي
يتركها
خلفه من غير أن يراها، والنيل، وراء السُّهْب الأصفر المقطَّع كدلتا ينتهي إلى طرف بحيرة
ألبرت
الشمالي الأقصى، والنيل يجوب هذه البحيرة، وهنا — وعلى بعد ٥٠٠ كيلومتر من منبعه — يعدل
النيل
عن التسمِّي بنيل فيكتورية إلى التسمي بنيل ألبرت لما عُزِّز به من منبعٍ قويٍّ آخر،
وتوجد مئات
التماسيح على جزرٍ مستوية وعلى أنوفٍ تتقدم كألسنة جزائر فريز،
٢٠ وتَثِبُ أسماكٌ فضيةٌ من خلال أمواج خُلجانٍ ملوَّنةٍ بألوان قوس قزح على حين يظهر
ماء البحيرة أزرق في مكانٍ آخر، وعلى الشواطئ حيث يتناوب الغاب والشهب تعبث جماعةٌ رائعة
من
الأوعال، وتقترب الظباء من النيل الذي يَسقِي كلَّ حيوان.
ولكن النيل لا يضمحلُّ في ماء هذه البحيرة الصافي كما
حدث له في إسفنج كِيُوغا؛ وسبب ذلك أن جُرَافًا
٢١ عنيفًا يجرُّه وتُخَطُّ طريقه، وفي الغرب البعيد تنتصب ظلالٌ بنفسجيةٌ لجبال شامخة،
وهنالك يجري نهرٌ كبير آخر، يجري نهر الكونغو متجهًا إلى الغرب، ولن يرى النيل هذا النهر،
والنيل يجرُّه مجراه إلى الشمال، ولنَرَ ما الذي يغذِّي ذلك المنبع الثاني الذي هو حوض
بحيرة
ألبرت العظيم، وذلك قبل أن نقتفي أثر النيل.