الفصل الرابع
تَنِمُّ عَطَفَات الأنهار على سابق وجودها، ومما هو موضع شكٍّ مدةُ الحوادث وخصائصها،
ولكن
أمرها يُحْزَر كما لدى الإنسان من خلال دُجَى١ الذِّكْرَيَات مع تعذر إثباتها وإنكارها، وارجع البصر إلى أوغندة مع ذلك تُبصرْ أن
حَلَّ ما قبل التاريخ فيها أيسر من حلِّ التاريخ نفسه ما دام لعالَمِ ما قبل التاريخ
قَدَمٌ في
العالم التاريخيِّ هنالك، وما حدث للإنسان فقد دفن في هُوَّة الأزمان. والإنسان كان يجهل
الكتابة إلى زمنٍ حديث، وكان عاطلًا من العنعنات تقريبًا مع أن ما قبل التاريخ قد نَحَتَ
أطلالَه ودلائله على الجبال، فيمكن تخمين ماذا كان عليه مجرى النيل الأصلي.
وأفريقية هي قارة مهادٍ،٢ ومفاوز،٣ وهي القارَّة الوحيدة التي يمكن إطلاق هذا الاسم عليها مع استثناء هضبة البحيرات
الكبرى، ومما حَدَثَ عند انفتاق وجه القارة أن ظهرت فُرجة تمتدُّ من روديسية إلى وادي
الأردن
مشتملةً على البحر الأحمر، وقد انفجرت النار من جوف الأرض وألقت كتلًا عظيمة وجعلت منها
جبالًا
واسعة الفُوهات، وفَتَحت على سفح هذه البراكين ذلك الوادي الذي تكونت فيه البحيرات وجرت
منه
الأنهار، وقد انقسمت الفرجة إلى ذراعين في جنوب حوض النيل، فاتجهت الذراع الشرقية إلى
كينية
وكَوَّنت كليمنجارو وكونت الذراع الغربية ثلاثَ بحيراتٍ واقعةً في غرب بحيرة فيكتورية،
وتمثِّل
هذه البحيرة انخفاضَ الهضبة بين الذراعين.
ومهما يكن من رَيْبٍ في معارفنا فإن مما تلوح صحته تَكَوُّنَ البحيرات السبع بأفريقية
الوسطى في تاريخٍ حديثٍ نسبيًّا، وتمدُّد سهولٍ واسعةٍ في مكان بحيرة فيكتورية الحاضرة،
وخَدَّ٤ روافد هذه البحيرة لها، ومن المحتمل أن وُجِدَتْ طُبُوعٌ٥ واسعة مؤخرًا فزادت بوابلٍ٦ متصلٍ وشقَّت طريقًا لها من بين التلال المجاورة، والماء يعمِّق ويوسِّع الخَرْق
ويعدُّ سبيله إلى السهل، والدوافع والمساقط آية هذا التطوُّر.
وفوق البراكين الكبرى وفُوهاتها الصغرى التي نَدِينُ لها بالحُمَم المُجْمَدة والينابيع
الحارة والهزات الأرضية نرى انتصابَ شاهد، نرى صخورًا أوَّليَّة، نرى مَلِك الجبال رونزوري
المغطَّى بالثلج والأعلى من الجبل الأبيض،٧ فهذا الطود هو فؤاد أفريقية، ومنه يجري الماء إلى الغرب وإلى الشرق مغذيًا أعظمَ
أنهار القارة: النيلَ والكونغو.
وليس جبل رونزوري نفسه خطَّ تقسيم المياه، ويعود هذا الشأن إلى سلسلةٍ من البراكين
تبلُغ من
العلو ٤٥٠٠ متر، وتَقَع في الدرجة الثانية من العرض الجنوبيِّ من خطِّ الاستواء، وتُعرف
بسلسلة
مُفَنبيرو التي هي خط تقسيم المياه الصحيح كما يلوح، وقد تغيَّر هذا الخطُّ في أثناء
تناسخ
الأنهار، حتى إن أمره اليوم يبدو ملتبسًا خفيًّا فلا ينفكُّ علماء الجغرافية وعلماء المياه
يجدِّدون قياسه بلا انقطاع، وبالأسماء وحدَها يُدَلُّ عليه، وفي النيل ترتبط البحيرات
الأربع
الكبرى المسماة بأسماء ملوكٍ من الإنكليز بالغة الغرابة في أفريقية، وفي الكونغو ترتبط
البحيرتان الحاملتان لاسمين أفريقيين وهما: كيفو وتنغانيقا، وتجد بين هذه الحدود منابع
ذينك
النهرين العظيمين اللذين يُحْيِيان قارةً تثير العَجَبَ بخَثْرِها.٨
وإذا كان النيل ينال جميع مائه من بحيراتٍ فما هو مصدر ماء هذه البحيرات، وإذا كان يأتيها من الأنهار ماءٌ أقل مما يأتيها من المطر فما هو مصدر هذا المطر؟ لا تزال هذه الأسئلة موضعَ جدال واختلاف.
والآن يُعتقد أن مصدر أمطار حوض النيل هو جَنُوب المحيط الأطلنطي، ويظلُّ التبخر٩ والتكاثف، الناشئان عما بين البحر والأرض من توتُّرٍ، متوازنين إجمالًا لا تفصيلًا،
وهنالك صراعٌ بين التبخُّر وتكوُّن الأنهر وجَرْيها نحو البحر، ولعمق الصحن شأنٌ في هذه
الدورة
التي تشتمل على ثلث أمطار الأرض، ولا يزيد عُمق بحيرة فيكتورية على تسعين مترًا، ويتبخَّر
من
هذه البحيرة أكثر مما تأخذ، فيعدُّ مهندسو النيل هذا النقصَ المستمرَّ من المسائل الخطيرة.
والحق أن لبحيرة فيكتورية شكلًا خاصًّا بها به جوها ونظام
ريحها، وتقوم عوامل إقليمها الأساسية على تناوب الريح البرية والريح البحرية، وعلى كثرة
الزوابع
وعلى ارتفاع حرارة الماء إلى ٢٦ درجةً، وعلى عدم وجود أشهر جَفَاف، وعلى ما يُصاب به
ذلك السطح
العظيم من تَبَخُّر.
ولا عَمَلَ لسواعدها١٠ في ذلك، ومن السواعد ما يأتيها من ثلاث جهات مع ذلك، ولكن ليس لها سوى مَنْفَذٍ
واحد، سوى منبع النيل في شمالها بالقرب من جنجا، وفي الشمال الشرقيِّ تنزل سيولٌ بانحدار
قوي من
إلغون، البركان المنزوي البالغ ارتفاعه أربعة آلاف متر، فتأتيها هذه السيول بماء غزير،
ومن
سواعدها الخمسَ عشرةَ تُرَى واحدةٌ مهمةً، فكان يطلَق عليها اسم النيل؛ وسبب هذا هو أن
من منطق
الجغرافيين أن يُذهَب إلى أن أهم ساعدةٍ لبحيرة هي النهر الذي يخرج منها، وأن يُرَى ذلك
في أمر
البحيرات الكبرى فضلًا عن أمر صغرى البحيرات التي يمكن قياس جريانها ورؤيته من بعيد أيضًا،
وإذا
كان هذا الرافد الغربي هو النيلَ وَجَبَ أن يَجِدَ أقربَ مخرجٍ له على مسافة ٢٥٠ كيلومترًا،
والبرهان الوحيد الذي يُذكر تأييدًا لهذا الافتراض هو أن السكان الأصليين يُسمُّونه «أم
نهر
جِنْجَا».
ورافدُ بحيرة فيكتورية ذلك — ويُدعى كاجيرا — هو نهرٌ كبير، هو نهرٌ عظيم حتى عند
عدم
حَمْله لاسم النيل، ويبلغ طوله سبعمائة كيلومتر، ويستنزف مياه معظم الهضبة الواقعة غرب
تلك
البحيرة، وتتعذَّر الملاحة في منافذه الثلاثة بغير الزوارق لتحوُّل هذه المنافذ بحسب
علوِّ
النبات الذي تجيء به من الجبال، وتبصر بعد مسافةٍ صالحة للملاحة كثيرة العَرْض في بعض
الأحيان،
من الفُلُوع١١ والمراتج١٢ ما يضايقه في مجراه الفوقانيِّ على حين يستُرُه البردي ويجعله مَنْقَعًا،١٣ وهو إذا ما اقتُرِب من منبعه رُئي أنه سيلٌ جبليٌّ صائل.
كانت سبع مدن تتنازع شرفَ كونها مسقطًا لرأس أُوميرُس، وتزعم ثلاثة منابع كونها مهدًا
للنيل، ولكلٍّ من هذه المنابع اسمٌ غريب، وقد وُجِد بعد قياساتٍ كثيرة أن الجدول الذي
يحمل اسم
رُوفوفُو هو مصدر الرافد كاجيرا، وهو يجري في أرض بَلْجِيَّة١٤ من ارتفاع ألفيْ مترٍ على الجانب الشرقيِّ من الفَلْق١٥ بين تنغانيقا وبحيرة إدوارد، وفي الأيكة الكثيفة البكر، ومن المباح لكم عند الرغبة
أن تكرِّموا منبعَ النيل الأول في ذلك الجدول: رُوفُوفُو.
١
الدجى: جمع الدجية، وهي الظلمة مع غيم.
٢
المهاد: الأرض المنخفضة.
٣
المفاوز: جمع المفازة، وهي الفلاة.
٤
خد الأرض: شقَّها.
٥
الطبوع: جمع الطبع، وهو مغبض الماء؛ أي مجتمع الماء ومدخله في الأرض.
٦
الوابل: المطر الشديد.
٧
أعلى جبال الألب، ويبلغ ارتفاعه ٤٨١٠ أمتار.
٨
من خثر اللبن إذا ثخن واشتدَّ.
٩
التبخر: جاءت هذه الكلمة في المعاجم بمعنى التدخن بالبخور، وقد توسعنا في دلالة هذه
الكلمة فاستعملناها بمعنى تصاعد
البخار Evaporation.
١٠
السواعد: مجاري الماء إلى النهر أو إلى البحر، ومفردها ساعدة.
١١
الفلوع: جمع الفلع، وهو الشق.
١٢
المراتج: جمع المرتج، وهو المضيق.
١٣
المنقع: المكان يستنقع فيه الماء.
١٤
Belge, Belgian.
١٥
الفلق: الشق.