الفصل الرابع
إذا لم نَتَقيَّد بحَرْفيَّة مَثَلٍ نَطَقَ به عالِمٌ عربيٌّ قديمٌ أمكننا أن نذهب معه إلى أن النيل يَجرِي أربعة أشهرٍ من الصحراء (الغاب البِكر والجبال والمناقع)، ويجري شهرين من بلد الزنوج وشهرًا واحدًا من دار الإسلام.
والمثلُ العربي يقول: «ضحك الرحمن حينما صَنَعَ السودان»، ونسأل في أنفسنا عن قِسْم السودان الذي ضَحِكَ من أجله؛ وذلك لأن السودان عالَمٌ قائمٌ بنفسه يشتمل على نواحٍ كئيبةٍ وأخرى زاهرةٍ، والسودانُ يمتدُّ من الغابة الاستوائية إلى الصحراء ومن خلال أفريقية الشمالية الشرقية، والسودانُ يَعدِل فرنسة خمسَ مراتٍ مساحةً، ويشتمل على ستة ملايين من الآدميين، وللنيل والمطر في السودان طابعٌ مختلفٌ أشدَّ الاختلاف، وفي الجَنوب يرتفع السودان ألفَ متر، ثم يهبط رويدًا رويدًا ليغدو بلدَ تلالٍ وسهلٍ خلا منطقة دارفور البركانية. وتحفُّ الجبال حول السودان من الجنوب والشرق وجزءٍ من الغرب، ويرتفع السودان نحو الشرق؛ أي نحو الحبشة، ويخضع لحكم الأمطار في أدوارٍ مختلفة على حسب الارتفاع؛ ولذا لا تجد في السودان أية مطابقةٍ في الحيوان والنبات والإنسان.
وينزل من الماء مترٌ في منطقة المناقع سنويًّا، وينزل من الماء مترٌ ونصف مترٍ في الخرطوم سنويًّا، ولا ينزل ماءٌ فيما بين الدرجة الثامنةَ عشرةَ من العرض الشمالي والقاهرة؛ أي بعد بَربَرَ تقريبًا، وفي جَنُوب دائرة السرطان، وعلى عرض الخرطوم، حيث سَمتُ الشمس يَقِف الرياحَ الموسمية وحيث الهواءُ الصاعد يبرِّد الأحرَّ، ينزل المطر بين يونيو وأغسطس لتقدُّم ذلك السمت وتأخُّره إلى أقصى حدٍّ في تلك الأثناء.
وتلك هي أمطار صيفٍ خفيفة تُنبِت الكلأ والطَّرْفاء والعُلَّيق والسَّنْط، وفي الجنوب؛ أي على مسافةٍ كثيرةِ البعد من دائرة السَّرَطان، يكون للأمطار موسمان غير منفصلٍ أحدُهما عن الآخر انفصالًا بَيِّنًا، ويكون الجفاف تامًّا بين مايو وأغسطس، وفي شهر سبتمبر تُجَفِّف الشمس ما في الأرض من بللٍ فيُخَيَّل إلى الإنسان أنه في حَمَّام تركية.
وليست بلاد النوبة غيرَ جزءٍ من السودان يمتدُّ من الخرطوم إلى أسوان تقريبًا، وتمتدُّ نوبية العليا التابعة للسودان حتى وادي حلفا، والدولُ الأوروبية هي التي عيَّنَت الحدَّ الغربيَّ لاشتمال الصحراء على جميع القارَّة من هذه الجهة، وتستر الرياحُ والرمال ما غُرِز من الأوتاد على مسافاتٍ طويلة فصلًا للأملاك الإنكليزية عن الأملاك الفرنسية في عالم الصحراء الواحد.
وكان المصريون يُطلِقون هم والتوارةُ على البقعة الواقعة فوق وادي حلفا اسمَ كوش، وكان الرومان يطلقون عليها اسم إثيوبية، واليومَ لا نعرف من نواحيها غير كردفان التي تصدر الذهب والمطاط منذ زمن طويل. والعالم يعرف أيضًا أن شمال السودان ظلَّ نصرانيًّا قرونًا كثيرة فأسلم في القرن الرابعَ عشرَ، وأن الساميين والحاميين المطعَّمين بدمٍ زنجيٍّ يَقطنون في الشمال، وأن الزنوج المطعمين بدمٍ حاميٍّ يقطنون في الجنوب، وحافظت بلاد النوبة — وهي المنطقة التي نُسمِّي بها قسمَ السودان الواقعَ في شمال الخرطوم — على عاداتها أحسنَ من محافظة مصر التي غَمَرَها الأجانب، ولم تَنفذ حضارة الشمال فيها إلا في أقدم الأزمان وفي العصر الحاضر، وعانت بلاد النوبة في تلك الفترة سلطانَ العرب الذين أتوا من الشمال ومن البحر الأحمر والذين اكتشفوا زِنجبار قبل الأوروبيين بعدة قرون.
وعَيَّن النيل تطورَ تلك البقعة التاريخيَّ؛ لأنه غير صالحٍ للملاحة صلاحًا دائمًا، وينقطع عمل حضارة البحر المتوسط في أسوان عند الشَّلَّال الأول. وقد حاولت جميع السلطات المتمدنة أن تجاوز المساقط مولِّية وجوهها شطر منابع النيل في قوارب على طول ضِفافه، وذلك بقوة الحراب وضَربِ السِّيَاط وبين أنين أبناء البلاد الذين عبَّدَهم الفاتح من عهد الفراعنة إلى عهد محمد علي.
ولم يَسْطِع أحدٌ قبل مائة سنة أن يوحِّد هذا البلدَ الكبير، وهذا التوحيد من صنع عصرنا، ويمكن أن يُقضَى عليه قبل أن يوطَّد أمره ويُحقَّق تحقيقًا تامًّا. ولم يبقَ غيرُ آثار وضيعةٍ مما صَنَعَه رجال القرون القديمة في النيل الأوسط، وقد قامت ممالك في داخل البلاد حيث فسَّحت الغاب للسهب مجالًا، وحيث لا يستطيع الملوك أن يَرقُبوا السهب أكثرَ مما تستطيعه الزرافة، فيشترك الملوك والزرائف كلاهما في السهوب إذن.
ويصبح مخيمٌ بسيطٌ عاصمةَ السودان منذ قرنٍ، ويعرف أميرٌ مصريٌّ فاتحٌ أهميةَ هذا المكان الذي يلتقي النيلان عنده فيُسَمِّيه الخرطوم بسبب شكل الجزيرة الموجودة هنالك، وتقع الخرطوم على الخطِّ الذي يصل منبعَ النيل بمصَبِّه وبين النيل الأبيض ومصبِّ النيل الأزرق فتُعَدُّ مركزَ النهر، ويقف مكانُها نظرَنا حتى عند عدم قيامها عليه، وتمتدُّ الخرطوم من ضفة النيل الخصيبة إلى حدود السهب، وهي تصل الحدائق الاستوائية برمل الصحراء وفق خيال النهر الذي أبدعها، وبها تلتقي جميعُ الطرق التي تجمع في ذلك العرض بين البحرين المحيطين، وكان ألوفُ الحجاج والتجار — قبل إنشاء الجسرين بزمنٍ طويل — يعبرون هنا ضارعين راجين محاولين الإفلات من التَّبَع والالتجاءَ إلى الصحراء القريبة، ولو نَهَضَ جميع أشباح العبيد، ولو بُعِثَ من سيقوا من كردفان إلى البحر الأحمر فهلكوا في بلاد العرب المنيعة لدام عَرضُهم أسابيع كثيرة، ولو كدِّس الذهب الذي ربحه نخَّاسوهم لقام منه جبلٌ يسدُّ النيل فيؤدِّي إلى إغراق البلاد وإبطال الرِّقِّ، ولكن مع موتِ مصرَ عَطَشًا.
وفي المكان الذي تنتهي فيه تلك البساتين، وبالقرب من ملتقى النيلين ومن الجسر الثاني تجد أطرَفَ حدائق حيوانات الدنيا المنسَّقة بذوقٍ كبير فلا تحتوي غير حيواناتٍ من السودان، وتَجُول الغزلان هنالك هادئةً غيرَ خائفةٍ وتُبدِي ظرفًا ودلالًا أمام الأسد الذي ينظر من وراء قضبانه مغمومًا إلى حيوانات الصيد الأسيرة هذه، ويُرَى بجانبها أبو مركوبٍ المضحك بمشيه، وتَمِيس الكراكي وتغتسل البلاشين، ويجوب جَمَلٌ عَصُوفٌ فوق العشب، ويَفغَر فمه الورديَّ بقرُ ماءٍ صغيرٌ خلف حاجزٍ خفيف، كما لو كان جميع ذلك صُوَرًا غير ضارةٍ عن الذي يطوف طليقًا خارج سِياج الحديقة، وكما لو كان ذلك عَرْضًا جميلًا بدلًا من حَرْب.
وهنالك — حيث تُلقي الشمسُ أشعتَها على الأمواج من سماءٍ غير ذات سَحَاب — ترى شائبًا يَسِير ببطءٍ على الرَّصِيف متوكِّئًا على عصًا ومعتمدًا على صبيٍّ عارٍ، وهو يَسْمَع إخوانه، وهو يشعر بهم، غير أن الله نَزَعَ منه البصر، حَرَمَه النُّورَ، الذي هو أروع ما في أفريقية.