الفصل الثالث
البدوي وحدَه سيد الصحراء وسيد السُّهْب؛ وذلك لأنه يعيش من مواشيه، ولأنه مُكرَهٌ على جلبها من مرعًى إلى مرعًى وَفْقَ هوى جوِّ النيل وهوى المطر، وتمتدُّ أمام البدويِّ ممالك، وليس البدوي مُلْكَ أحد، وإذا لم يَرَ البدوي فتحها اضطُرَّ — دومًا — إلى البحث عن غيرها قبل أن يعود إلى التي كان يشغلها سابقًا.
والبدويُّ ملكٌ في كلِّ مكان، وليس الفلَّاحُ غيرَ أجيرٍ ولو كان أغنى من الملك، وليسكن الفلاح شاطئَ النيل، أو ليسكن واحاتٍ قد تبلغ من الاتساع ما يعدل ولاياتٍ في بعض الأحيان، ليرى أن عاصفةً واحدة تكفي لإتلاف عمله، وهو يوجِّه بصره إلى الأرض مغمومًا، وهو يؤلِّف زُمَرًا للدفاع عن النفس تجاه الضَّوَاري والعناصر، وهو — مع ذلك — لا يخاف أمرًا كخوفه من البدويِّ الضارب خيمتَه على حدود السُّهْب، والذي يَعُدُّ الواحة طليعةً معدَّة للحِصَار والانتهاب، والفلَّاح يَحْذَر البدويَّ حذر المدني من الأَفَّاق، ويستحوذ على الفلاح احتياجٌ إلى أمنٍ غير موجود، ويَركَنُ إلى قوانينَ مذبذبةٍ، ويظلُّ عُرْضَةً لما للنيل والمطر من أهواءٍ لا يقدِر أحدٌ على البَصَر بها ويَفقِد رَوْعته.
الرب هو المشرق، الرب هو المغرب! والأرَضون في الشمال والجنوب ساكنةٌ سكونَ سلم بين يديه … دعوني أعيش كما أهوى فوق سَرْجي! الزموا أكواخكم، الزموا خيامكم، وأما أنا فسأذهب بعيدًا مسرورًا مع النجوم التي هي فوق عمرتي!
أفلا يدنو الإنسان من الله بتلك الحياة التي دامت ألوفَ السنين؟ أفلا يغدو الإنسان بذلك أكثرَ جمالًا؟
وظل القتال في ذلك الإقليم، وبين تلك القبائل، ضرورةً؛ ومن ثم بقي رائعًا، ويقع القتالُ مواجهةً، ولا يزال الصراع والعفو والذبح أمورًا مكتوبةً في اللوح المحفوظ، والكَرَم فضيلةٌ كالانتقام، ومن الإصابة أن استطاع هؤلاء الوثنيون أن يعتنقوا الإسلام، وما انفكَّت النصرانية تكون غريبةً عنهم، وما فَتِئوا يحافظون على كثيرٍ من عادات أهل البدو الذين وَرَدَ ذكرهم في التوراة كالثأر واحترام المَشِيب ونَثْر الغُبار وقت الخطر وشقِّ الثياب، وتَرَى حجَّاجًا بين هؤلاء البدويين، ومن زنوج غرب أفريقية أناسٌ يجوبون جميعَ القارة ليروا مكة ويَعمَلون في الطريق ليعيشوا، ويُقِيمون — أحيانًا — أعوامًا بأسرها بين النيل الأزرق والنيل الأبيض فيؤلِّفون أُسَرًا ولا يبلغون قبرَ النبي إلا بعد عشرين سنةً من مغادرتهم بلادهم عن إيمانٍ عميق لم يَرْوِ مثلَه تاريخ أيةِ فرقةٍ دينية في الغرب.
ولكنك لا تَجِد مثل هذا المزاج النفسيِّ لدى بدويِّي البلاد الأصليين، وهؤلاء لا يدرون ما القرآن ولا سور القرآن، وهؤلاء لا يَعرِفون من مكةَ غير قبلتها التي يوجِّهون سجَّادتهم نحوها قبل الصلاة واضعين إياها على الرمل.
ويَدَع البدوي للنساء من الحرية أكثرَ مما تسمح به الدِّيانات والعادات المحيطة به، ويدرك البدويُّ معنى الغرام، وتنشأ عن عدم حَجْب النساء في دوائر الحريم مكايد ومنازعاتٌ، ومنذ مائة سنةٍ خَلَت اكتشف رائدٌ إنكليزيٌّ بين سِنَّار وكردفان قبيلةً بَلَغَ سلطان النساء فيها من القوة ما يطلبن معه يومَ زواجهن عهدًا خطيًّا يكون لهنَّ به حريةٌ مطلقة يومًا واحدًا في كلِّ أربعة أيام، واليوم لا يزال يوجد في تلك البقعة سَوَاحِر يُصبنَ الرجال بالعجز فلا يُعِدْنَ إليهم سابق رجولتهم إلا لمصلحتهنَّ.
ويوكِّد أمرُ هذه الحرية في الغرام بالوجه الذي يَحصُرُ به أولئك البدويون ميراثَهم في الإناث، وعن البشاريين الذين هم أجمل البدويين يقول كاتبٌ عربي: «لا يُطمأَنُّ إلى أن الزوج هو الأب، بل يطمأنُّ إلى الأم.» وهم يرون أن البنوة بالبنت أو الأخت أصحُّ فيَحرِمون أبناءهم الإرث في سبيل أبناء بناتهم أو أبناء أخَوَاتهم عادِّين إياهم ورثةً لا جدال فيهم من ناحية الدم، والأمومة هي التي كانت تعيِّن الحقَّ في وراثة العرش لدى ملوك آل سِنَّار إلى حين انقراض هؤلاء الآل منذ مائة سنة.
والبدوي وحدَه يَنظُر إلى الحريق بعين الرِّضا، فقد تَطَهَّر مَرْجُه.