الفصل السابع
ومما جلبه كايو زجاجة ماءٍ من ملتقى النيلين، وكان كايُّو عالمًا حَمِسًا في آنٍ واحد فأيقظ روح الإقدام في محمد علي على هذا الوجه، ويا للمجد الذي يناله وليُّ أمر يكتشف منبع النيل! وستَخْمُد خصومةُ أوروبة ضد فاتح مصر إذا ما صار نصيرًا للعلم.
ومن المحتمل قليلًا أن يكون محمد علي قد أسرَّ إلى كايو بما يُضمِر من أفكار سياسية. أجل، كان يَعُدُّ الذهب والألماس معدِنين مفيدين، ولكنه كان يرى أن الأفضل منهما أن يُنقِذ القاهرة من المماليك الذين كانوا قد ثاروا عليه، وأن يُلْهِيَ كتائبه الألبانية والتركية، وأن يجتذب إلى مصرَ تجارة البحر الأحمر، وأن يَجمَعَ جنودًا على الخصوص، ومن أحلام جميع الطغاة أن يجمعوا جنودًا كثيرين، ولو بَلَغَ جنودهم من كثرة العدد ما يُصبِحون معه عاطلين من العمل! والجنود عبيدٌ حرِّروا لتُفرض عليهم عبوديةٌ جديدةٌ، ولم يَدفَع النوبيون ضرائب منذ سنين كثيرةٍ، وأرهقهم الجباة عسرًا، ووُجِد هذا سببًا لجباية ضريبة منتِجة، سببًا لجَمعِ جنود. وإذا كان القطن يَنبُت من تلقاء نفسه فلِمَ لا تُزرع منه مقادير كبيرةٌ هنالك ويُنتَفَع به في مصرَ؟ وإلى هذا يضاف الذهب والعاج ومَجدُ اكتشاف منابع النيل!
ولا يبدأ تاريخ السودان إلا بالحَمَلَات التي وجَّهَهَا إليه محمد علي بين سنة ١٨٢٠ وسنة ١٨٤٠. وقد دَفَع هذا الرجل الممتاز ثمنَ إقدامه غاليًا، فقد أخضع ابنُه البالغ من العمر اثنتين وعشرين سنة قبائلَ السود حتى الدرجةِ الحاديةَ عشرةَ من العرض فوقع في شَرَكٍ؛ وذلك أنه طَلَب في شِندِي — الواقعة على النيل في شمال الخرطوم — من الملك نمر ألفَ بقرةٍ وألف أَمَةٍ فتاة وألفًا من الإبل والضأن والمعز وألفَ حِمْلِ بعيرٍ من الحبوب، وألفَ حمل بعير من التِّبن.
وينحني الملك ويقول: «إن حسابكم هو من البساطة ما يُوجب العَجَب، ويظهر أن الألف هو الرَّقم الذي تَعرِفونه.» ولمَّا جُمِع كل شيءٍ وكُدِّسَ التبن حول المعسكر دعا الملكُ الغُزَاةَ إلى وليمةٍ، ويتوارى الملك في ختامها ويَحرق التِّبن، ويهلِك الفاتح الفتى هو وضباطه بين اللهب، ويَعقُب ذلك انتقامٌ هائل فقد أُحرِقت شندي وذُبح ألف امرأةٍ وولدٍ على ضفاف النيل، ويوفَّق الملك نمر وحده للفرار إلى الصحراء.
وأعانت تلك الحَمَلَات على اكتشافاتٍ مع ما تَخَلَّلها من فظائع، كأنْ تُرسَل إلى القاهرة آذان الأُسَارَى، وكأن يَعُدَّ مَلِكٌ في سِنَّار كَبدَ الإنسان مع الجعة طعامَه المفضَّل. وكانت الخرطوم تقام، وكانت تسير قوارب خفيفةٌ إلى الدِّنكا الذين لم يَصِل إليهم أحدٌ من قبل، ويَذهَب محمد علي إلى السودان بنفسه، ويُخلِّد نفسَه هنالك بابتكاره أسلوبًا جديدًا في جباية الضرائب، وذلك بتعليقه بشجرةٍ في كل قريةٍ كيسًا محتويًا بَعْرَ بعيرٍ آمرًا بأن تَدفَع كل قريةٍ تاليراتٍ بعدد ما في الكيس من بَعَرَات.
وأخيرًا تسود السلم فيما يمكن أن يُرقَب من نواحي البلد، وتتمتَّع هذه النواحي بسكون المقابر، ويَسِير اللصوص على أثر الرُّوَّاد في الجنوب كما يَقَع في كلِّ زمان، كما يَقَع حتى الآن، ويبدأ ارتياد تلك البقاع بلا حرسٍ، ويتَّجه خلف العلماء تجارٌ من ذوي الجَشَع نحو منبع النيل، ويُوغِل المبشرون في السهب ويضطرون إلى الرجوع.
وتغدو أفريقية لدى البابا «وكالةً»، ولدى قنصل سردينية «قاعدةً». ويلاقي التجار والأشرار المصريون رهبانًا نمسويين، ويحاول هؤلاء أن يكسبوا الزنجيَّ ليسوع، ويحاول أولئك أن ينالوا عاجًا، وتُخفِي دولٌ في أوروبة ما تُضمِر من مقاصدَ وراء رسالة نبيٍّ، وتعتمد دولٌ أخرى على رسالة نبيٍّ تسويغًا لاصطياد العبيد، وفي تلك المجاهل يثير جميع ذلك حقدَ النوبيِّ على النصرانيِّ، ويُثِير عطف النصرانيِّ على الزِّنجيِّ.
وتمضي ثلاثون سنةً أو أربعون سنةً فيقاوم تجارُ الرقيق في قصورهم إسماعيل باشا الذي هو حفيدُ محمد علي، ولا يَدفَعون من الضرائب إلا بالمقدار الذي يناسب كتائبَهم الشخصية، وعلى ما كان يساور إسماعيل باشا من أطيب النِّيَّات تَقصُر يده بسبب أعدائه وديونه، ويكون أولَ مصريٍّ يطلب من أجنبيٍّ أن يُسرِع إلى مساعدته في السودان، ويَعَضُّ هذا الحاكم على الأمر بالنواجذ كحاكمٍ وكنصرانيٍّ وكإنكليزي، ونواجذُ هذا الأجنبي كانت غايةً في المتانة.
وليست القسوة من سجيَّته، فكانت الحيوانات والأولادُ أشدَّ ما يحب ويفهم، وقد رَبَّى عبدًا صغيرًا ودبَّ اليأس في نفسه عندما فَقَدَ ثلاثةً من أولاده في ثلاثة أعوام، وكان غَضُوبًا مع سرعة رضًا، وكان متجبِّرًا مع كرمٍ وقِرًى، وكان مستقلًّا بفضل ما وَرِثه من ثروة، وكان يَطفَح صحةً فيلوح أنه خُلِقَ للمغامرات، والحرب هي التي كان يحتاج إليها.
ويصل إلى ميدان القِرِم الحربيِّ متأخرًا، ويَجِدُ بعد موت زوجه الأولى هنالك، شريكةَ حياته التي تصلُح له، يَجِد حسناءَ مَجَرِيَّةً يصطاد الدِّبَبَة معها في آسية الصغرى، ويستحوذ السَّأَم عليه بسرعةٍ، وكان صيادو الإنكليز ومغامروهم في ذلك الدور؛ أي حَوَالَيْ سنة ١٨٦١، لا يَحلُمون بغير النيل حيث الفُيُول والأسود التي تختلف عما في سيلان، وحيث لا حَدَّ لأراضي الصيد، وكان يُوجَد في ذلك الحين أمرٌ يقيم العالَم الغربيَّ ويُقْعِده، كان يُوجَد عملٌ يتطلَّب إنجازًا، كان يوجد جهادٌ يتطلب جميعَ الجهود، كان يوجد كفاحٌ ضدَّ الرِّقِّ؛ فالحرية والإنسانية والمجد أمورٌ كانت هنالك.
ويبذل بيكر جهودَ بطولةٍ ويجاهد بيكر ويعاني ضروبَ الحرمان مدةَ ثلاث سنين، وترافقه زوجه في أثناءِ ذلك على الدوام، ويكتشف منبعَ النيل الثانيَ، يكتشف بحيرةَ ألبرت، ويَعُمُّ خبرُ مَجد صائد الآساد صموئيل أرجاءَ جميع أفريقية الشرقية.
ويعود محب الزنوج الشهيرُ ذلك موظفًا كبيرًا بعد خمسة أعوام، ويكون عُرضةً للحقد وسوء الظن. ولماذا يأتي ليكدِّر صَفْوَ تجار الرقيق؟ ومن ذا الذي أَذِن لهذا النصرانيِّ في التعرض لتعاليم القرآن التي يبيع المسلم تحت ستارها وثنيِّي الزنوج؟ وما هي علاقة حرب النصارى الأمريكيين ﺑ «مسلمي أفريقية» الذين كانوا يبيعون كلَّ واحدٍ من عبيدهم بخمسة جنيهات؟ والحرب الطويلة بين الشمال والجنوب بأمريكة كانت تُثْبِت مع ذلك ضرورة نظام الرقِّ ورِضا الربِّ عنه. وماذا كان في النيل الأعلى معنى البزة الرسمية الزاهية التي أنعم الخديو بها على بِيكر في القاهرة؟
ومن المحتمل أن يكون بيكر قد وَضَعَ في نفسه هذه الأسئلة في أقتم الأوقات، ويأتي صائد الآساد والأفيال لذَبْح الأفعى العظيمة التي تُهْلِك منطقة النيل الأعلى تلك، يأتي للقضاء على تجارة الرقيق، لا على الرقِّ، ويَهزَأُ بيكر بتبجُّح جمعيات مكافحة الرق في إنكلترة، ويوجِّه إليها سهام اللَّوْم بقوله: إن على أعضائها أن يُعْنَوْا في بدء الأمر بآلام إخوانهم في مناجم الفحم.
ومما اطلع عليه بيكر بعينيه صبيانٌ من الزنوج مُسْتَلقُون على الرمل مخصيُّون بمِبضَعٍ مع صَبِّ رَصَاصٍ على الجروح قَطْعًا لنَزْفِها، وكان بعض الأديار القبطية يعتمد في دَخْلِه — قبل كل شيءٍ — على صُنْع خِصْيان، والخصاء، وقد يؤدي إلى هلاك الخَصِيِّ، هو من اختراع المسلمين والنصارى، والخِصَاء مما كان الزنوج الوثنيون يجهلونه.
وأثبت بيكر — الذي كان صائدًا فغدا رائدًا — أنه رجل حكومةٍ، فقد جعل ولايةً من المنطقة التي كان قد رادها منذ عشر سنوات، بيد أنه كان وحيدًا، وكان النوبيون والمصريون الذين هم تحت إمرته يَخْدَعونه، ومما ثبت عنده أن أعلى موظفيه كانوا متواطئين هم والنخاسون الذين كانوا يَبْدُون ذوي سلطانٍ لا يُقهَر.
وكانت الضغائن تسود جميعَ ذلك البلد، فكان الزنجي يَمْقُتُ العربيَّ الذي هو عينٌ عليه فيأخذُه غَصْبًا ويَبِيعُه، وكان العربيُّ يمقت التركيَّ ويقول: لا يَنبُت الكلأ حيث يمرُّ التركيُّ، وكان التركيُّ الذي يودُّ أن تُجْبَى إليه ثَمَرَاتُ كلَّ شيء يمقت الأوروبيَّ لما يُبْصِره من مطامع الأوروبي التي حَمَلَت الخديو على فتح أبواب بلده له تأديةً لديونه الناشئة عن تبذيره. وكان الوثني يمقت المسلم الذي أباح النبيُّ له استعباد الكافرين، وكان المسلم يمقت النصرانيَّ الذي حظر عليه نَبِيُّه تعدُّد الزوجات. وكانت هذه البغضاء العامة تَتَدرج من الأسود إلى الأسمر، ومن الأسمر إلى الزيتي وإلى الأبيض، ولا عكسَ. وكان الأبيض يشعر بعاطفةٍ نحو السود، وهو في ذلك كالرجل الذكي الذي يفضِّل الأولادَ على أنصاف العلماء.
كان بيكر وحيدًا فوق هذا البركان كدُعَاة السَّلم في أيامنا، وأفنى هنالك أربعَ سنواتٍ من حياته وعاد إلى بلده صاحيًا عادًّا من المعجزات عودتَه من رحلته صحيحًا سالمًا.
وتمضي عشرُ سنين، وتحتفل «جمعيةُ مكافحة الرقِّ الأجنبية» في لندن بعيدها الذهبيِّ، ويُدعَى بيكر إلى أن يكون ضيفَ الشرف، ويرفض ذلك بما يَندُر صدوره عنه من غلظةٍ فيقول في جوابه: «لا أجد ما يسِّوغ الاحتفال بهذا العيد الخمسيني في إنكلترة مع مزيجٍ ممقوتٍ بغيضٍ من الرِّئاء والدناءة.»
وقولٌ جريءٌ فريد في بابه كهذا مما يجعل — في الغالب — للرجل الشريف مكانًا في التاريخ أكثرَ دوامًا من جميع أعماله.