الفصل السادس
يتحوَّل صيد الفيل إلى صيد الإنسان، وما كان تاريخُ النيل الحديث ونشوء السودان، كما عيَّنتْهما تجارة الرقيق، ليبدُوَا بحالهما المعروفة لولا اختراع البِليَار، ومن الآدميين ألوفٌ كانوا يقضون حياةً فردوسية فغدوا أُسَارَى — أو خِصيانًا — لدى أناسٍ آخرين؛ وذلك لأن رجلين من أبناءِ الطبقة الوسطى ذَوَيْ قُنَان كانا يحتاجان إلى ثلاث كرات على بِساطٍ أخضر.
وفي بدءِ الأمر يَعنُّ لتاجرٍ عبقريٍّ أن يقايض بلؤلؤٍ زجاجيٍّ، ويُفتَن السودانيُّ فيُعطيه عاجَ فيلٍ في مقابل خمسةِ لآلئَ كبيرةٍ، وهل كان هذا غِشًّا؟ وهل كانت اللآلئ التي تساوي عشرةَ دوانقَ أقلَّ جمالًا من اللآلئ الحقيقية التي كانت تساوي مائةَ جنيه؟ أفلم تكن قيمةُ كُرَة البليار أمرًا خياليًّا ما صار تقليدها في الحال ممكنًا كما قُلِّدت الدُّرَر؟ وهل روعة الألماس أم ندرته هي التي تقرِّر قيمتَه؟ تَجِد من الحجارة العادية اللطيفة ما هو أكثر تأثيرًا في النفوس من الألماس. ومما يلاحَظ ما يكون للدُّرَر من قيمةٍ تابعةٍ للهوى عندما تقوم سيداتٌ لابساتٌ قلائد من لآلئ ملونةٍ بحركات موزونة كالرَّقَصات الزِّنجية.
وهل يضارب التاجر على بضعة عبيد؟ ويومئ التاجر برأسه، وهذا ما كان ينتظره، أفلم يسلِّم أجدادُه، في قرنٍ، سودَ الحبشة إلى العرب العِطَاشِ إلى العبيد على الدوام ويغتنوا؟ وتلك الفكرة رائعةٌ إذن، وفي ذلك البلد الذي لا يَعرِف حقًّا ولا رَقَابةً يُمكن التاجرَ المسلحَ ببنادقه أن ينال في مقابل لآلئه وبزوزه أرباحًا من الرقيق لا توجب ارتفاعًا في أسعار العاج.
وكانت الفكرة جديدةً لدى رئيس القبيلة، وكان يقتصر حتى ذلك الحين على اغتصاب الناس — ولا سيما النساء — من القبائل المغلوبة حربًا لاستخدامهم في أعمال الحقول، وكان ذلك ثمنًا للنصر، بيد أن تجارة الرَّقِيق التي كانت تُزَاوَل في سواحل غرب أفريقية مما لم تَعْرِفه شواطئ النيل، ويُقبَل عليها في هذه الشواطئ بعدئذٍ، ولا تُعَارَض، وينتشر هذا الجَور بمثل السرعة التي يَعُمُّ بها حريقٌ في السُّهب، ورئيسٌ آخر كان محتاجًا إلى ثلاثين امرأة للقيام بأمور الزراعة وإلى ثلاثين راعيًا، ولكنه كان لا يريد الحرب عن خوفٍ، أو عن بَلَادةٍ، أو عن شَيْبَةٍ، ويبصِر بضعَ مئاتٍ من الآدميين مَزْرُوبين في حظيرة صديقه العربيِّ فيَعرِض عليه عاجَ فيلٍ في مقابل ثلاثة عبيد.
والمعاوضةُ في القرن التاسعَ عَشَرَ، وبوجوهها المتقلِّبة التي يُحِبُّها الشرقي، حَوَّلَت تاجرَ العاج إلى تاجرِ رقيق ثم إلى صائدِ رقيق ليعود تاجرَ عاجٍ. وهكذا وقع سِباقٌ بين صيد الإنسان وصيد الفيل في النيل الأعلى، وكان يقيم بالخرطوم تجارٌ من العرب، فعَقَدَ هؤلاء التجارُ معاهداتٍ مع رؤساء القبائل مستفيدين من تنافسهم وصاروا يشترون أناسًا من رعاياهم سالكين مثل السبيل التي سلكتها إنكلترة في سواءِ ألمانية في القرن الثامنَ عشرَ. ويا لها من ممكناتٍ تصدُر عن نفوسٍ مبدعة لا ضمير لها! ووَجَدَ أحد هؤلاء طريقَ بحر الغزال المارَّةَ من المناقع فاكتشف هنالك قومًا مجهولين فقَبَض عليهم وباعهم حائزًا شرف رائدٍ وشرف ممثلٍ للحضارة! وغدا شرقُ أفريقية «دارَ الرِّقِّ» أيضًا، ولولا الطمع في العاج ما أقدَمَ تاجرٌ على السير حتى الدرجة الثالثة من العرض الشماليِّ، وما اقتَحَم مخاطرَ النيل وعانَى أهوالَ الزنوج.
ومما كان يَحدُث أحيانًا أن يُقنِع أفَّاقٌ، أو شاردٌ — نسميه عليًّا — أحدَ متموِّلي الخرطوم، بأن يُقرِضه مائة جنيهٍ على أن يَدفَع صعفيها عاجًا بعد ستة أشهر، ويُغرِي عليٌّ هذا نفرًا من المشتَبه فيهم، ويشتري زوارقَ وبنادق وقذائفَ وبضع مئاتِ أرطالٍ من لؤلؤ فينيسية الزجاجيِّ، ويَدفَع إلى كلِّ واحدٍ من أولئك رواتبَ خمسة أشهر مقدَّمًا (١٥ تاليرًا)، ويَعِدُهم بضعف ما دَفَعَ عند العود من الغزو، ويناولهم ورقةً لتقييد حساباتهم، ويردُّون الورقة إليه؛ لأنه الوحيد الذي يعرف الكتابة، ويُسَار في شهر ديسمبر إلى جهة منابع النيل حيث يقيم الشلك والدِّنكا، ويرتبط عليٌّ برابطة الصداقة في أحد الرؤساء ويُهدِي إليه بضعَ بنادق، وينطلق هذا الرئيس إلى محاربة جيرانه وأعدائه، ويهاجِم عليٌّ ورجاله قريةً في تلك الأثناء ويحرقها ويقتل بعض أهلها الزنوج ويقطع أيديهم أخذًا لأسورتهم، ويقتاد الناسَ والأولاد والمواشيَ ويعود إلى صديقه الأسودِ الجديد فيقدِّم إليه فتاةً حسناء مع شيءٍ من المواشي.
وتُساوِرُ الملك الزنجيَّ رغبةٌ في أخذ كثير من القِطاع، ويُخرِج عاجَه من الأرض ويأتي به إلى ذلك الغريب الذي يعدُّه من الباشوات أو من الآلهة تقريبًا، ويأخذ الخُفَراء نصيبَهم من الغنائم، حتى من العبيد، وتُقَام سوقٌ، ويَشرِي كل واحدٍ أقصى ما يمكنه منها، ويُقَيِّد عليٌّ كلَّ شيءٍ حتى ينزِّله من أجور رجاله، ثم يُعيد العبيدَ المُوثَقين بالأغلال إلى نسائهم البائساتِ أو إلى آبائهم في مقابل أنيابِ فيلٍ جميلة.
ويُختَم ذلك باختصام الرئيس وحليفه ويَنْهَبُه عليٌّ ويقتله ويَقُود نساءَه وأولادَه عبيدًا، وتُملَأُ القوارب ويُسْتَعَدُّ للرحيل، ويَتَخَلَّف بعض الرجال إدامةً للنهب وإعدادًا لغنيمةٍ أخرى في العام القادم، وبالقرب من الخُرطوم تُنْزَل هذه السلعة البشرية وتوزَّع بين الباعة خَشيَةَ اطِّلاع السلطات على مقدار الثروة التي جَمَعَها عليٌّ، ويُنقَل العبيد بطريق الصحراء والبحر الأحمر إلى بلاد العرب، ويُسَاق بعض العبيد إلى القاهرة، ويُوضَع حول عُنُق كلِّ واحدٍ منهم مِلقَطٌ ذو مقبَضٍ طويلٍ لامسٍ لذراعه المبسوطة، فإذا ما أَرْخَى ذراعَه اختنق، ويأتي عليٌّ دائنَه بالعاج الموعود، ويَبلُغ ما يجيء به من العاج في العام الجيد عشرةَ آلاف كيلوغرام؛ أي ما تساوي قيمتُه في الخرطوم أربعة آلاف جنيه إنكليزيٍّ، ويَدفَع إلى رجاله عبيدًا فلا يُكَلِّفونه شيئًا لهذا السبب، ويَبلُغ نصيب رئيس الغزوة بضعَ مئاتٍ من العبيد يُبَاع كلُّ واحدٍ منهم بخمسة جنيهات أو ستةِ جنيهات، وهكذا يَغتَنِي عليٌّ بمحصولٍ ثانويٍّ ككثيرٍ من تجار البِيض.
وهكذا صار النَّخَّاسون أصحابَ سلطةٍ سياسية فَغَدَت في الجنوب أقوى من سلطة الحكومة لتحالفهم مع بعض الأمراء ضِدَّها في الغالب، وكانت بعضُ الرواتب تدفع إلى الموظفين المصريين عبيدًا، وكان كِبار الموظفين وصغارهم، وكان باشا الخرطوم، وكان هؤلاء جميعهم، يضاربون كما في مصفَق نيويورك عند ارتفاع الأسعار. ومما يُروى مع التوكيد أنه بِيعَ ما بين أربعين ألفًا وستين ألفًا من الآدميين في كلِّ سنةٍ مما بين سنة ١٨٤٠ وسنة ١٨٦٠، ولا يُعرَف عدد الموتى الكثير في تلك السنين. وأصبحت التجارة التي بدأت بالعاج في النيل الأعلى أمرًا ضروريًّا للدولة، وأسفرت في نهاية الأمر عن أزمةٍ سياسية وعن أُفُول السيادة المصرية.