الفصل التاسع
كان محمد أحمد فقيرًا في صباه، وكان قد أُذِلَّ في صغره، وكان له — ككثيرٍ من حديثي النعمة — حظُّ الحُبُوط في بدء أمره لِمَا اشتدت به عزيمته وما اكتسبه به من عنادٍ، وكان ابنَ فقيرٍ نوبيٍّ صانعٍ لقواربَ من خشب النخل بين الشَّلَّالات في دُنْقُله، ويلازم شيخًا فلم يستظهر سوى أسماء النبي التسع والتسعين، ويتعلَّم الكتابة والقراءة بعد حينٍ فيبيع — ليعيش — قِطَعَ ورقٍ مشتملةً على طلاسمَ ضدِّ السحر والمرض، ويلوم — ذات يومٍ — معلمه لمخالفته حكمًا دينيًّا ويغضب عليه معلِّمُه ويعاقبه بوضع ملقطٍ حول عنقه لامسٍ لذراعه المبسوطة، ويَطلب محمدٌ العفو صاغرًا، ويغدو خادمًا لدى مدير مدرسةٍ لتعليم القرآن عدوٍّ أزرقَ لذلك المعلم.
ويقبل هذا الآبق بقبولٍ حسنٍ في المعسكر المقابل، ويبصر اتصافَه بثلاثة أمور نافعةٍ فيه: يبصر أن اسمه محمدٌ، وأنه جميل العينين ناعمُ الشعر، وأنه أفرقُ الثَّنَايا وذو خالٍ على خدِّه الأيمن، ويُدرِك أن قومه الساخطين اليائسين محتاجون إلى زعيم، ويفكِّر — وهو اللَّسِن — في قدرته على تمثيل هذا الدور، ولكن كان يجب عليه أن يبدوَ ناسكًا وليًّا في بدء الأمر، أو أن يعيش منزويًا مع مشاهدة الجميع إياه، وأين يقضي حياةَ وليٍّ ناسك مع توجيه الأنظار إليه؟
ويذكر أن أحد أعمامه كان يصنع زوارق في جزيرةٍ كبيرة واقعة في مجرى النهر الفوقانيِّ من الخرطوم؛ أي في مكانٍ مركزيٍّ رائع مناسب لناسكٍ مرئيٍّ من كل ناحية، وكانت جميع الزوارق تمتدُّ على شواطئ هذه الجزيرة، وكان كثيرٌ من الزوارق يقف هنالك للإصلاح، وكان حُجَّاج مكة الآتون من الغرب وتجارُ الرقيق الآتون من الجَنوب يمرُّون أمامها، ويستقرُّ محمدٌ هنالك مثل وليٍّ إذن، وذلك مع تقديمه زوجيه كغاسلتين عنده، وذلك مع اقتصاره في طعامه على الخُضَر والثَّمَر، وكان يتلو القرآن ويُعنَى بشَعرِه الجميل الطويل، وكان يَتَطَيَّب بالعنبر الثمين فيُثِير برائحته الزكية حُبَّ الاطلاع لدى الجميع ولا سيما النساء.
وكان محمدٌ ينتظر مجيء يومه مع صبرٍ شرقيٍّ يكون به دِبْلُميًّا أمهر من الغربيِّ العصبي، وذلك مع ملاحظته صامتًا ذلك الهَيَجان المتزايد الذي يَصِفُه له الملاحون الآتون من جميع جهات السودان للرَّسْوِ في جزيرته. وأخيرًا ينبئ مريديه بقرب ظهور المهدي المنتظر؛ أي المسيح الذي أخبَرَ به القرآن. والواقع هو أنه منذ قرونٍ — وفي كلِّ مرةٍ يتمخض الإسلام عن ثورةٍ — يخبر رجلٌ بظهور المهدي، بظهور مرسَلِ النبيِّ الذي يُتِمُّ عمله ويقوم مقامه، ويُبلِّغ محمدٌ أمرَ ظهور المهدي، وجميعُ الناس يقولون مردِّدين: «سيظهر المهدي، ومن يكون المهدي؟»
ولم يخامر السلطات شَكٌّ في الخرطوم، وحَظَرَ الحاكمُ على بواخره أخذَ حطب من جزيرة أبا، وحَمَلَها على التمهل عندها داعيةً المسافرين إلى الصلاة بصفَّاراتٍ بخارية، ويَرِد موظفٌ قبطيٌّ عالٍ إلى الجزيرة ذات يوم، ويقدِّم الولي الجميل إليه شرابًا، وتظل الجرة المشتملة عليه مملوءةً، ويقصُّ القبطي على الباشا نبأ هذه الكرامة فيُدهَش الباشا.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوليِّ الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد فَمِنَ العبد المفتقر إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى أحبائي في الله المؤمنين بالله وبكتابه … ثم تَفَضَّلَ الله عليَّ بالخلافة الكبرى، وأخبرني سيد الوجود ﷺ بأني المهدي المنتظر وخلَّفني بالجلوس على كرسيِّه بحضرة الخلفاء والأقطاب، وأيَّدني الله بالملائكة والأولياء … ثم أخبرني سيدُ الوجود ﷺ بأن الله جعل لك على المهديَّة علامةً، وهي الخال على خدي الأيمن، وكذلك جعل لي علامةً أخرى: تخرج رايةٌ من نور، وتكون معي في حالة الحرب يَحْمِلها عزرائيل فيُثَبِّت الله بها أصحابي ويُنزِل الرعبَ في قلوب أعدائي فلا يلقاني أحدٌ بعداوةٍ إلا خَذَلَه الله … ثم قال لي النبي ﷺ: إنك مخلوقٌ من نور عنان قلبي، فمَن له سعادةٌ صدَّق بأني المهدي المنتظر، ولكن الله جعل في قلوب الذين يحبُّون الجاه النفاقَ فلا يصدِّقون حرصًا على جاههم … والسلام عليكم.
وهكذا لم يبتدع المهدي رسالته الربانية فقط، بل تَوَعَّد باسم الله جميعَ من هم في شكٍّ من أمره أو ينتقدونه، وكانت سياسته تستند إلى عقيدته ما دام القرآن دستورًا مدنيًّا أيضًا، وما دام الشيوخ مفسرين للشريعة وحماةً لهذه الشريعة الجديدة معًا. وكان لهذا الزعيم الجديد بالقرآن — الذي هو أيسر لأولي الأمر المطلقين من التوراة — ما يرغب فيه من حكمٍ، وفي القرآن: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.
ويتدخل الحاكم المصري الجبان الذي خَلَفَ غوردون بعد الأوان، فيرسل مرافقه إلى الجزيرة ليدعو المهديَّ إلى الخرطوم، فاسمع تحاورهما: أنا المهدي، ويجب على الباشا أن يؤمن بي!
– وكيف تُثْبِت ذلك؟
– لما يَحِلَّ وقت ذلك.
– سيُؤتَى بجنودٍ لمقاتلتك.
– سيبتلعهم النيل.
وتُرسل باخرةٌ مع ثلاثمائة رجلٍ ومدفع لمحاربته، وإنها لترسو أمام الجزيرة؛ إذ يتنازع الضباط الثلاثة قيادةَ الكتائب، ولا تَعرِف الكتائب تلك الأرضَ فتسير قبل طلوع الشمس على غير هدًى، ويباغتهم مريدو المهديِّ، ولا يجد المدفعيُّ بارودًا ولا قنابل على الضفة، ثم يطلق النار في الهواء إلى أن كُسرت الحملة وعاد رجالها إلى الباخرة بعد أن هَلَكَ نصفهم، ويَتَحَدَّث الناس في السودان عن انتصار المهديِّ العجيب.
والآن ينطلق الزعيمُ ليجمع في جميع الأوساط أكثرَ ما يمكن من الأنصار، وهو يبشِّر الفقراء بالشيوعية، وهو يقول بإلغاء الإتاوات والقضاء على كبار الملَّاك، وهو يُشِيد بفضائل الفلاح. وهذا ما أدَّى إلى انتهاب بعض الأغنياء وقتلهم، وهو في الوقت نفسه يجتذب أرباب رءوس الأموال ببراهينَ دينيةٍ ويصرِّح بأن الترك والألبان؛ أي الجباة والحكام، غير أهلٍ ليُعَدُّوا مسلمين وأن إطاعتهم غير واجبة، ويخاطب هذا «الزعيم» مشاعرَ القوم الوطنيةَ والاجتماعيةَ على هذا الوجه فيجمع تحت رايته طبقاتٍ متعاديةً ومنافع متناقضةً، ويَضحَك أغنياء النوبة منه ويسيرون معه لما يلوح من حمايته أموالهم ضد الفوضى، ويَثِق الصعاليك بكلامه الشيوعيِّ الفخم، ويُسَرُّ العرب بإمكان عودتهم إلى تجارة العبيد الذين لم يلبثوا أن تبرَّموا من حمل محرريهم الأوروبيين إياهم على العمل، والذين اعتقدوا خَلَاصَ أعدائهم الزُّرْق، البقَّارة، من البيض، وهكذا كان جميع هؤلاء الناس يَرجُون إنقاذَهم من وضعهم الموجِبِ للقنوط.
ويحتاج المهدي إلى عَلَمٍ بعد الآن، وهو شبه الهمجيِّ الذي يُدرِك قيمة العلم عند شِباه الهمج، وتَخْفِق أعلامه الخضر والحمر أمامه في أسفاره بين النيل الأبيض والأزرق أو في دارفور، ويَزِيد أتباعه بين يومٍ ويوم لوَعْدِه إياهم بما يَوَدُّون، بيد أنه كان محتاجًا إلى وكيلين، يَضْرِب أحدهما بالسيف ويدعو الآخر إليه الناسَ، وهو — مع قيامه بالدعوة رأسًا — وهو — مع عبادة ألوف الناس إياه — كان محتاجًا إلى رئيسٍ يُدير أمر الدعوة.
وإذ إن المهن في السودان لم تدخل ضمن دوائر من الاختصاص حتى ذلك الحين فإن أعرابيًّا ذا أنفٍ كبير وذا آثارٍ من الجدريِّ فيه صار عاملَ دعايته ورئيسَ حربيته، واسم هذا الأعرابيِّ عبد الله (التعايشي)، وكان أكبرَ من المهدي سنًّا، وكان في سنة ١٨٨١ في الثالثة والثلاثين من عمره، وكان من البقَّارة التي هي أشد قبائل النوبة بأسًا، وما حَدَثَ من فتنٍ في السنين العشر الأخيرة فأدى إلى استئصاله هو وعشيرته، ويَشُقُّ طريقه ويبدو مستعدًّا لكل شيء، ويَهَبُ نفسه لهذا الوليِّ الجديد، ويقوم الحسام مقامَ الكلام، ويدوِّي طبل الدراويش الكبير في طول السودان وعرضه، ويكون آية انتقالٍ طبيعيٍّ بين السيف والإعلان.
وهنالك يجب أن يُعنَى بالمظاهر والبزَّات التي هي أداة كلِّ حركة شعبية لدى الهَمَج من البِيض والسُّود على السواء، ويطلق اسم الدراويش على اسم الجيش الذي أوجده المهديُّ بسرعة، ويَلبَس الدراويش «الجبَّة»، وهي قميصٌ أبيض مزيَّنٌ بقِطَعٍ من نُسُج بُقْعٍ، ويؤدي الدراويش يمينَ مبايعة المهديِّ بشَبْك الأيدي، ويرافق خليفة المهديِّ، عبد الله، زعيمَه في كلِّ مكان، ويتقدمه عَلَمٌ أسود ويصلِّي بصوتٍ عال، ولا يبالي بغير أمرٍ واحد، بغير محاربة «الترك» الذين أذَلُّوا قبيلتَه، والذين نشأ عن دفعه ضرائبَ إليهم نزع قِطاعه منه، ومع ذلك تدعو الطبول مختلفَ العشائر، خارجَ الأكواخ، فتتضخَّم الكتائب المقدسة بذلك، وتكاد تُقطع حناجر الدراويش بفعل العَدْوِ والصُّرَاخ، ويصابون بضربٍ من الهَذَيان عند رفع أصواتهم بذكر أسماء الله.
ويُعَيِّن أربعةَ خلفاءً كالنبيِّ فيما مضى، ويَضَعُ تحت إمرة كلِّ واحدٍ منهم زعماءَ مساعدين، ويبتدع نظامًا مُعَقَّدًا من الأعلام المختلفة الألوان، ويَجمع الخليفةُ عبدُ الله جيشًا عظيمًا من جميع السودان في أثناء هذه الاحتفالات والخُطَب ورَفْع الرايات.