الفصل الأول
طائرةٌ تحلق فوق راكبِ قَلُوص
١ عصوفٍ،
٢ ذلك هو طابعُ بريدِ السودان، ولو سار ذلك الراكبُ عن شمال النيل منحرفًا قليلًا إلى
غرب بحيرة نُو لأمكنه أن يَقطَع عشرين درجةَ عرضٍ؛ أي ألفيْ كيلومتر على خطٍّ مستقيم،
وأن
يَصِلَ إلى القاهرة من غير أن يُلَاقِيَ مجرى ماء، وهو إذا ما انطلق من الضِّفة اليمنى،
من
مَصَبِّ العَطْبرة، بَلَغ مصبَّ النيل بعد جَوْب اثنتيْ عشرة درجةً من العرض من غير أن
يَجِدَ
نهرًا أو مطرًا، وتمتدُّ تلك البقعة العاطلة من الماء حتى شاطئ أفريقية الغربيِّ اثنتيْ
عشرةَ
درجةً من العرض ونحو خمسين درجةً من الطول، وهذه هي الصحراء، وهي الصحراء نفسها في شرق
النيل مع
اختلاف الاسم.
ومع ذلك، وفي ذلك المكان حيث لا يعترضُ النهرَ جبلٌ، يَتْرُك النهرُ اتجاهَه نحو
الشمال
وينعطف، وهذه العطفةُ هي الوحيدة في حياته، وفيما يَسِير القطار والطائرة والجمَّال على
قَعُوده
٣ يمينًا إذ يَقِفُ النهرَ عائقٌ فيَرسُم
S في رمل
الصحراء الأمغر.
٤
ولو نَفِدَ ماؤه، ولو مات ظمأً، ما قَضَى أحدٌ من ذلك العَجَب، وليَجُبْ فارسٌ سهلًا
خاليًا
من النبات، بالغًا من الاتساع نصفَ مِساحة أوروبة، وليكن ذلك الفارس عاطلًا من أخٍ أو
صديق
يأتيه بماء، وليُعَرِّض ذلك الفارسُ يومًا بعد يومٍ لسعيرٍ لا يخفُّ حره إلا ليلًا، وليَقِفْ
ذلك الفارسَ حاجزٌ من صوَّانٍ بغتةً، وليُقضَ عليه لهذا السبب بأن يقطع دورةَ مئاتِ الكيلومترات
مع ضرورة إسراعه لبلوغ بلده أو لبلوغ البحر أو المرافئ، أفلا تَهلِك ناقته إعياءً قبل
الوصول
إلى هدف الرِّحلة؟
والنيل — مع ذلك — يَجرِي منذ ألوف السنين إلى البحر نفسِه مارًّا من الصحراء المحرِقة
عاطلًا من مطرٍ أو صديق أو رفيق فيَجِدُ بأمواجه ما يَنعَشُه، ويَقِفُ النيلَ حاجزٌ من
الصَّوَّان فيدور حوله ويستردُّ بهذا التماسِّ قواه ونشاطَه ويَحتَمل سفنًا فيكافحها
ويكافح
الإنسانَ الذي يُرِيد إمساكَه، ويُوَفَّق في ذلك، ولا يَخْسَر النهر بأسَه ولا يَنْشَف،
ويشقُّ
لنفسه طريقًا من بين رمالٍ لا حدَّ لها كما قَهَرَ المناقع، ويقاوم الجفافَ كما قاوم
الأهوارَ،
٥ ويَصِل إلى البلد الذي أوجده والذي ما فتئ يَروِيه منذ الأزل، يَصِل إلى الدِّلتا،
إلى الموانئ، إلى البحر، إلى مهد جميع الأنهار، ويَا لَهُ من نهر!
وليس الذي يكافحه النيلُ هضبةً أو جبلًا، بل بلدُ أكثبةٍ يتخلَّل السهلَ الرمليَّ
فيه تلالٌ
حجريةٌ مُحرِقة وخروقٌ مدوَّرةٌ وأهرامٌ وجنادل ذات زوايا مضرَّسة وأجوافٌ مفتَّتةٌ وقبابٌ
مقرَّضةٌ؛ وما إلى ذلك من الأمور التي تنمُّ على الريح؛ أي على موجدتها الغَضُوب، وكما
أن عنصر
التذكير العجيب يختلط بعنصر التأنيث في السجايا المتموجة تنتصب تلال صوَّانٍ بين مساحات
واسعة
من الرمال المتموجة، فبعد أن يَسِيخ الجمل حتى الرُّكَب في تلك الرمال المتموجة يكاد
يَفقِد
رجله على تلك الزوايا الوَعِرة، وتُشَبَّه الصحراء بالبحر في الغالب، ولا بد من الرقية
ليكون
هذا العنصر المتحرك مشابهًا للصحراء الميِّتة، وفي أعماق البحر يقوم عالَمٌ خفيٌّ من
النبات
والحيوان لا تنفُذ إليه غير عين الغواص، والحركة والتحول وفوضى الأشكال آيةُ كل شيء فيه؛
أي ما
يعاكس نَكَدَ البادية؛ وذلك لأن الجمود يَعُود إلى تلك الأراضي الميتة إذا ما كَفَّت
الريحُ عن
كَفْتِها.
والوهميُّ هو الأمر الوحيد المشترك بين البحر والصحراء، وبينهما وبين حقل الجليد،
والإنسان
— وهو الذي تعوَّد الشعور بالحياة حوله — يُذعَر تجاه العناصر، فلا يبالي بكون البحر
والصحراء
وحقل الجليد أشياء تعيش حقًّا، ومن شأن البساطة التي تقوم مقام التنوُّع، والتنوعُ مما
يُزعِج
الجمهورَ، أن تَفصِل سكانَ هذه البقاع الثلاث عن العناصر الصامتة، وأن تَجعل بعض هذه
العناصر
مشابهًا لبعض، وأن تعُدَّ الجميع ساكنًا خاشعًا.
وهل هي صامتةٌ؟ يسمع ابن الجبل صَئِيَّ اليَربُوع
٦ حتى ذُرَى أعلى المرتفعات، وتُردِّد حقول الجليد والبحار والقفار صَدَى الجوارح
التي تَحُوم حول سمكةٍ في الماء ونداء الرِّمَّة
٧ في الرمل. ومن المحتمل أن كانت غايةُ هذا الصوت هي الدلالةَ على حياة تلك الأشياء،
ويهيمن على العناصر الثلاثة هزيزُ الرياح
٨ أو صوت العواصف، فتقشعرُّ
٩ منه جلود أكثرِ الناس إقدامًا.
ويا للتنوع في الصحراء! تَقُوم في سواء الأتاوِيهِ
١٠ الصخرية جبالٌ من الصَّوَّان والرخام السُّمَّاقي يبلغ ارتفاعها ألفيْ متر، ويقال
إنها تَكَونت في شرق النيل حين هبوط وَهْدَة
١١ أفريقية الغربية الكبرى، ويَعقُب الصخورَ السودَ صخورٌ نيِّرة من الرُّخام الذي إذا
ما فُصِلَت عنه قطعةٌ بالمِدَقِّ وُجِدَت بيضاء كرخام كارَّارا
١٢ أو ذاتَ عروقٍ حمرٍ وسودٍ، وفي غرب النيل، حتى صحراء ليبية، تَظهَر أوديةٌ صخريةٌ
طويلة متمزقة أو أوديةٌ وأنهارٌ متحجِّرة عن لعنةٍ بعد أن كانت هذه الأودية والأنهار
المرهوبة
روافدَ نافذةً إلى النيل على الراجح. والضياء هنا يتغير تغيُّر الأشكال وإن لم يَنخُله
١٣ غَمَامٌ، وفي أيام الضَّبَاب تُنِير شمسٌ زرقاءُ شاحبةٌ بحرًا بلون الزعفران،
١٤ وهنالك يشبِّه الأعرابُ الشمسَ بالقمر في أغانيهم، وهذه الظاهرة هي طليعة الزوبعة
في الغالب.
ويُقْتِم نورُ النهار الذي يُعشِي الأبصار، ويَعقُبُه وميضٌ ضارب إلى صُفْرة، وتَلُوح
أطوادٌ
١٥ سُمرٌ كسلسلةٍ يمكن لمسها، ولا تَشعُر بهبَّة ريح، ويَضغَطك صُمُوتٌ أو «ظلام كثيف»
كما جاء في التوراة، ويدنو سحابٌ مُغِمٌّ يَصحبه هَزِيمٌ
١٦ بعيدٌ، وتهبُّ عاصفةٌ محرقة متوعِّدةٌ صاخبةٌ قاذفةٌ برمالٍ وحجارة، ويُسْتَلْقَى
على الأرض لما تُوجِبه من خبطٍ وقتلٍ للإنسان والحيوان، وتُقْلَب الخِيام وتُقْطَع الحبال
من
غير أن ينتبه أحدٌ إلى ذلك، والجميعُ يرتَجِف فَرَقًا من هذا الإعصار الذي يُسَوِّد ويغمر
كلَّ
شيء، ولو أنعم إله الرياح نظره في هذا المنظر لأبصر — لا رَيْب — أن أولئك النَّفَر من
الناس
يَضرَعون إليه ساجدين، والعالِم — وإن كان يفسِّر في مكتبه الهادئ بأكسفورد تلك الأعاصيرَ
الجنوبية الغربية بأنها صادرةٌ عن التقاء السحب الباردة وحرارةِ الصحراء الشديدة — يَذهَب
عند
الوجل — كالعرب — إلى أنها من عَمَل الجنِّ أو الأرواح الشرِّيرة، التي تُثِير أعمدة
الرمل.
وتزول الزوبعة — في الغالب — بسرعةٍ كالتي تهبُّ بها، وفيما يَنْهَض الإنسان والحيوان
سالمين حائرين؛ إذ يبصران بجانبهما طيرًا ميِّتًا على ما يحتمل، أو يبصران قُنبُرةً من
قنابر
الصحراء التجأت إلى رَفرَفِ
١٧ خيمةٍ مقوَّضةٍ فعادت إلى الطيران مغرِّدةً، ولا شيءَ أكثر تأثيرًا في النفس من
تلحين القُنْبُرة البعيدة من كلِّ واحة، والتي لا يَعْلَم الشيءَ الذي تعيش به سوى الله،
والتي
تشابه النَّوْرَس
١٨ المرافقَ للسفينة مع ابتعادٍ عن البر أيامًا طويلة.
والماء في الصحراء أمرٌ وهميٌّ كالهواء، والآبار تَهَبُ الحياة للصحراء مع عدم بَصَرٍ
بها
ومع عدم انتظامها، والآبار في الصحراء تبدو بغتةً كالنجوم المذنَّبة فتُحدِث فيها بُقَعًا
خُضْرًا ومراحلَ صغيرةً. أجل، هنالك طرقٌ قديمةٌ تَسِير عليها القوافل بين بئرٍ وبئر،
بَيْدَ أن
الآبار تَظْهَر اتِّفَاقًا كالمجاري البحرية الواقعة تحت الأرض وكفُلُوع
١٩ حقول الجليد فتنتقل مثلَها بين مكانٍ ومكان وفي الحين بعد الحين، ويَنبُع الماء
المُنْقِذ للحياة في قعر وادٍ عميق، ولا يَلبَث كلُّ شيءٍ أن يَخْضَرَّ حوله، وتَظهَر
بعضُ
أشجار السنط الشائكة وبعضُ النخيل اليابسةِ كأنها هِبَةٌ من الآلهة، ويَطرَح كلٌّ من
الإنسان
والحيوان نفسَه لتذوُّق هذا التِّرْياق
٢٠ الذي ينجو به من الشمس المحرقة، وهلمَّ إلى البحر!
ومما يَحْدُث أحيانًا أن يكون الجسم والروح قد سُفِعَا
٢١ منذ أيام بريح خفيفةٍ محرقةٍ فتعْوجُّ عَمَدُ الخيام ويُفْلَج
٢٢ عاج مقابض السكاكين، وتفلع
٢٣ ملفَّات الورق، ويُلصَق الرداء بالغطاء، ويخرج من القميص شَرَرٌ إذا ما كُشِفَ كما
يخرج من الشعر إذا ما مُشِط، وتلوح طائفةٌ من شجر السَّنْط لتَغِيب أخيرًا مُخْبِرةً
بوجود ما.
وتبلغ، واهًا واهًا، لا تَجِد هنالك واحًا،
٢٤ ولا تجد هنالك يَنبُوعًا يُنقِع
٢٥ غُلَّةَ المسافرين المنهوكين، وتُحفَر بئرٌ على عَجَلٍ كشفًا لسماط ماءٍ تحت الأرض
يَمُنُّ بالحياة على النبات، وفيما ترى المعازقَ
٢٦ تجتاس
٢٧ الماءَ في التراب؛ إذ تَسْمَع صَرِيفًا
٢٨ في الشجرة المتقشِّرة نتيجةً لانفصال الصَّمْغِ عن الأغصان.
وكيف يُحْفَظ ذلك الماء؟ لقد اخترع الأعرابيُّ — ليعيش — أوعيةً ترابية ذاتَ منافذَ
يعُدُّها أثمنَ من جميع التَّرَامِس؛
٢٩ وذلك لأن الماء الفاتر يَصِير فيها باردًا نهارًا، ويصير صاقعًا ليلًا، ومما يُفزِع
البدويَّ والسائح الأبيض انسدادُ مسامِّ تلك الآنية، وقد يَحفَظُ ليمونًا في عُلبة صفيح
حفظًا
له من الجفاف فيقسِمه أرباعًا على أن يَمُصَّ في كل نصف ساعة ربعًا، وقد تُبْلَغ أول
واحةٍ على
هذا الوجه، ويقع قَعُود،
٣٠ ويدل غَقِيق العِقْبان
٣١ على أنه لن يبقى منه غير الهيكل العظمي.
وعظام الإبل، كالصُّوَى،
٣٢ دليلٌ على الدرب الصحراوي، وتُبْصِر في كلِّ مِيلٍ في الغالب ستة — أو ثمانية —
هياكل عظمية متبيِّضة متنظِّفة بفعل الشمس والنُّسُور كأنها أُعِدَّت لتكون نماذجَ في
مُتْحَف،
وتَرَى الشكلَ على الأرض مع ذلك، وترى هيكل جملٍ كاملٍ مع ذلك، وستُحرق تلك العظام بالشمس،
وستَختلِط بالرمل، وستَتِمُّ دورة الكائن الحي: من هَبَاءٍ
٣٣ إلى هباءٍ.
وتهب ريح القرون فوق ذلك، ويمحو رملُ العصور آثارَ جميع الناس، آثارَ ولاة الفراعنة
وفاتحي
الإنكليز، وآثار عُبَّاد الشمس والمؤمنين بِنَبِيَّيْ شواطئ البحر المتوسط، وآثارَ سلسلةٍ
متصلة
من الآدميين الذين ماتوا ظمأً فابيضَّت عظامهم تحت زُرقةٍ قاسية لهذه السماء ذات الابتسامة
الكلبية، وبَلِيَت بالريح وتحوَّلت إلى غبارٍ بقوة الشمس واختلطت برمل برتقاليِّ اللون
يمرُّ
عليه الآن سليل أبناء الصحراء أولئك راكبًا جملَه سائلًا في نفسه: هل يَصِل إلى الحدِّ،
إلى
السُّهْب والنهر؟
وهنا، ما أكثر ما ابتُهِل إلى الآلهة في أثناء الزوبعة! وفيما كان السكان الفطريون
يجوبون
تلك الصحراء ليأتوا بنبأٍ عن السهب أو ليَسُوقوا قطيعًا حتى النيل جاهلين فاتحي الأجانب
وآلهتَهم كانوا يعبدون النجوم لاهتدائهم في الطريق بسيرها، ولا أحدَ يعرف عددَ من غَلَبَه
النعاس منهم على قَعُوده فضلَّ لم يَغْدُ غير عظامٍ تذرو الرِّيحُ رمَمَها
٣٤ مع رمم حيوانه، وحينما أَوْغَل الفاتحون المُبَشِّرون بعقائدَ جديدةٍ في السهب،
آتين من البحر الأحمر فاعتنق أهل البدو دين اليونان ثم النصرانيةَ ثم الإسلام في جمعٍ
غريب،
ضَرَعُوا إلى هِرْكُول
٣٥ وبان
٣٦ وإيزيس
٣٧ ويسوعَ ومِرْكُور
٣٨ وآرس،
٣٩ ولكنهم من عُبَّاد النجوم في قرارة أنفسهم حتى الزمن الراهن. ويَروِي مؤلفو العرب
قصةً غريبةً؛ يروون أن أبناء الصحراء والسهب يؤمنون بإله باقٍ وبإلهٍ ثانٍ فانٍ لا اسمَ
له.
وكان عبيد الفراعنة يبحثون عن الذهب بين تلال تلك الصحراء فتَقضِي عواصف الرمل عليهم
وعلى
الأمراء الإقطاعيين والقواد والجنود، ويَصِيرون طعمةً للعِقْبَان، ولكنك لا تَرَى من
جميع من
لَعَنُوا طمعَ وليِّ الأمر في السلطان وتعطُّشَه إليه في آخر ساعة من حياتهم سوى اسم
ابنٍ لملك
أو اسم وجيهٍ كُتِبَ له البقاء بنَقْشه على جِدار معبدٍ في طِيبَة. ومن الأغارقة أناسٌ
نَزَلُوا
إلى هنا بأمر قَمْبِيز،
٤٠ ولم يُغاثوا، وكل ما يُعرف عنهم هو أن أحدًا منهم لم يَعُدْ قطُّ، وقد أزال الرمل
والشمسُ كلَّ أثرٍ لهذه الحملة الرائعة، ولم يَقُمْ أثرٌ لتخليد قصتها فيُسْفِر عن تحويلها
إلى
قصيدة أبطالٍ، وتغدو عظامها رُفاتًا
٤١ وأعفارًا، وتَمَّحِي أسماؤهم معهم، وهذا هو جَبَرُوت الصحراء.