الفصل الثاني عشر
بينما كانت دولةٌ من البيض تمثِّل دورَ المنتقم فتستولي على بلد السُّود كانت تسير على الدَّرْب دولةٌ أخرى منافسةٌ لها محاولةً الوصولَ قبلها، وتبدأ مسابقةٌ يَقصُر عنها الخيال.
ولنقم بهجومٍ نحو النيل! يسير الإنكليز من الشمال نحو النيل الأوسط، وليسر الفرنسيون من الغرب نحو النيل الأعلى، وكلما اقتربت فرنسة من منبع النيل الحافل بالأسرار زادت قوةً، وإذا ما صارت فرنسة سيدةَ النيل الأبيض في الدرجة الثانيةَ عشرةَ من العرض الشمالي أزعجت إنكلترة وحَرَمَت مصر — على ما يحتمل — ما تحتاج إليه من الماء بما يُبْنَى من الأسداد، وذلك لعدم كفاية ما يأتي به النيل الأزرق في الدرجة الخامسةَ عشرةَ من العرض الشمالي، وهكذا تنطوي القبائل المتوحشة والمناقع المنيعة والسُّهُوب والصحارى والبحيرات على معضلة عالميةٍ تحتاج إلى فصل.
وتحاول فرنسة أن تغامر، ومع ذلك خسرت فرنسة السِّباق قبل أن تسير؛ وذلك لأن الغالب لا يكون أولَ من يصل وأول من يرفع علمه، وإنما الغالب هو من يصل في أحوال ملائمة مع رجالٍ كثير ويكون من القوة ما يستطيع به أن يبقى. وهل يقدر الفرنسيون على إنشاء خطٍّ حديديٍّ من الكونغو إلى النيل؟ وإذا عَدَوْتَ رائدين أو ثلاثةَ روَّادٍ لم تجد أحدًا قد عَبَرَ حوضَ بحر الغزال، وما كانت تُعرَف حتى القبائل التي يسار من بينها.
وضابطٌ، مع شرذمةٍ من الزنوج، ومع عطلٍ من المدافع، هو كل ما أرسلته فرنسة من خلال الغابة الخضراء ومن بين أوحش البلاد لبلوغ النيل، ولبلوغ أقرب مكانٍ من منبع النيل، بما يمكن من السرعة، وفي تلك الأثناء تنطلق إنكلترة من قاعدةٍ أمينة وتنشئ خطًّا حديديًّا لنقل جيشها وجيش مصر ضد العدو، ومن المحتمل أن كان هذا العدو سيد ما حول فاشودة في الجنوب الأقصى.
ويَسِير خليفةُ أبطال قدماءِ النورمان، مَرشَان، من لوَانْغُو متوجهًا إلى الشرق ويُوغِل في الغابة البكر من وادي الكونغو، ويصير لِزَامًا عليه أن يقاتل الضواري، وأن يقاتل أَكَلَة لحوم البشر الذين كانوا يفترسون صيَّاديه وحمَّاليه، وكان يَعرِف أن الإنكليز يتسلَّحون وينشئون خطَّهم الحديديَّ ويتقدمون في النيل الأوسط. ولكن أين كانوا؟ وهل كانت الصحراء وعواصف الرمل تَتَخطف رجالَهم كما كانت الأسود والوحوش تَتَخطف رجالَه؟ وهل كان جيش الدراويش يَقِفهم في الشمال بعون الله فيَدَع الطريقَ حرةً للفرنسيين في الجنوب؟ جَهِل مرشان ذلك أسابيعَ وأشهرًا ثم أتاه نبأٌ مشوَّه، وكان يودُّ أن يصل قبل أن يَقضِيَ الإنكليز على الدراويش، وكان خوفه من المسلم الأسمر الهمجيِّ والعدوِّ للحضارة أقلَّ من خوفه من الإنكليزيِّ النصرانيِّ الأبيض المتمدن، لتمتُّع الإنكليزي بمصرَ ولِمَا عند الإنكليزيِّ من مدافعَ ونفوذٍ.
وكان الفرنسيون — الذين أضحوا في الدرجة العاشرة من العرض الشماليِّ — يجهلون نَيْلَ الإنكليز أولَ نصرٍ على الدراويش ببَربَرَ في الدرجة الثامنةَ عشرةَ من العرض الشماليِّ، وما كان الإنكليزُ يَعلَمون وجودَ أبيضَ خصمٍ لهم وللسُّود على شاطئ النهر نفسه وعلى بُعدِ ألف كيلومتر من الجنوب.
وكان الدراويش من الضعف في تلك البقعة ما فَرُّوا معه أمام مَرشان الذي كان بلا عَتَادٍ تقريبًا، ويُنشِئ مَرشان حِصنًا صغيرًا على ضِفة النهر، ويَعقِد معاهدة حمايةٍ مع رئيس الشِّلُّك ويزرع بعضَ الخُضَر، غير أنه كان يُعوِزه ما يتوقف عليه كل أمرٍ من مَدَدٍ وعُدَدٍ واتصالٍ بوطنه؛ فيحاول أن يكون ذا علاقة بالكونغو والحبشة فلا يُوفَّق، ويظل وحيدًا، هو هنالك، هو على النيل مع أواخر ضباطه البِيض ومع بعض بنادقَ، وتَقِف الريحُ في أشهر الصيف فيبدو العَلَم معلَّقًا بعمودِه في حالٍ يُرْثَى لها.
ويدوم مد الخط الحديديِّ الإنكليزي في تلك الأثناء بلا هَوَادَة، ويَدحَر العدوَّ أمامه حتى فاشودة على ما يحتمل، ولم يَعرِف أحدٌ ماذا كان يَقَع في ذلك البلد الذي هو طُعمَة الفوضى، والنيلُ وحده هو القادر على وَصْل مرشان بكتشنر. وما زال المسلمون يَفصِلون بين المتنافسين، وما كان الإنكليزي يخشى شيئًا، وما كان الإنكليزي يخشى سير ٢٣ فرنسيًّا و٥٠٠ سنغالي، منذ ثلاثِ سنين، ولو ظلُّوا كلهم أحياءً، ولو حلُّوا بضفة النيل، فهؤلاء ليسوا مرهوبين.
وتمرُّ خمسة أيامٍ على ما تمَّ في أم درمان من نصرٍ حاسم، وتمرُّ أربعة أيامٍ على احتلال الخرطوم فتأتي باخرةٌ بأول نبأٍ من الجنوب، تأتي بنبأ وجودَ أبيضَ في فاشودة عَقَدَ معاهدةً مع الشِّلُّك، وكان يمكن كِتشنر أن يستريح بضعةَ أيام بعد عناء عامين، ولكنه لم يتمالك أن أدرك ما هنالك، فقام بنصف جَوْلَةٍ في الباخرة، فلما انقضت ثلاثة أيام تَوَجَّه نحو منبع النيل ليزور ذلك الفرنسيَّ التَّعِس، ويَجلِب معه كتائبَ سودانيةً ومائةَ اسكتلنديٍّ وبضعَ سفن ذاتِ مدافعَ حتى يُدرِك مُضِيفه مَغزَى زيارته.
وبعد تسعة أيامٍ تَرْسُو السفن الإنكليزية في فاشودة حيث يَتَمَوَّج علمٌ كبيرٌ مثلثُ الألوان، ومن الفصول الروائية، حقًّا، أن يلتقيَ ضابطان من البيض متماثلان هيئةً مع اختلافهما شِعارًا، منتسبان إلى أمتين جارتين مع تسالمهما على بُعدِ ألوف الأميال من هنالك، مُفَوَّضٌ إلى كلٍّ منهما خلعُ الآخر، ويستحقُّ إقدام كِتشنر كلَّ إعجاب، ويتَّجه العطفُ العامُّ في ذلك الحين إلى مرشانَ العاطلِ من الرجال ومن السَّنَد ومن توجيه باريسَ له (على خلاف كتشنر الذي يُوَجَّه برقيًّا في الخرطوم)، والذي يقدَّم إلى الغالب بالأمس غيرَ مجهَّزٍ بسوى مسدسٍ لا ينبغي له أن يستعمله وبسوى عَلمٍ لا تَخْفِق الريح فيه.
ويتحادث الفاتحان في كوخ مَرشان، وذلك بأن هَنَّأ الإنكليزي الفرنسيَّ بإيصاله مغامرتَه إلى هدفٍ حسن، وذلك بأن هَنَّأ الفرنسي الإنكليزيَّ بالنصر الكبير الذي عَلِمَ خبرَه من الزنوج، ولا أحدَ يَعرِف مقدارَ الصمت الذي عَقَب تينك التهنئتين، وإنما عُلِمَ فقط أن مرشان صرَّح قائلًا: «أقامتني حكومتي وكيلًا عنها في احتلال بحر الغزال حتى ملتقاه ببحر الجبل؛ أي باحتلال أراضي الشِّلُّك الواقعةِ على شمال النيل.»
ويجيب كتشنر عن ذلك قائلًا: «لديَّ تفويضٌ بألا أوافق على وجود سلطانٍ لدولةٍ من البيض في وادي النيل.» ويُسَلِّم إلى مَرشانَ مذكرةً رسمية، ثم يَنْهَض لما يَجِد من وجوب رَفع عَلَمه بجانب العلم الفرنسيِّ، وهنا يتجلى الرجلُ الماجد، فقد أدرك مشاعرَ زميله، ولم يُكرِهه على إنزال عَلَمه لِمَا قد يؤدي إليه ذلك من نتائجَ هائلةٍ، بل ذهب إلى بُعدِ خمسمائة متر ورَفَعَ العلم التركيَّ! ثم توجَّه مسيرةَ يومٍ نحو منبع النيل وأنشأ مركزًا على السُّوباط، وعاد، وترك في فاشودة حَرَسًا سودانيًّا وأربعةَ مدافعَ وبَلَّغَ مرشانَ بأدبٍ لا غُبَار عليه أن «البلدَ» خاضعٌ للحكم الثُّنَائِيِّ الإنكليزي المصريِّ، وأنه مَنَعَ كلَّ نقلٍ للعَتَاد الحربيِّ على النيل.
ويظلُّ الضابطان واقفيْن متواجهيْن.
ولم يكد كتشنر يلفظ بذلك حتى قال مرشان: إذن سأموت هنا.
ويقع كل شيء وَفْقَ شعائر الشرف العسكريِّ، ويقدِّم كتشنر تقريرَه عن هذا اللقاء، وتُحَلُّ المهزأة الأفريقية في أوروبة على حسب العادة القديمة، ويصبح الرجلان أُلعوبتين بين أيدي السياسيين والمضاربين، وتنهمك باريس ولندن في هذا الأمر، ويَلُوح شَبَحُ الحرب، وضَعفُ فرنسة في ذلك الحين — لا حِكمةُ إنكلترة — هو الذي حال دون نشوبها، وفي الصُّحُف يتجلَّى الجَشَع، وفي الصحف تُطلَق الأحقادُ من عقالها في أثناء مفاوضات الوزارتيْن، ويدوم ذلك ستةَ أسابيعَ، وتُحمَل باريس على الخضوع، ويُشَادُ بذكر مَرشان رسولًا للحضارة، ويُغْمَر بأكاليل الغار سَترًا للجَلَاء عن فاشودة وصَرْفًا للأذهان عما مُنِيَت به فرنسة من حُبُوط.
وتتحالف فرنسة وإنكلترة بعد ستِّ سنواتٍ من تاريخ عودته، وكنتيجةٍ غير مباشرةٍ لغزوته، ويحارِب في أثناء الحرب العظمى بجانب الإنكليز، ثم يكون شاهدًا بعدئذٍ على ما بين البلدين من فُتُورٍ، ويموت في سنة ١٩٣٤، ويرى قبل موته إمبراطورية فرنسة الاستعماريةَ الكبرى في غرب أفريقية من غير أن يكون النيل جزءًا منها.