الفصل العاشر
وَضَعَ الإنكليز في القاهرة حدًّا للهَرْج والمَرْج وَفْقَ مصلحتهم، وضَرَب الإنكليزُ
الإسكندريةَ بالمدافع في أثناء فتنةٍ وأعلنوا ضرورة إعادة الأمن إلى نِصابه وقبضوا على
زمام
السلطة، ولاح — بعد هذا النجاح — استعدادُهم لمغادرة السودان. ومع ذلك، وعلى الرغم مما
حُذِّر
به الكولونيل الإنكليزي هِيكسُ من قِبَل حكومته. وعلى الرغم من معارضة معظم الضباط المصريين،
نَظَّم هذا الكولونيل الذي كان مستخدمًا لدى مصرَ جيشًا لمقاتلة المهديِّ وإنقاذِ
السودان.
ويُعدُّ هِيكسُ للهزيمة منذ البُداءة لجَهْلِه لغةَ البلاد، ولاتخاذه أدِلَّاءَ من
الأعراب
يضلِّلونه، ولاستعمالِه من الأسلحة العصرية ما لا ينفع في حرب العِصَابات وفي الصحراء،
ويبدو
عاملان متناقضان في المعركة الحاسمة، فمن جهةٍ ترى المصريين مجهَّزين بأسلحةٍ حديثة،
ولكن من
غير أن يَعرِفوا كيف ينتفعون بها في كلِّ حينٍ. ومن جهةٍ أخرى ترى جيشًا يَجُول في مقدمته
رؤساءُ لابسون دُرُوعًا وزُرُودًا وحَلَقًا لوقاية الذُّرعان والسِّيقان كما لو كانوا
من
الصليبيين، وتَرَى سودانيين صاخبين راقصين يَتَّبِعونه هازِّين مزاريقهم، وترى زنوجًا
عُرَاةً
رامِين أقواسَهم في الهواء، ويسير ضابطٌ إنكليزيٌّ لابس بِذْلةٌ صفراءَ نظيفةً وقابضٌ
على
مُسَدَّس حديث نحو أميرٍ نوبيٍّ لابسٍ عِمامة من حرير وبُرنُسًا مختلفَ الألوان، ومُهَزْهِزٍ
سيفَه الأحدبَ الكبير وهامِزٍ
١ حصانَه العربيَّ، ويكون هذا النوبيُّ غالبًا في كلِّ مرة.
ويُقضى على الجيش المصريِّ في المساء، ويكون الكولونيل هِيكْسُ من آخرِ من يَخرُّون،
ويُؤتَى برءوس ضباط الإنكليز المقطوعةِ كغنائمَ، ولم يُفْلِتْ من الذبح غير ثلاثمائة
رجلٍ على
ما يُرْوَى.
والمهديُّ بعد النصر يُصبح البطلَ الحبيب، والمهديُّ بعد النصر يصبح سيدَ السودان
كلِّه
تقريبًا، والمهديُّ يَعبُر النيل ويدخل الأبيض، ويتقدمُه درويشٌ حامل على حربته رأسَ
الكولونيل
هِيكس المتحجِّر. وأخيرًا — وبعد أسابيعَ — يُنزِل الدرويش هذا الرأسَ لكي يُقبِّل الترابَ
أمام
حِصان المغامر الماكر، وكان السيف الذي يُحمَل أمام المهديِّ خاصًّا بسلطان دارفور، وكان
يشتمل
على كتابةٍ لم يَسطِع أحدٌ حلها، وهي: «الإمبراطور الروماني شارل الخامس»، ومن المحتمل
أن كان
السيف لصليبيٍّ متعوِّقٍ حارب قرصانَ الجزائر، فوَقَعَ السيفُ بعد موته بين يدي قبائلَ
متوحشةٍ،
فانتقل من يدٍ إلى يدٍ حتى انتهى إلى الصحراء السودانية، وهكذا يصير سلاحُ إمبراطورٍ
نصرانيٍّ
متديِّن آيةَ انتصارِ المسلم النوبيِّ.
وأضحى المهديُّ يؤمن برسالته بعد تلك الانتصارات، ويَعبُدُه الجميع، فيَفقِد رَشَدَه
ويَثقُل فيزيد عددَ نسائه مقدارًا فمقدارًا، ويَلبَس ثوبًا حريريًّا أصفرَ وعِمَامةً
خضراء
وتعتوره نَوباتُ رحمةٍ وجَوْر، ويستولي عليه جنون العظمة فيعاقب رجلًا جَعَلَ اللهَ فوقه،
ويقول
إن الرجل — وإن كان صادقًا فيما أبداه — فَعَلَ ذلك مُتَهَجِّمًا، ويغدو خليفتُه رئيسَ
المجلس
فيَشغَل بالَه — على الخصوص — بأجزاءِ النسائج التي تخاط على بِزَّته الرسمية، ويتقدم
هذا
الخليفة — إذا ما خرج — رجلٌ في صُورٍ
٢ من عاج، ويذهب أحدُ الرجلين ضحيةَ المَلَق العامِّ، ويذهب الآخرُ ضحية عنفه، وكان
المهديُّ صَوَّالًا ماهرًا عند تَطَلُّعه إلى السلطة فاستفاد من ضَنْك شعبه وحنينه إلى
وطنه،
وهو قد خَرَجَ بذلك من الفقر والذل اللذين نشأ فيهما ومَلَكَ بأسلوب استبداديٍّ جمعًا
سُحِرَ
بوعوده، وما كان من خُفُوق عَلَمه ومن هُتَاف جمهورٍ عن هَوَسٍ ومن ركوع هذا الجمهور
أمامه فقد
أوجب إيمانه بأن رسالتَه إلهية، ويَفقِد اتزانه الباطنيَّ بذلك، ويَقضِي وقته في المظاهر
والاحتفالات لذلك، وتُساوِره أهواءٌ جامحة فيَنطِق بأحكامِ قَتْلٍ وتتراكم خُطَبه، ويُمِيته
الله عما قليل.
ويَحِلُّ شهر نوفمبر سنة ١٨٨٣، وكان غلادستُن
وبسماركُ والملكة فيكتورية ووِلْهِلْم الأول وكريسبي
٣ والملك هُنْبِرت
٤ وفرَنْسَوا جُوزِيف ولِيُونُ الثالثَ عشرَ،
٥ يسيطرون على أوروبة، ويكترث الجميع — ما عدا الروس — لتقسيم أفريقية التي كان جزءٌ
منها موزَّعًا قبل ذلك. وكان انهيار مصر — كدولةٍ حربية ومالية — نذيرَ انقضاضٍ على أفريقية
الشرقية، وإذا عدوت الحَبَشَة التي هي حِصْنٌ طبيعيٌّ وجدتَ القارة بأسرها مفتَّحَةَ
الأبواب
لدول البِيض وطُعْمَةً لها، وليُذهَب إلى هنالك، وسيُقْتَصُّ من العرب والزنوج سريعًا.
ويحدُث أمرٌ فظيع لن تَسْمَع بمثله أُذُنٌ، يَحدُث قَهْرُ ضباط من الإنكليز، وقهرُ
فِرَقٍ
مصريةٍ ألَّفها هؤلاء الضباط، مع ضربِ أعناقٍ وإهانةٍ بعد الموت، من قِبَلِ أخلاطٍ من
الأعراب
والفلاحين والنوبيين والزنوج، وتحاول إنكلترة — على غير جَدْوَى — اجتنابَ مسئوليةٍ يَفرِضها
ما
تمَّ لها من سلطانٍ على مصرَ، ومصرُ قد أُخرِجَت من النيل الأوسط والنيل الأعلى اللذين
استقرت
بهما مدةَ ستين سنةً، ولم يُصِب الهمجُ أوروبة النصرانية بمثل ذلك الخِزْيِ منذ قرون،
ويُكرَه
سلاطينُ ولُبتُن، وأحدهما نمسويٌّ والآخر إنكليزيٌّ، وهما حاكمان لمنطقتين سودانيتين،
وهما
باشوان بفضل الخديو، على التسليم وعلى الركوع أمام المهديِّ للمبايعة وعلى الارتداد عن
دينهما
وعلى الجهاد ضِدَّ النصارى الكلاب. والآن يبدو هذان الرجلان، اللذان هما من أبناء الطبقة
الوسطى
بفينَّة ولندن، العبدين: عبدَ القادر وعبدَ الله، والآن يسيران حافيين من جهتي الجواد
المطهَّم
٦ المُسرَج
٧ الذي يَجُوب المهديُّ به الطُّرُقَ والسُّهُوب، أفلم تكن هذه آيةً تُدْعَى بها
الشعوب والقبائل الملوَّنة الأخرى إلى تحطيم الأغلال التي يُقَيِّدها السادة البيض بها؟
ولم تُفكِّر أوروبة في الانتقام مع ذلك، فعَدَدُ
الأُسارى من الأوروبيين قليلٌ، والأسارى من الأوروبيين نَكِراتٌ، والحوادث عن الأسارى
الأوروبيين غيرُ واضحةٍ، ولو نَظَرتَ إلى الأمر من وِجهة المصريين، الذين يدير شئونَهم
بارينغ
(اللورد كرومر) منذ عامٍ، لوجدتَ الصحراء بين كتائبهم وبين الثائرين، وماذا كان أمرُ
أولئك
الجنود الذين غُلِبُوا؟ كان سلاحُهم سيئًا سوءَ شوقهم وقوَّتهم الأدبية، وكان أحرارُ
الإنكليز
يَرَوْنَ تضييق نِطاق الاستعمار فيؤيدون غلادِسْتن الشائب الذي كان لا يبالي بأفريقية،
ويُقَرَّر ترك السودان واستردادُ حامية الخرطوم، وكان القيام بهذا العمل يستلزم وجودَ
ضابطٍ
عارفٍ بالبلد متصفٍ بنصيبٍ من الحِكْمة يستطيع به أن يحارب متقهقرًا غير ساعٍ إلى مجدٍ،
ولا
يُنتَظَر إنكار الذات هذا من صَيَّاد الآساد بيكر، ويُبْحَث عمن هو أَخْبَلُ منه، ويُعثَر
على
غوردون.
ولكن غوردون، كهَمْلِت،
٨ لا يكون مجنونًا إلا إذا هَبَّت الريح من الشمال والشمال الغربيِّ، وما كان يَعرِف
ماذا يَعمَل في الساعة الحَرجة، وما كان يَعرِف هل يَعمَل بما يُؤْمَر به، وهو لذلك يصلح
لحكومةٍ متنافرة ورأيٍ عامٍّ متردد، وما كان الجَلَاء عن السودان ليلوحَ في برنامجِ غوردونَ،
وغوردونُ كان قد صرَّح ذات حينٍ ﺑ «أن السودان امرأةٌ بانَتْ عن بَعْلِها المصريِّ، فإذا
أرادت
أن تتزوجه ثانيةً فدَعْهَا تَفْعَل ذلك، ثم يمكن أن يكون لنا شأنٌ معها هنالك.»
وكان قد أُسدِل على غُوردُون سِتارُ النسيان منذ عودته من الخرطوم؛ أي منذ خمسة أعوامٍ،
وغوردونُ قَضَى هذه المدةَ في الصين والهند والكاب وجزيرة موريس، وغوردون قَضَى من هذه
المدة
عامًا في الأرض المقدسة (فلسطين) إنماءً لقوَّته الأدبية، وغوردون زار بلدَه استكلندة
مراتٍ
كثيرةً في أثناء ذلك، وغوردون نال بذلك تجاربَ باطنيةً، لا تجاربَ ظاهريةً، كما تَشهَد
بذلك
رسائله، وغوردون أوشك أن يعود إلى أفريقية ليخدِم الملكَ لِيُوبُولدَ البلجيَّ في الكونغو
التي
أبدى ستانلي غضًّا في ارتيادها، لا ليخدم إنكلترة.
ويُدعى غوردون من بروكسل إلى لندن، ويُقْلِع عن خطَّته في الذهاب إلى الكونغو، ويَقبَل
وكالةَ الأمة في أثناء مقابلةٍ. ولم يكن غوردون من القائلين بالجلاء، ومن قول غوردون:
«يَعنِي
وجودُ المهديِّ في الخرطوم رجوعًا إلى الهمجية وتهديدًا لمصر.» ويُعَيَّن غوردون — مع
ذلك — من
قِبَل وزراء يرتابون منه، ويُذعِن اللورد كرومر مع اعتقاده أن حاكم الخرطوم السابقَ ذلك
لا
يوافق على الجَلَاء عنها، ويبدو الرأيُ العامُّ — المسيطر على إنكلترة — بجانب غوردون،
ويظل
الشائب غلادستن وحده في الظِّلِّ، ويُجِيز الأمرَ برقيًّا بعد إصرار ثلاثة وزراء على
ذلك الأمر
المهمِّ، وتَكلأ الأمةُ غوردونَ برغائبها كما لو كان ذاهبًا لفتح بلدٍ، لا للجَلَاء عن
قُطْرٍ.
وماذا كانت حال الرجل النفسية حينما قَبِلَ تلك الرسالة؟ هي جَعلُ البِيض والموظفين
في
الخرطوم آمنين، واستردادُ الكتائب، وتركُ شبهِ حكومةٍ في هذه المدينة، وكونُه آخرَ من
يغادر
السودان من البِيض، والرجلُ جَهَرَ بغير ذلك قبل تعيينه ببضعة أيام، والرجل يَجُوب الصحراء
أعزلَ وحيدًا ليَبلُغ بلدًا لا يكون له فيه سوى بضعِ كتائبَ مرابطةٍ في الخرطوم، والرجلُ
إذا ما
جاوز الشلالات أمكن العدوَّ أن يُحيط به في تلك المدينة، وأن يقطع صلاته بالشمال والعالم
المتمدن، والرجل قد أبصر ذلك عندما كان ضابطًا لا ريب، والرجل — سياسيًّا — كان يعرِف
البلدَ
ولا يجهل قوةَ جمهورٍ حُرِّضَ على التعصب ولا درجةَ بُغضِه للنصارى ولكلِّ مرسَلٍ من
مصر.
ولكن غوردون صليبيٌّ يعتمد على سيفه وعلى توراته، ولكن غوردونَ فيلسوفٌ بوريتانيٌّ
٩ يعتمد على ذكائه وعلى وجدانه. أجل، كان غوردونُ متسامحًا إلى الغاية فكان يَرضَى
بأن يُعبَدَ الرب على مائة وجهٍ، غير أن المجد كان يَهُزُّه في جميع حياته فيردُّ جماح
روحِ
المجد في نفسه لِمَا ينطوي عليه المجد من دنسٍ دنيويٍّ، ويُدَارِي روحَ الواجب في نفسه
ككثيرٍ
من النصارى السابقين، وكان في الخمسين من عمره، وكانت حياتُه حافلةً بالمفاخر في أنحاء
العالم،
وكان ذا سَنَدٍ قليل في الوزارة فلا يتصرف في غيرِ وسائلَ ناقصةٍ. وكان كرومر في القاهرة
محدودَ
الثِّقَة به، وكان غلادستن يتحرَّز منه، غير أن رئيس أركان الحرب والمهندسَ والحاكمَ
العارفَ
بالصحراء والنيل غوردونَ كان كأسلافه ذا حنينٍ إلى أفريقية وإلى عمله وإلى جنوده وزنوجه
وإلى
المآثر، وإلى الموت على ما يحتمل.
ولم يَبْقَ شيء مما شاده هو وبيكر في الخرطوم بعد غياب خمس سنين، وما أشدَّ ما يجب
أن يكون
عليه من شجاعةٍ لكيلا يُنَفِّذَ أمرَ الحكومة فلا يُقَوِّضَ المُعسكَر بأسرعَ ما يمكن،
وتشتمل
برقياته المطوَّلةُ إلى الحكومة على قراراتٍ مطوَّلة، ولكنك لا تَجِدُ فيها اختلافًا
حول رأيه
الأساسيِّ القائل إنه لا ينبغي أن تغادَرَ البلادُ ولا الخرطوم، وكيف يُحْمَل على الجَلَاء
ستون
ألفَ شخصٍ وجنديٍّ وموظَّف وامرأة بغير وسائلَ للنقل؟
وهل يجوز تركُ هؤلاء هنالك بعد أن استقبلوه كالنبيِّ إيليَّا الذي ذُكر في التوراة؟
ولا
يمكن من الناحية العملية — ولا الناحية الأدبية — تنفيذُ الأمر الصادر، ويَسِير غوردون
مثل
ضابطٍ إذن، فيُحصِّن الخرطوم ويُتِمُّ عملَ قناةٍ طولها خمسة كيلومترات كان سَلَفُه قد
أراد بها
أن يَصِلَ النيلَ الأزرق بالنيل الأبيض فيُقطَع بها خُرطومُ الفيل ويَغدو جزيرةً، ويُقِيم
الحصونَ في الجزر وينتفع بشَفِير
١٠ النهر ليَعْسُرَ الهجوم على هذه المدينة، ويدرِّب كتائبَه ويشدُّ عزائمها مخبرًا
إياها بورود جيش إغاثةٍ، لا يعتقد — هو نفسه — حقيقةَ أمره.
ويمَّحِي غُوردُنُ البوريتاني أمام غُوردونَ الضابطِ، كما كان كُرومْوِيل، فلا يأمر
بأن
يُحَطَّم أمام قصره ما كان يستعمله الباشوات الذين حَلَّ محلَّهم من الأغلال والسياط،
ويُلغِي
حَظْر اقتناء الرقيق قاصدًا بذلك نَزْعَ سلاحٍ مما لدى المهديِّ، ويريد جلبَ مَلِك العبيد
الزبير من القاهرة التي حُجِرَ فيها فيَجعَل السلطة بذلك قَبضَة السودانيِّ القادر وحده
على
مقاومة المهدي، وهذه هي فكرة قطبٍ سياسيٍّ، وهذه فكرةٌ تجتنب في لندن لما كان من صراخ
جمعية
مكافحة الرق المؤلفة من سادةٍ لم يعيشوا بين وحوشٍ قط فكانوا ينظرون إلى الأمر من الناحية
الخلقية بدلًا من أن يفكروا في الأمر مليًّا، ومن الغرابة بمكانٍ أن يطلب، على غير جدوى،
محرر
العبيد غوردون ملك العبيد لإنقاذه، شأن غوستاف أدولف
١١ الذي أساء إلى تسامح كنيسته الخاصة في أواخر عمره.
وماذا يفعل؟ أيذاع بلاغٌ يعودُ به البلدُ إلى ملوكه السابقين؟ لقد فات الوقت، أم يَزُور
المهديَّ لابسًا درعًا مذهبةً كما صنع لدى ملك العبيد منذ بضع سنين؟ يُوضَع هذا التدبير
الأخرقُ
في الميزان فيلوح جَعلُ صاحبه عبدًا ثالثًا يَعدُو بجانب حِصان المهديِّ. ويبدأ غوردون
بعرض
سلطنة كردفان على المهديِّ، ويَعرِف خطيبُ الشعب هذا كيف يقابل مثلَ هذه الأمور بحَذَر،
فيقول
في رفضه هذا العرضَ: إنه لا ينبغي لإنسانٍ أن يَعرِض عليه السلطان، ويذكُر محمد المهدي
للاسكتلندي البوريتاني ماذا قال سليمان لملكة سبأٍ: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ
فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ
تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ
لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ويحاول المهدي
أن يستشهد أيضًا بعيسى الذي عُدَّ في القرآن نبيًّا عظيمًا، ويصرِّح غوردونُ المطمئنُّ
إلى
توراته بعدم صحة ذلك.
ويضيف المهدي إلى جوابه هديةً منه مؤلفةً من جُبَّة درويشٍ ورداء وسروال وعمامة وطاقية
وحزامٍ وسبحة مع قوله: «هذه كسوة الزهاد وأهل السعادة الكبرى الذين لا يبالون بما فات
من
المشتهيات طلبًا لعالي الدرجات … فإن أَنَبْتَ إلى الله وطلبتَ ما عنده لا يصعب عليك
أن تلبس
ذلك وتتوجه لدائم حظِّك …» وكان لدى هذا الزاهد الذي يكتب ذلك دائرة حريمٍ تحتوي أكثرَ
من مائة
امرأة!
ويتبسَّم غوردون ويسجِّل في يوميته قوله: «يلوح لي أن المسلم يخاف الله كما نخافه،
والمسلم
— عند إخلاصه — نصرانيٌّ مثلنا، وكلنا على شيء من الوثنية!» هذه هي حال فيلسوفٍ متسامحٍ
في
حياته الخاصة، غير أن هذا الحاكم يتلو كتابَ المهدي على من بَقِيَ من وجوه الخرطوم في
اجتماعٍ
رسميٍّ ويَطرَح جبة الزاهد المرسلةَ إليه ويدوسها بحذائه العسكريِّ.
ويتأهَّب كلٌّ من العدوين بعد تلك المفاوضة، وتشعُر قبائلُ شمال الخرطوم بأن غوردون
يهدِّدها من الجَنوب، وبأن الكتائب المُعلَنَ عنها تُهَدِّدها من الشمال فتنحاز إلى المهدي
نهائيًّا، وارجع البَصَرَ إلى ذلك الإنكليزي تجده مع بعض الكتائب قد فُصِلَ عن بقية العالم
من
قِبَل خمسين ألفَ درويش. والبرقُ وحده هو الذي ظلَّ باقيًا، ويوعَد بالمدد برقيًّا في
نهاية
الأمر. وهل يصل إليه المدد في الوقت المناسب؟ والحكومة المصرية عاجزةٌ، والحكومة الإنكليزية
حائرةٌ، ومن المحتمل أن كان غلادِستُن يضغَن على ذلك الرجل الذي أدى تمرده إلى الحملة
العسكرية
الحاضرة كما يَضغَن على زملائه لإرسالهم غوردونَ راجين ألا يُنَفِّذَ الأوامرَ الصادرة
إليه.
وفيما كان غلادستن يؤخِّر إرسال المدد حملًا لغوردون على مغادرة الخرطوم كان غوردون
عازمًا
على البقاء فيها إبقاءً للسودان ومصرَ قبضةَ إنكلترة، وتُشَنُّ حملةٌ صحافيةٌ في أغسطس
سنة ١٨٨٤
فتسفر عن فوز الوزراء القائلين بالتدخل، بَيْدَ أن الكتائب التي كانت تستطيع إنقاذ الموقف
في
شهر مايو لم تذهب إلا بعد ثلاثة أشهر.
ويُبصِر غوردون ما يُعَدُّ من نكبة، ويَذكُر الحقيقة سافرةً في برقياته إلى اللورد
كرومر،
ويَدَع الحوادث تسيِّره فيما بعد، ويقرِّر بنفسه ما هو ضروريٌّ من الأمور، وقد يسير نحو
خطِّ
الاستواء «وأَدَعُكم عُرضةً لعارٍ لا يَمَّحِي بترك حامية الخرطوم.» ويقول في يوميته:
«نحن قومٌ أسوياء
١٢ غير أن الدِّبْلُمِيِّين منا ماكرون عاطلون من الشرف المهنيِّ.»
ويَحكُم العاقل في أمر المتعصِّب بإنصافٍ أعظمَ مما يَحكُم به المتعصبُ في أمر العاقل،
فيزدرد
١٣ اللورد كرومر الإهانة ويمتدح غوردونَ بعد حينٍ لخلوِّه من نِفَاق القوم.
ويتَّفِق النيل وغلادستن على عدم خَلَاص غوردون. ومما حَدَثَ أن أرسل غوردون كتيبةً
نحو
دُنقُلة وأن كُسِرَت الباخرة الحاملةُ لها في شلَّالٍ وأن ذَبَحَ الدراويش غَرْقاها،
ويَحِلُّ
فصل الخريف فيتنازع النبيُّ الأسودُ والمؤمنُ الأبيض، ويزيد ما يجمعه الخليفة حول الخرطوم
مقدارًا فمقدارًا، ويحاول الحاكم أن يحوِّل هذه المدينة إلى حِصن فيَحفِر خنادق ويَبسُط
فوقها خَيْشًا،
١٤ ويصنع خُبْزٌ من الجُمَّار
١٥ والصمغ وتُوَزَّع الجراياتُ بين الأهالي، وتُضرَب النقود، ويَشُدُّ غوردون عزائم
ألوف الآدميين الذين صاروا يبصرون تضييق نطاق الحصار، ويرون ما يَحِيق بهم من الدمار
إذا ما
وَصَلَ الإنكليز متأخرين.
ويقيم المهديُّ بضفة النيل الأبيض الأخرى في أُمِّ دُرمان التي استولى عليها في ديسمبر،
فإذا خَرَجَ من دائرة حَرِيمه، التي أخذ يُطِيل المُكْثَ بها، وصعد في سطح بيته العربي
الأبيض
أمكنه أن يبصر وراء النيلين سطح القصر القُوطيِّ الذي يسكنه عَدُوُّه، وهو إذا ما استعمل
المِنْظَار استطاع أن يتبيَّن شَبَحَ غوردونَ لقضائه ساعاتٍ على سطح قصره الذي هو أعلى
نقطةٍ في
الخرطوم، وإن شئت فقل استطاع أن يَعرِف ترِيسْتان
١٦ الجديد مترقبًا سفينةَ الخلاص من الشمال، ومن المحتمل أن كان غيرَ منتظِر شيئًا،
ومن المحتمل أن كانت تواثبه نُبُوة الشهداء الذين لا يكادون يرغبون في الإنقاذ، ويُقطَع
خطُّ
البرق ويُمنَع من كل اتصالٍ بالعالم وينقاد لتردده النفسيِّ وينشئ يوميته، ويَرسُم فيها
صورًا
هزليةً للورد كرومر وللوزراء، ويُعجَب بمهارة خصمه مع خُلُوٍّ من الغَرَض أفلاطونيٍّ
كثيرٍ على
قائدٍ ومع محافظةٍ على نشاطه مفكِّرًا في حال جميع من وَثِقُوا به.
حتى النيل يَخِيس
١٧ بالعهد في نهاية الأمر، فقد هَبَطَ مستواه أكثرَ مما في فصول الشتاء الماضية،
وينهار ما بناه غوردون من متاريسَ
١٨ وأسوارٍ، ويكوَّن مَنقَعٌ واسع بينها وبين النهر، فلا يكون للمحصورين وِقايةٌ به
إلا عند عدم جَفَافه، وتَزِيد المجاعةُ وتَكتَظُّ الشوارع بجُثَث الناس والجِمال، وتحوم
العِقبان فوق الخرطوم ولا يصل إليها صفير باخرة. ويريد غوردون أن يرى المحصورين أن قائدَهم
لا
يخاف قنابل المهدي فيُنِير نوافذَ قصره، وتبيضُّ جميع خُصَل غوردون الشُّقْر في الأسابيع
الأخيرة من حياته ويكتب قبل خاتمته بأسبوعين إلى أخته قوله: «قد يكون هذا آخرَ كتبي إليكِ،
فقد
عُوِّقَ المدد كثيرًا، والله هو المسيِّر، ولْيَكُنْ ما يريد، أجدني سعيدًا تمامًا …
وأحمد الله
على أنني لم أدَّخِر وسعًا في القيام بالواجب.»
ويغدو الجيش الصغير الآتي من الشمال سيِّئ الحظِّ على النهر، ويتردد عدَّةَ أيام،
ويُطلِق
الدراويش — العارفون بدوافع النهر والمتوارون في الأيكة — نارًا على البواخر فيُكرِهون
ملَّاحيها على الوقوف في كلِّ ساعة، ويتَّخِذ هؤلاء الملاحون خشبَ النواعير وقودًا لقدور
بواخرهم، ثم يسير ذلك الجيش إلى الخرطوم من عُقدة النهر في الجنوب قاطعًا الصحراء، ويُبصِر
الخليفة سيرَ ذلك الجيش بضعةَ أيام فيأمر بالهجوم على المِصرِ المحصور منذ ثلاثمائة يوم،
ويرى
غوردون في الصباح — ومن سطح قصره — زَحفَ جيشِ الدراويش نحوَ الخرطوم.
وكان غوردون قد قرَّر قتل نفسه في مثل تلك الحال، وتَحُولُ وساوسه الدينية دون ذلك،
ويودُّ
أن يموت شهيدًا، ويبدو هادئًا هدوءًا تامًّا، ويذكر سمو مقامه ويلبس بذلته الرسمية البيضاء
ويتقلد سيفه ومسدسه وينزل من الدرج حين اقتحام العدو باب قصره، ويتردد جميع الدراويش
بضع ثوانٍ
عن خوفٍ، ثم يصرخ أحدهم قائلًا: «اقتلوا عدو الله!» ويُرمى برمحٍ، وينظر إلى ذلك شزرًا،
ويذكر
شهودٌ دعوا إلى مجلس القضاء فيما بعد أن شق لنفسه طريقًا قابضًا على سيفه متوجهًا إلى
الباب حيث
خر صريعًا بطعنات سيوفٍ وخناجر، ويؤتى برأسه إلى المهدي ثم يوضع على رأس مزراقٍ أمام
منزله
ويرجم، وكان هذا فاتحة مذبحةٍ عظيمةٍ في الخرطوم.
وفي الغد يعبر المهدي النيلين على باخرة غوردون، ويذهب لمشاهدة جثة عدوه المقطوع
الرأس،
وتطفح الطرق بجثث آخر البيض والمصريين، وتعذب النساء حملًا لهن على إظهار مخابئ نقودهن،
ويرقص
العبيد على سادتهم المحتضرين، وترش الكلاب مع أصحابها بالكحول وتُحرق، ويقوم بضروب القبائح
جمهورٌ هذاءٌ
١٩ سعرٌ
٢٠ ينتقم لنفسه من استعباد نصف قرن، ويكون المهدي أول من يختار من يروقه من البنات
والبنين الأسارى، ثم يأتي دور الخليفة، ويأمر الخليفة بحمل مغطس غوردون ومرآته إلى بيته
في ضفة
النيل الأخرى بأم درمان، وتحول الخرطوم إلى رماد.
ويمضي يومان على سقوط الخرطوم، فتأتي كتائب اسكتلنديةٌ حاملةٌ شعار عشيرة غوردون،
وتبلغ
جزيرة توتي، فتُستقبل برصاص البنادق، وتكر على العدو وتصاب بالخيبة في المساقط، ويهلك
معظمها،
ويأتي من نجوا بنبأ ذلك إلى المعسكر في مجرى النهر التحتاني، ويبدون صفر الوجوه كالرسول
في ختام
مأساةٍ يونانية.
ويسمن المهدي ويرم
٢١ في السنوات الأخيرة فلا يعيش غير أربعة أشهرٍ بعد النصر، وكان منزل هذا الزاهد
محاطًا بسلسلةٍ من بيوت النساء حيث يكثر الذهب والتاليرات، وكانت تجمع له أكداسٌ عظيمة
احتياطية
من الذرة كما لو كان يخشى القحط، وكنت ترى بجانب ذلك كومةً عجيبة من الأدوات الأوروبية؛
أي
كدسًا من المصابيح والمعلبات والمطابع ومن فانوسٍ سحريٍّ عُد من أجهزة السحر لدى
النصارى.
وفتح السودان، وماذا يصنع المهدي به؟ لقد أرسل رسلًا إلى البلدان الأجنبية طالبًا
الإيمان
به، أجل، كان يعظ الناس بنفسه في الحين بعد الحين كما في الماضي، ولكنه ترك الحكومة للخليفة
فصار لا يفكر في غير الأكل والعناية بأمينة الحسناء التي ذبح زوجها وأبوها في الخرطوم
تاركًا
الدراويش وشباب الأنصار يتنازعون المناصب والأموال.
ويداوم المهدي في خارج منزله على لبس ثيابٍ من كتان، فإذا ما كان في بيته ارتدى ملابس
من
نسائج ثمينةٍ، وهو إذا ما استلقى على وسائد من سندسٍ
٢٢ وإستبرق
٢٣ أراحه نساؤه القائمات وراءه بريش النعام، ومسدته
٢٤ نساءٌ أخر، ويلبس أقربهن وقوفًا منه ثيابًا أفخر من ثياب غيرهن، ويباع الماء الذي
يغتسل به والتراب الذي يطؤه من المؤمنين، ويمرض ستة أيام، ويموت مسمومًا من قبل أمينة
أو ضحية
سمنه.
وكان غوردون مخلصًا باسلًا شريفًا صنديدًا لا عيب فيه ولا يرهب الردى فخر صريعًا وحيدًا
بطعنات جمعٍ من القتلة، وقد تعقبه الخطيب الشعبي عن كثبٍ متورمًا منتفخًا محاطًا بنساءٍ
وأكياسٍ
من ذهب، فظل أحدهما ملعونًا وتوج الآخر بإكليلٍ أسطوري.