الفصل الثالث عشر
كان العلم الذي رفعه كتشنر فوق فاشودة أحمرَ اللون، كان العلمَ التركيَّ، والآن يَخْفِق العلمُ الأخضر الجميل، العلمُ المصريُّ، فوق جميع السفن والمباني العامة بجانب العلم الإنكليزيِّ، ويدوم الحكم الثنائيُّ منذ ربع قرن، ويمكنه أن يدوم زَمَنًا طويلًا على الرغم من اعتراض أضعف الفريقين.
ويُعَيِّن النيلُ مصيرَ السودان مرةً أخرى، وقد كان الإشراف على النيل في سبيل مصرَ وتنظيمُ مجراه الأعلى ذرائعَ وعواملَ تتمسك بها إنكلترة القابضةُ على زمام مصر — فيما مضى — قبضًا مطلقًا تقريبًا، وقد حالت إنكلترة دون إفلاس هذا البلد لِتُمْسِكه إلى الأبد. وهل تترك إنكلترة لغيرها مجرى النهر الأوسط وملتقى النيلين بعد أن مَلَكَت منبعه وفُوهته؟ أَوَ تتركهما للسودانيين، لهؤلاء الهَمَج، الذين كانوا تابعين للمهديِّ؟ أَوَ تتركهما للمصريين الذين كان للسودان بهم خرابٌ مدةَ خمسٍ وستين سنة؟ أَوَ تتركهما للفرنسيين؟ إذا وُجِد من الناس من يمكنهم أن يُزعِجوا مصرَ بالنيل من جهةِ السودان فالإنكليز وحدَهم هم أولئك الناسُ.
وكانت مصرُ من الضَّعف ما لا تستطيع معه أن تستردَّ السودان وتُدِيره، وكانت مصر تُفَضِّل — لذلك — أن تَدَع مكانَها للإنكليز على أن تَدَعَه للسودانيين والفرنسيين، وكان لبريطانية العظمى من المصالح البالغة الأهمية ما تدافِع به عن مصرَ الدنيا فلا تُقدِم على تقويض دعائمها حين الاختلاف، ولو اقتصر الإنكليز — بعد انتصارهم في أم درمان — على رفع علمهم وحدَه ما استطاع المصريون أن يَحُولُوا دون ذلك، غير أنه كان لمصرَ من الحلفاء المكتومين ما تَعْتَدُّ إنكلترة بماله ونفوذه في القاهرة. وقد اجتُنِبَ احترابُ إنكلترة وفرنسة الذي لاح شَبَحه أيام فاشودة، لا عن ضَعْفٍ في فرنسة فقط، بل عن عَزْم إنكلترة — أيضًا — على رفع العلم التركيِّ رمزًا كما فعل كتشنر فوق زاويةٍ محصَّنة في الدرجة العاشرة من العرض الشماليِّ. وقد استفاد المصريون — كشرقيين حقيقيين — من تنازع الدول الغربية، فإذا كان سوء إدارتهم قد أوجب ضَيَاع السودان فإنهم صاروا شركاءَ في سيادة ذلك البلد الذي أُعِيد فتحه بمالِهم وجنودِهم مع قُوَّادٍ من الإنكليز، والذي حُفِظ بفضل النفوذ الإنكليزيِّ.
واللورد كرومر هو الذي عَنَّ له أمرُ العلميْن، واللورد كرومر هو القائل: «لا يؤدي أُفول هذا الحكم الثنائيِّ إلى سَكْبِ عَبْرةٍ من قِبَل مُخْتَرِعه إذا ما استُبدِل به حكمٌ أمتن منه.» وإذا كان هذا النظام قد ظلَّ قائمًا بما يثير حَيرَة الجميع فلتوزيع الحقوق بين الفريقين توزيعًا غير متساوٍ، ويمكن أن يقال: إن هذا قِرانٌ شرقيٌّ تقدِّم به الزوجُ مالَها وتَضَع أولادَها من غير أن تنال في مقابل ذلك غير حقِّ الحياة؛ أي ماء النيل، وهي مع ذلك زوجٌ شرعيةٌ تمرُّ في الأحوال العظيمة تحت أقواس النصر راكبةً حصانًا بجانب بَعْلها مغمورةً بالحُلِيِّ محَجَّبةً تمامًا. والسودان هو أول بلدٍ وُضِع تحت الانتداب في التاريخ، وكان هذا قبل استعمال هذه الكلمة من قِبَل مؤتمر باريس في سنة ١٩١٩ حين أفسد معناها.
وإن الحاكم العام — وإن جميع أكابر الموظفين — في السودان الإنكليزيِّ المصريِّ هم من الإنكليز، ولو حَدَثَ أن رَفَض الملكُ بالقاهرة تعيينَ حاكم تُوصِي به الحكومة الإنكليزية لوَجَدَ جميع الإمبراطورية البريطانية ضِدَّه، ولهذا الحاكم — الذي لا يَقدِر الملك على عَزْله — مثلُ ما كان للمهديِّ من الحقوق، وذلك لِمَا لا يزال القانون العُرفي العسكري معمولًا به في السودان، والحاكم هو الذي يقرِّر جميعَ المسائل المهمة، وهو الذي يَقضِي فيها طاغيةً، وكانت مصر هي التي تُقدِّم الجنودَ، ولا تزال مصر تقوم بقسطٍ كبير من نفقات الاحتلال (٧٥٠٠٠٠ جنيه).
ولمصر فائدةٌ من وراء ذلك مع ذلك، ولو خَسِرت مصر النيلَ الأوسطَ حربًا تِجاه إنكلترة لوجدت في الأدب التاريخيِّ ما يُسَوِّغ تفكيرها في الانتقام. والواقع أن مصر عادت — بتدخلٍ من إنكلترة — إلى امتلاك بلدٍ بالاشتراك كانت قد أضاعته عن سوء إدارةٍ لسكانه النوبيين الأصليين.
ويَشعُر المصريون بأنهم أرقى من أولئك السكان كما تَشعُر به أية دولة من دول البيض المنتدبة على الزنوج، وتظهر طبقات المصريين العليا — وهي غيرُ طبقة الفلاحين — من قِلَّة العدد كالأشراف وكأبناء الطبقة الوسطى الراقية في العهد القيصريِّ الروسيِّ، وهي تَعُدُّ نفسها وارثةً لحضارةٍ بَلَغَت من القدم خمسةَ آلاف سنة، وهي لا تَشعُر بغير ازدراءٍ للسودانيين الذين هم من أَكَلَة لحوم البشر، والذين يَصلُحون للعناية بالخيل وللطَّهْي وليكونوا خَدَمًا في قصور القاهرة، وكان الخَدَم السودانيون حتى سنة ١٩٠٠ أبناءً لعبيد اتُّخِذوا قَنَّاصين في الغارات كالباز في الصيد، ويعود أولئك الخدم إلى بلدهم بعد غِياب بضع سنين جالبين معهم نَقْدًا ومزاعمَ وزَهْوَ أنصافِ الجُهَّال.
ومن شأن ذلك التطور أن يُعَيِّن مصير مصر والسودان في نهاية القرن العشرين، ولم يَجْلُب الفاتح المصريُّ في القرن التاسعَ عشرَ شيئًا إلى السوداني؛ ولذا لا يُوحِي المصري إلى السودانيِّ بأقلِّ احترام، وكان لأهل شمال ذلك القطر الكبير ما له من اعتقادٍ يصل المؤمنَ بالله وبالقدر وبأدب الدولة أحسنَ مما يَصِل الإيمانُ النصرانيُّ الأبيضَ به، وإليك كيف يعبِّر عن مشاعر السودانيين نحو البيض هَرُولْد مَكْمايْكِل الذي هو من أعلم الناس بالسودانيين: «لهؤلاء البيض الأفذاذ نِيَّاتٌ طيبة لا ريب، ولكنهم ذَوُو تصور هزيل حَوْل الدين، ويَنِمُّ كثيرٌ من عاداتهم على نقصٍ في الذوق السليم.»
وكان هذا الشعب المباع المعبَّد قد ثار بطَفْرةٍ من النَّفْرَة فخَدَعه زعماؤُه وداسوه بأقدامهم، ثم استولت عليه كتائب من البيضِ فانتقل بغتةً من الظلمات إلى نُور الغرب. وكان السودانيون في أوائل هذا القرن، ومنذ مدةٍ أقلَّ من خمسين سنة، يُنقَلون في أوروبة زُمرًا زمرًا مع أسرهم من حديقة حيواناتٍ إلى حديقة حيوانات فيُزْرَبون كضواري قطرهم عرضًا لرقص بلادهم وللصيد في ديارهم ترويحًا للبيض. واليوم ترى حفيدهم جالسًا أمام مُجهَر في معهد المباحث بالخرطوم ليدقِّق في جراثيم النيل!
ويضاف جميع ذلك إلى الشعور القوميِّ الذي يقتبسه أصحاب الجلود الملوَّنة من البِيض فيدُلُّ على تحولاتٍ عنيفة تُعنَى إنكلترة بتعديلها. ومن قَولِ اللورد لُوغَارْد الذي هو آخِرُ أفريقيٍّ عظيم: «يمكننا أن نُرِيَ الزنوج في جيليْن أو ثلاثة أجيال حقيقةَ أمرِنا، ثم يدعوننا إلى الرحيل، وسنُضطَرُّ إلى ترك البلاد لأصحابها مع جعلهم يشعرون بأننا في الحقل التجاريِّ أصدقاءَ أكثر أمانةً من البيض الآخرين.» ويذهب المريشال ليوتي إلى ما هو أبعد من ذلك فيقول: «الطبيب هو ذريعةُ الاستعمار الوحيدة.» وهذا هو رأي اثنين من رُوَّاد دَوْر الفتح.
وسُهِّلت جهود إنكلترة في السودان بفتوحِ العلم الحديث، وزادت بعد محاربة المهدي أهميةُ الخطِّ الحديديِّ، الذي يَقطَع مُنعَطَف النيل فيَختصر مسافة ٣٥٠ كيلومترًا، فيَنقُلكم هذا الخطُّ من القاهرة إلى الخرطوم في مائة ساعة، وتنقلكم الطائرة بين هذين المِصرَين في أربعَ عشرةَ ساعة، وينقلكم الخطُّ الحديديُّ بين العَطبرة والبحر الأحمر في سبع وعشرين ساعة، ويَصدُر في كلِّ سنةٍ من بور سودان، حيث أُعِيد بناء المرفأ القديم غيرِ الصالح، ثلاثةُ ملايين طُنٍّ تبلغ قيمتها خمسة ملايين جنيه، وهذا هو طريقُ البحر الأحمر المؤدِّي إلى داخل أفريقية، والذي يُبْحَث عنه منذ القديم، وتسيرُ في كل أسبوعٍ سفنٌ نحو النيل الأعلى، وحُفِرت آبارٌ على طول طريق القوافل، وأُنشِئت مستودعاتٌ لزيت الطائرات، وتُوزَّع حبوبٌ في سني المجاعات، ويُنتَج الصمغ العربي بمقاديرَ أكبر مما في الماضي فيوجب ذلك ابتياعَ كثير من الحلويات.
ونُظِّم قسمٌ مهمٌّ من السودان من قبل الضباط فجاء هذا دليلًا على وجود رجال بين الضباط قادرين على القيام بأعمالٍ غير صُنْعِ الموت. ومن نتائج الحرب العظمى أن اغتنى السودان بما قَبَضه من ثمن للمُؤَن العظيمة، وقد نشأ عن انهيار تركية ونصبِ مَلِكٍ في القاهرة تعزيزُ مركز الإنكليز في السودان، وما كان من الفِتَن التي أوجبها تلاميذُ غوردون القدماء فقد أزعج إنكلترة بضعةَ أيام، وما كان من عصيان كتائب السُّود الخاضعةِ لضباطٍ من السودان فقد حمل الإنكليزَ على التفكير فيما ينطوي عليه التطور السريع من مخاطر، وكيف الخَلَاصُ من المصريين الذين حَرَّضوا على تلك الفِتَن، والذين يَخدُمون في الجيش منذ قيام الحكم الثُّنَائِيِّ؟ لم يَكْفِ قتل مرسل إنجيليٍّ لنَيْل ذلك.
قَتَلَ نفرٌ من دعاة الوطنية بمصرَ حاكمَ السودان العامَّ في شهر نوفمبر سنة ١٩٢٤، وفي أثناء إقامته بالقاهرة، ولم تنتظر بريطانية العظمى في هذه المرة ثلاثَ عشرة سنةً كما فعلت بعد قتل غوردون، بل نالت مبتغاها في إخراج جميع الكتائب المصرية من السودان في ثلاثة أيام، وبإنذارٍ، وفضلًا عن التعويضات وغيرِها من العقوبات، ويُذْعَر القوميون من المصريين لوَضْع النيل على أساسِ العَلَمِ الأبيض رمزًا للسياسة، ويرتعد المعتدلون من المصريين تجاه وعيد صاحب السلطان في النيل الأعلى.
وهكذا يزول آخر أَثَرٍ لسيادة مصر على السودان بخروج كتائبها منه، وصار العَلَم الأخضر لا يَخْفِق بجانب العلم الإنكليزي إلا على سطح قصر الحاكم في الخرطوم وعلى مؤخرة البواخر التي تَمخَر في النيل.