الفصل الثامن
ذلك هو أمر الجنرال غُوردُون الذي يُشعِله لَهَبٌ باطنيٌّ مع عَطَله مما كان يتَّصِف به بيكر من بأسٍ وبصرٍ صَرَعَ بهما الفُيُول واكتشف بهما البحيرات ووُفِّق بهما لمغادرة أفريقية، التي خَسِر غوردون فيها حياتَه، صحيحًا سالمًا.
وفي الغالب يُحَاوَل رفعُ فضائل رجلٍ خُتِمَت حياته بفاجعةٍ إلى أعلى مرتبةٍ، وأفضلُ من ذلك أن يُستَعَان بهذا الموت في إيضاح مزاجه، والحقُّ أن غوردون ذَهَب ضحية خُلُقه، فالذي كان يُمسِكه ويشدُّه مع تردده، والذي كان يمن عليه بذلك الحزم الذي يُقْرَأ في نظره، هو اعتماده الروائي على الله، وهو في هذا يشابه كرومويل مع قلة كآبةٍ، وإذا كان اتصال الرواد الآخرين الدائم بالمسلمين والوثنيين لم يُؤَدِّ إلى تثبيت إيمانهم النصراني فإن إيمان غُوردُون لم يتزعزع قطُّ، فغوردون — مع ليفينغستن — هو الإنكليزي الأفريقي الوحيد الراسخُ الإيمان.
وكان غوردون يستلهم النبيَّ إشَعْيَاء إذا أراد أن يتقدم أو يقف، وإذا لم يَجِد في دارفور ماءً أشار إلى نصٍّ في سفر الملوك الثاني، فيلوح أنه ظَلَّ يتلو التوراة في كل صباحٍ أو مساءٍ من كل يومٍ مرةً مدة عشر سنين أو عشرين سنة، وما كان فيه من كَرَمٍ صادرٍ عن إيمانه فيَدفَعه إلى إطلاق خَصمٍ غَدَّارٍ كسليمان، وما كان يوزِّع به مالَه من سخاءٍ فيكفي وحدَه لتبديد شهرة الاسكتلنديين بالبُخْل. وحَدَثَ ذات يومٍ أن نَفِدَ عنده ما يمكن أن يساعدَ به مريضًا من حاشيته فباع الوِسامَ الذهبيَّ الذي كان عاهل الصين قد أنعم به عليه.
ومن يَكُ ذا نفسٍ نقيَّةٍ يَبْدُ أكثرَ تسامحًا تجاه المجرمين من رجل الدنيا الذي لا يفقه سببَ الجرم أبدًا. وفي سنة ١٨٧٤ يرسل إسماعيلُ غوردونَ حاكمًا للنيل الأعلى ويفوِّض إليه فتحه من أجل مصر، فيكترث لفتح هذه المنطقة أكثرَ مما لمكافحة الرقِّ، ويُفضِّل أن يَكسِب قلوبَ الزنوج أكثرَ من مقاتلة العرب. وما كان من عبوره النيل سابحًا بالقرب من دوافع جوبا غيرَ وَجِلٍ من التماسيح ومن إمساكه بندقيتَه عاليًا فقد نال به احترام الزنوج، وقد انتشرت على طول النهر قصة الأبيض السابح حاملًا بندقيته بيده اليسرى.
ويغادر غوردون السودان مغاضبًا كما صَنَعَ بيكر منذ سبع سنين، ويضع مواهبه وخِدَمَه تحت تصرف إنكلترة، ويترك غوردون البلادَ بعد إصلاحاتِ عشر سنين على السُّنَّة البريطانية، وما حَدَث من مكافحة العرب النوبيين في سبيل السود فقد ضاعف الفوضى بدلًا من تنظيم البلاد وإمتاعها بالسِّلم. والسودانيون — مع السنين — يمقتون بالتدريج حكومةً خلعت الملوك المحليين لتتمتع بأطايب النعم عند مصبِّ النيل هنالك بفضل مظالم الباشوات. وكان الأغنياء يتفقون على الإفلات من الضرائب وعلى الإثراء بتجارة العاج والرَّقيق، وكان الفقراء لا يعرفون شيئًا غير كون هؤلاء الكلاب النصارى يطالبون الخديو المديونَ بإبطال النِّخاسة، وكان ما في سبب تحريرهم من دَنَسٍ يكفي لاحترازهم. وقد حَظَرَت الحكومة المصرية على التجار بيعَ الشمع، وريشِ النعام، وجلدِ بقر الماء، والببغاوات، والعاج على الخصوص، محتكرةً هذه الأشياء.
وكان جنود الخديو، إذا ما بلغوا واحةً، يُعسكِرون فيها على حساب البدويِّ إلى أن يؤدِّي ما عليه، فإذا رفض ذلك رُبِطَ بنخلةٍ أو جُرَّ إلى مجرًى جافٍّ حتى تأتي زوجه بمالٍ أو أنعام. وعلى هذه الأساليب كانت تقوم أُجرةُ الجندي الذي لا يُدفع إليه راتبٌ في سنواتٍ وجُعلُ رئيس القبيلة الذي يطالب بأكثر مما يَطلُب الجندي منه. وكان شِبَاهُ الأعراب يتركون غَلَّاتهم ويفرون مع أنعامهم إلى سهبٍ منيع، وكان الفلاح المكلَّف بضريبةٍ على حقله وعن كل واحدٍ من أفراد أسرته يَدَعُ أرضه بورًا ويتوجَّه نحو منابع النيل الأبيض ويقطع طُرُقًا أو يبيع رقيقًا، ويُؤخَذ من كلِّ شيءٍ خَرْجٌ، يؤخذ من الناعورة التي هي مصدر الحياة في شواطئ النيل، ومن النخلة ولو عطلت من الثَّمر، ومن خِتَان الأولاد، ويعاد إلى الخرطوم باشا عابدٌ للذهب كان غوردون قد عزله وكان يسير على غرار أسلافه، ويَنصِب هذا الباشا مدفعًا ويسميه قاضيًا، فكان كل من يعاسره يقاد إلى هذا القاضي ويُربَط أمام فوهته ويمزَّق إِرْبًا إِرْبًا بقذيفةٍ تُطْلَق منه.
وحوالي سنة ١٨٨٠، وفي أثناء ذلك الاستعباد العام بالسودان، كانت جميع الأحوال حَبَالَى لتلد حزبًا قوميًّا اجتماعيًّا، وكان لا بد من خطيبٍ شعبيٍّ يَجِدُ كلمة السِّرِّ حتى تتبعه ملايين الآدميين مع عمًى كعَمَى بصيرة البِيض.