الفصل الخامس
ولصنع هذه الكُرَات الثلاثِ التي يدحرجها ذانك الرجلان على البِساط الأخضر يضحَّى بأقوى حيوانات الدنيا الذي هو آخر جبابرة العالم الابتدائيِّ، ومن عاجَيْه يُعْمَل ثماني كُرَاتٍ أو عشرُ كراتٍ؛ أي ما يجهِّز ثلاثة بليارات أو ستة رجالٍ ذوي أكمامِ قميصٍ تحت مصباحٍ أخضرَ. وأما الأدوات الأخرى التي تُصنَع من هذا العاج (وقد كان الرومان يعملون منه أسنانًا صناعية)، وذلك من أمشاطٍ ومراوحَ وقِطَع شطرنجٍ ومساطرَ وأصابعَ بِيَانٍ ومقابضَ مِظَالَّ وما إلى ذلك، فليست سوى نُفَاية مصنوعات، فليست سوى أدواتِ زينةٍ ولَعِبٍ يسهُل استبدال غيرها بها، وما كان يوجد للكرات مادةٌ لها ما للعاج من صَلَابة على حين كان يمكن صنع الأدوات الأخرى من القرون أو الخشب الثمين. والنساء حتى القرن الثامنَ عشرَ كُنَّ يضربنَ بأيديهنَّ البيض على أصابعَ سودٍ، فلما حُمِلن على استعمال أصابعَ بيض خضعن لأمر صالح اقتضته الموسيقى، فالأصابع العاجية في البَيَان أفضلُ من غيرها.
وكان صائدو الفيل على ضفاف النيل يَجهَلون ذلك جهلَ الفيل له، وكلُّ ما كانوا يُبْصِرُونه هو أن العرب والتُّرْكَ يَجلُبون على جمالهم وفي قواربهم أشياءَ جميلةً من كل نوع فلا يَطلُبون غيرَ عاج الفيل بدلًا منها، ولا يَعرف الزنوج حتى الساعة الحاضرة ما هو السبب في كون البِيض يفضِّلون العاج على جلد بقر الماء الذي يصلُح لصنع السياط والسروج، أو على قرون الكونغوني التي يسهل نحتها، أو على عُصَارة بعض النباتات التي تُسَمُّ بها السِّهَام.
أجل، إن الأبيض يأخذ من الزنوج هذه الموادَّ أيضًا، ولكنه لا يكترث لسوى العاج، ومما يروى أن رئيسًا دنكاويًّا كان أبوه قد اطَّلَع على ذلك الهَوَس فطَمَرَ عاجًا احتياطيًّا في ضفة النيل فصار ابنُه هذا ينال ما يود من ثمنٍ لذلك عادًّا نفسه سيدَ الدنيا.
وكان الزنجي لا يصطاد الفيلَ إلا نادرًا، وكان لا يصطاده إلا إذا خرَّب حقوله، لا من أجل لحمه ما دام بقر الماء أسهلَ منالًا. وأما العاج فكان يتَصَدَّع سريعًا ولا يستعمل إلا أوتادًا لشدِّ البقر. والفيل — مع ذلك — هو على خلاف الأسد والنَّمِر والتمساح، فلا يهاجم الإنسانَ ولا الحيوانَ فيُكْتَفَى في بعض الأحيان بطرده من الزَّرع بالصراخ والنُّباح. وتقول الأقاصيص الزِّنجية: إن الفيلَ ذكيٌّ في الغالب، وإنه ليس شرِّيرًا.
وظل العاج — زمنًا طويلًا — لا يُتَّخَذُ للزينة إلا من قِبَل بعض الملوك، وَوَلَعُ الرجل الأبيض بالعاج هو الذي جَعَلَ الفيلَ موضوعَ تجارةٍ مُهمة، وذلك منذ قرون في شمال الخرطوم؛ أي منذ وصول «التركي»، وذلك منذ مائة سنة في النيل الأعلى، وما كان يُعْرَض على الزنوج من خَرَزٍ وبنادقَ عوضًا من العاج فقد أدَّى إلى الإقبال على صيد الفيل، ويُضحي الفيل «عدوًّا تقليديًّا» فيوجِّه جميعُ الناس أسلحتَهم إليه.
والبَقَارة وحدهم — ويقيمون بالمنطقة الواقعة في جنوب الخرطوم — هم الذين يحاربونه بنبل، ومن هؤلاء النوبيين يخرج اثنان مسلحان برمحين من الخيزران المتين ويعدوان فارسيْن نحو جماعة الفيول ويعزلان عنها أحسنها عاجًا ويُثِيره أحدُهما راكبًا حصانه ويَثِب الآخر إلى الأرض ويطعن بطنَ الفيل برمحه طعنةً نجلاء ويرجع راكضًا تاركًا لرفيقه إتمامَ الصراع بالعودة إلى مثل تلك الوسيلة.
والفيل الأفريقي أجمل من الفيل الهندي شكلًا، ويبدو هذا الجمال كما في التماثيل المصرية، ويتألَّف من رأس الفيل السوداني وخرطومه وأذنيه كلٌّ كاملٌ لا تَرَى نظيره في الفيل الهنديِّ، ولا تَجِدُ مثلَ رشاقة هذا الحيوان الذي هو أثقل جميع الحيوانات وزنًا، ويَمِيل هذا الفيل إلى الجَوْل عن هياجٍ وقلةِ صبرٍ، فيهُزُّ قوائمَه الضَّخْمة ويَسِير كالرجل الذي يَثِب على سواه مع بقائه سيدَ أعصابه، ومُجمَل القول كونُ الفيل عنوانَ الخِفَّة والفِتنة كالولد.
وعلى أثر ذلك — وفي الحال — يَقطَع الزنوج قوائم الفيل الأربعَ، فالرئيسُ يطالب بها كما يطالب بالعاج خَشْيَةَ الخِداع.
وجَمَعَ كثيرٌ من ملوك الزنوج في النيل الأعلى كنوزًا حقيقيةً من عاج الفيل كما جَمَعَ أسلافُهم كنوزًا من الذهب. واليوم تَجِد ثمانين في المائة من العاج من هذا النوع القديم. وقد قَلَّ طلب العاج لِمَا حدث من صُنْعِ كراتٍ من موادَّ تركيبيةٍ بَلَغَتْ من الإتقان ما لا يعدلها معه متانةً سوى الكرات المصنوعة من عاج أفريقية الغربية القاسي، فحافظت على قيمتها. وقد نُظِّمَت تجارة العاج — كما نُظِّمَتْ تجارة الألماس والراديوم — منذ اكتشاف أماكنِ جماعاتِ الفيل الكبيرة في النيل الأعلى بالطائرة، ومنذ ادِّخار الإنكليز مقاديرَ عظيمةً من العاج وفَرضِهم ضريبةَ خمسين جنيهًا عن كلِّ فيلٍ يُقتل، ومنذ صارت الأسواق العالَمية تَرقُب ثَمَنَ العاج.
وتُصدِر أفريقية في الوقت الحاضر عاجًا ثمنه مليون جنيه، وليس مَلِكُ النيل الأعلى الزِّنجيُّ الذي يَمْلك ألفَ عاجٍ أحسنَ وضعًا من مدير أحد المصانع بلندن الذي لم يَرَ النيل قَطُّ والذي يريكم — وهو جالس على كرسيه، وبما لديه من قوائم — أنه يملك في مَخزنه ثلاثين ألفَ كرة بليار منوَّعةٍ، وقد أُهلِك ثلاثةُ آلاف فيل لنيل ذلك، وكلُّ فيل من هذه الفيول أجمل وأقوى من المدير ذلك!