الفصل الرابع عشر
يحافظ النيل على منظره الابتدائيِّ إلى ما بعد الخرطوم، وما تراه من أنصاب
١ مُرَقَّمةٍ مغروزةٍ في الشاطئ فيدلُّ وحدَه على أن الإنسان يَرقُب النيل، وما تراه
من قرى تُنعِش ضِفتيْه فلا يَنِمُّ على غير الأمس واليوم. وتُبصِر على ضفاف القسم الثاني
من
النيل أعمدةً ومعابدَ وجنادلَ مشذَّبةً وأهرامًا أقامها الإنسان لتكون شاهدةً على مآثره
منذ
خمسة آلاف سنة في واحَةٍ كثيرةِ الضِّيق بالغةٍ من الطول ألفيْ كيلومتر.
وليس للغرانيت الخالد، ولا للحجر الرمليِّ القَصِف أن يَخشَى المطر ولا البرد، فلا
تزال تلك
الأعمدةُ باقيةً كما لو كان الإنسانُ الذي يقاتل الإنسانَ غيرَ صانعٍ لها، ولا يلوح شيء
يجاوز صَوَاريَ
٢ الجَوَارِي
٣ الجميلة في المكان الذي يغادر فيه النيلان المزدوجان ازدواجًا أخويًّا أولَ مِصْرٍ
أُقِيم على ضفافه؛ أي في الخرطوم. وانظُرْ إلى قِباب المدينة الأهلية القائمة على النيل
الأبيض
والتي يَبدُو تلاشيها في الصحراء تَجِدْها من الانخفاض كأبراج الإنكليز على النيل الأزرق،
ولا
شيء يُذَكِّر هنالك بسُدُوف
٤ مدننا الأوروبية القديمة على ضِفاف التايمس والسِّين والدانوب ومُوسقوَه، وللنهر
المزدوج في ذلك المكان من الجلال ما يجدر معه أن يسيطر على عاصمةٍ كبيرة في ضفافه
الأربع.
وتقع جزيرة تُوتِي أمام ضِفة النيل الأزرق اليمنى ثم أمام ضفة النيلين المتحدين، وهي
ذات
شواطئَ منحدرةٍ، وهي تجتذبكم بجمالها، وقد غَمَرَها الغِرْيَن بالغِنَى، ولا تَجِد في
مكانٍ ما
لنخلها من الرَّوْعة، ويمتاز نخلها باسمراره على السُّهْب الأصفر، ويَنَال من دَوْح جُمَّيْزِها
ما يُرْغَب فيه من الطَّرَاوَة، والجزيرةُ ذاتُ غابٍ وظلالٍ، والجزيرة مثيرةٌ للخيال،
والجزيرة
تنتهي في مجرى النهر التحتانيِّ برأسٍ تستره أَجَمة حقيقية.
وتَظهَر بالقرب من تلك الجزيرة جُزَيْراتٌ في ملتقى النيليْن، وتتوارى هذه الجُزَيْرَات
تحت
الأمواج وقت الفيضان، ثم تُكَوَّن مرةً أخرى على بعض المسافة برواسبَ من الحَصَا والرمل،
ويبدأ
تخاصم أهل الشاطئ:
أحمد
(صارخًا)
:
كانت هذه جزيرتي.
محمدٌ
(زاعقًا)
:
كلا، هذه هي الجزيرة التي حَرَثْتُها في الشتاء الماضي.
ويصعُب الأمر على القاضي، فالمعالم مغمورةٌ بالنهر.
وتَنْقُل الإنسان والحيوانَ من ضِفة إلى أخرى قواربُ مُثْقَلَة، ويذكِّركم الآدميون
— عند
مرورهم مكدَّسين تحت شُرُعٍ كبيرة لابسين جلابيبَهم البِيض — بزُمَر ستيكس
٥ وبخاطرةِ الأزمنة القريبة حين كانت الريح تدفع إلى النار تلك الزوارقَ المشحونةَ
بالعبيد، وتَصلُح تلك المراكب الكبيرةُ، التي تُرَى بين الخرطوم ومصبِّ النهر، لعبور
النيل أكثر
مما للطواف فيه، وهي ابتدائيةٌ إلى الغاية مع مَوْقِدٍ من طين في المقدمة ودَفَّةٍ عالية
يديرها
رجلٌ عارفٌ بالرياح والصخور، وتَحُول المجاديف المجهَّزة برقَّاصاتٍ دون ذهاب الزوارق
نحو
الصخور ولا يُمْسِكها سوى أناسٍ من الخبراء. وإذا ما نفخت الريحُ الأشرعةَ المثلثةَ الشكل
والمعلَّقة في صاريين منحنيين خيِّل إلى الفارس الذي لا يُبصِر النهر أنها طيورٌ عظيمةٌ
تَسِير
متَّئِدةً على أرض الصحراء.
ويَدحَر النيلُ الأزرقُ الصائل النيلَ الأبيضَ نحو الضِّفَّة الغربية، ولكن لا لزمنٍ
طويل؛
وذلك لأن أخاه الأكبر لا يَلبَث أن يتفوَّق عليه، فيرجع إليه سابقُ اتساعه، ولا يَفُوقه
النيلُ
الأزرق إلا حين الفيضان الأعظم الذي يَنجُم عن أمطار الحَبَشَة، ويعود احتراب العناصر
هذا على
صِغَارٍ من الموجودات بالربح، ومن ذلك أن سَمَكَ النيل الأزرق يَجفِل من انتفاخ التَّيَّار
فيهاجر إلى حوضٍ هادئ على الضِّفَّة غيرَ عالمٍ أن بَجَعَ
٦ النيل الأبيض ينتظره هنالك ليصطاده، وهكذا يصطرع تابعو المتنافسيْن العظيميْن بعد
تصالحهما.
وللنهر في الخرطوم من المنظر ما يُسَوِّغ مجدَه الأسطوريَّ، وللنهر هنا كما في القاهرة
سَيرُ مَلِكٍ، والنهر نال ذلك بعد مغامرات فَتَائِه، والنهر يظلُّ على ذلك بعد أن يَجرِيَ
أسابيع في الصحراء، وفي هذا سر حياته.
ومع ذلك ترى النيل يقاتل نفسه في دُوَّامِه
٧ حين يبدأ بمصارعة الصحراء كأعاظم الرجال الذين يَضْنَوْن في مكافحتهم العالم وفي
مجاهدةِ أنفسهم، ويبدأ دور الشلالات، والشلَّالات — كالمناقع سابقًا — قد جعلتها الطبيعة
كالأعداء لاختبار شجاعته وقدرته وإظهار سجاياه في الأمور الكبيرة.
وفي مجرى النهر التحتانيِّ بعد الخرطوم يُعَدُّ جوب السهب حتى ملقى العطبرة وَداعًا
للطبيعة
قَبل دخول الصحراء التي ترافقه حتى البحر تقريبًا، ولا يزال الأَبَنُوسُ
٨ والكابلي
٩ يَنبُتان هنالك، ويَبلُغ العِظْلَم
١٠ من الكثرة ما كان معه معملٌ لاستغلاله هنالك، ويَبلُغ السَّنْط من القوة ما أنشأ
الترك معه دُورًا لصنع السفن هنالك، وهنالك يَنمُو شجرٌ آخر له خشبٌ كالفَلِّين وتُصيب
عُصارتُه
عَينَ الحطاب بالعمى فيجتنبه جميعُ الحيوانات خلا المعزَ الذي يَقضمه من غير أن يُصاب
بأذًى،
ويبسُط السَّنْطُ جذورَه فيلائم بذلك مَدَّ النهر وجَزْرَه، ويكون ماءُ النيل من البرودة
في تلك
المِنْطقة ما لا يكفي معه قُرُّ
١١ الليالي لتفسيره.
وإذا سِرْتَ من الخرطوم مرحلتيْن أو ثلاثَ مراحلَ؛ أي مَسافةَ تسعين كيلومترًا من
مجرى
النهر التحتانيِّ، وَجَدْتَ عرض النيل لا يَزِيد على خمسة وسبعين مترًا، وأبصرتَ عموديْن
من
الحجر البركانيِّ للدَّلالة على مدخل مَضِيقٍ، وهذا هو بدء الشَّلال، ويُسميه الجغرافيون
بالشلال السادس؛ وذلك لأنهم عَدُّوا الشلالاتِ بادئين من مصرَ متوجِّهين مع الحضارة إلى
مجرى
النهر الفوقانيِّ، وأرانا مضطرين إلى مجاراتهم مع أن النهر يُوصَف كما تُوصَف حياة الإنسان
فلا
يُبْدَأ من خاتمتها، ويُحْصِي العربُ ٣١ شَلَّالًا؛ وذلك لأنهم يَعُدُّون كثيرًا من المساقط
من
الشَّلالات.
والعرب قد دعوا الشلالاتِ بأسماءٍ خياليةٍ بدلًا من تعيينها بأرقام، فقالوا: عُنُق
الجمل
والمَرجان وبيت العبد والمغفور والمَوْحِل والحارك،
١٢ وتبدأ عُروَة النيل الكبرى، وهي الوجيدة في مجراه الطويل من الجنوب إلى الشمال، عند
الشلال السادس، وتنتهي بالشلال الأول تمامًا، ويقع الشلَّال السادس؛ أي خانق سَبْلوقة،
في
الدرجة السادسةَ عشرةَ من العرض الشماليِّ، ويقع الشلال الأول في الدرجة الرابعة والعشرين
من
العرض الشماليِّ؛ أي عند أسوان، ويَقَع كلا الشلالين على درجةٍ واحدة من الطول.
وفي الصحراء — حيث لا شيء يَقِف النهرَ — تَسُدُّ طريقه غرانيتٌ وجنادلُ ترجع إلى
ما قبل
الطوفان فتَفرِض عليه عطفةَ ١٢٠٠ كيلومتر، ولكن مكافحةَ الصخر هذه تَرُدُّ إلى النيل
من النشاط
والحيوية ما يَحُول دون جَفَافه بين سهليْن من الرمل، والنيل يُبْتَلَى ﺑ ٣١ شلالًا ثم
يَخرُج
منها ظافرًا كما خَرَج من المناقع.
وجميع التلال التي تأخذ بخِناق النيل في أثناء ذلك السير وتقف الملاحة هي من الصوَّان
والصخر البِلَّورية ومن صفائحَ من صلصالٍ؛
١٣ أي من صخورٍ ابتدائية. ولو استطاع الإنسان أن يُنشِئ قنواتٍ على طول المناقع لوجب
عليه أن يُنفِق المليارات حتى يتغلَّب على الغرانيت، ولن تكون الطريق الصالحة للملاحة
هذه غيرَ
قوسِ دائرةٍ يكون خطُّ كتشنر الحديديُّ وَتَرًا لها.
وللنيل ثلاثة فروع صالحةٌ للملاحة؛ فأما الفرع الأول فيبلغ من الطول ٢٥٠ كيلومترًا
في القسم
الأعلى من النيل، وأما الفرع الثاني فيبلغ من الطول ١٨٠٠ كيلومتر ويقع بين رجاف والخرطوم،
وأما
الفرع الثالث فيبلغ من الطول ١٣٠٠ كيلومتر ويقع بين وادي حلفا والمصبِّ. وإذا عَدَوْت
النيلَ
الأزرق الصالحَ للملاحة في ستمائة كيلومتر منه لم تجد النهرَ العملاق نافعًا لسير السفن
في نصف
مجراه وإن كانت السفن تَمخَر على مساوفَ
١٤ قصيرةٍ بين شلَّالاته، ولأنهارِ أفريقيةَ الأربعةِ الكبرى مثلُ ذلك النصيب، وما في
هذه القارة من هِضَابٍ فيَمنَع من وجودِ شرايينَ كبيرةٍ للتجارة العالمية فيها كما في
القارَّات
الأخرى.
وتبدو ظاهرة المائة جزيرة في هذا المكان، وعلى مسافة ألفيْ كيلومتر من هَرَم رجاف.
وسنرى
هذه الظاهرةَ في جميع الشلالات.
ويكوِّن النيل على ثمانيةَ عشرَ كيلومترًا، وبين مساقطَ صغيرةٍ وكبيرة، عالَمًا من
الجُزُر
المستورة بالخُضَر والمبلَّلة بالطَّرَاء والزَّبَد، والباديةِ مثلَ جنةٍ صغيرةٍ مقابلةٍ
لصخرٍ صَلْدٍ
١٥ وسهبٍ جافٍّ أصفرَ، وتُظَلَّل هذه الجزائر بالسَّنْط ذي الفروع الطويلة وأشجارِ
الجُمَّيز وأشجار الدَّوْم
١٦ التي تلتقي عليها المُعَرِّشات كما في الأيكَة البكر، ولها بالخَضَر الدائم بين
الماء الهارب تعويضٌ من عُزْلَتها ومن حياة الخيال الذي لا يكدِّر صفوَه حيوانٌ ولا إنسانٌ
إلا
نادرًا. وهكذا تُبصِر تحت ظلِّ حديقةٍ رائعةٍ نسوةً من ذوات السعادة يَدَعْنَ سُيَّاحَ
الحياة
الخالدين يمُرُّون من غير أن يَحسُدْنهم.
وعندما تَدْحَرُ الصخرُ النيلَ نحو الشرق، وتَفرِض عليه مِرْفَقَها، لا تُعَيِّن مجراه
فقط،
بل تقرِّر بانحدارها — أيضًا — مصيرَ الأراضي الممتدة على طول الضِّفاف. وتكفي هذه الأراضي
الضيِّقة الخصيبة المغطَّاة بالغِرْيَن — والتي لا يَزِيد طول الواحدة منها على خمسة
أمتار في
بعض الأحيان — لتموينِ قريةٍ قائمةٍ أكواخُها الطينية على الصخر، وذلك مع العناية بأصغر
قطعةِ
أرض لزراعة الحبوب وغرس النخيل.
وتقع شندي على ضِفة النيل الشرقية، ولشندي مقدارٌ غير قليل من الأراضي الصالحة للزراعة،
ثم
يُوغِل النهر في الصحراء بعد أن يقابل آخرَ رسولٍ من الشرق، وذلك كمَلِكٍ يقابل آخرَ
ساعٍ قبل
ذهابه إلى معركةٍ كبيرة، فنهر العطبرة ينضمُّ إلى النيل في مجراه التحتاني بعد ثلاثمائة
كيلومتر
من الخرطوم، ويَصِل هذا الرافدُ الأخيرُ من البراكين الحَبَشِية التي يَخرُج النيل الأزرق
منها.
ولا يَعلَم السائح الذي يَمُرُّ في شهر يونيو من قنطرة العطبرة الكبرى — وهي الجِسْرُ
الرابع بعد منبع النيل — إنفاقَ كتشنر مبالغَ كثيرةً لإدخال أركان أقواسها الستِّ عميقةً
إلى
الصخر؛ وذلك لأن مجرى النهر الفاغر فاه جافٌّ، وإذا ما عاد في شهر يوليو هَدَر سيلٌ عرضُه
خمسمائة متر بالغٌ من العُنفِ حول تلك الأركان ما تَلطِم أمواجُه الوَحِلَةُ معه ضِفةَ
النيل
الغربية؛ أي تَصدِم ما بعد مصبِّه على مسافةٍ غير قصيرة. وهذا هو سبب تسمية العرب إياه
ﺑ «النهر
الأسود»، ويَجُرُّ نهرُ العطبرة في جِريَتِه الغَضُوبِ المشابهةِ لجِريَة النيل الأزرق،
ونهرُ
العطبرة يَتَغَذَّى بما يتغذى به النيل الأزرق من الأمطار، خَيزُرَانًا وسُوقًا وأُصُولًا
وجُذُورًا وبقرًا وفيولًا ممزَّقةً وعالمًا غافلًا من الحيوان والنبات فاجأه وحَمَلَه
وقَتَلَه
كما تَجرُف العاصفةُ الثوريةُ أبناءَ الطبقة الوسطى النُّعَّس.
ذلك هو آخر رافد للنيل، وتلك هي الصحراء، ويظلُّ النهر وحيدًا، ومع سابق مياهه حتى
النهاية.
ولوادي النيل في أثناء الجري من تلك العُروة الكبرى ثلاثة ألوان، فالصحراء شديدةُ
الصُّفرَة
في الناحيتين إلى ما لا حَدَّ له، والأراضي المزروعة شديدةُ الخضرة، ويكون عَرضُ هذه
الأراضي
نحوَ ميلٍ أحيانًا، وتكون هذه الأراضي ضيقةً غالبًا، ولا تَكادُ تَبلُغ من العمق مائةَ
قَدَم
عمومًا، وفي الوسط يَبرُز غرانيتٌ مبلَّلٌ رماديٌّ لامعٌ، وتَبرُزُ جُزَيْراتٌ وصخورٌ
من الماء
الفائر وتُحدِث مساقطَ، ويُعدُّ الانتقال المفاجئ من الرمل الأصفر إلى الشفير
١٧ الأخضر، ويعدُّ خِصْبُ أصغر أرض، ويعدُّ عَدَمُ وجودَ مِنطقةٍ نصفِ صحراوية، أمورًا
شاهدةً على افتقاد حقولٍ يَمُنُّ الله عليها بمطرٍ قليل في بعض الأحيان وعلى عمل الإنسان
الذي
أبدع حديقةً على الرغم من البادية بِمَتْحِه
١٨ ماءً من النهر في مجراه الحجري.
والساقية — أو الناعورة — هي الجِنِّيَّة التي يُعَدُّ جميع ما تقدم مَدِينًا لها،
وستقوم
بمثل ذلك العمل في مصر عندما يَبلُغ الفيضان السريع نهايتَه، وتُرَافِق النهرَ ألوفُ
الدواليب
ذواتِ الصَّرِيف
١٩ والقَصِيف،
٢٠ وتُدِير ألوف الثيران في عشر ساعات من كلِّ يومٍ دواليبَ مُنْتَصِبة باحثةً عن
الماء، ويَحُثُّ كلَّ زوجين من الثِّيران رجلٌ أو صبيٌّ يدور معهما، وأولئك الثيران وأولئك
الصبيان هم حَفَدَة ثيرانٍ وأناسٍ يَمْتَحُون — منذ ألوف السنين — ماءَ النيل في المكان
بعينه
وبالدواليب والقواديس
٢١ بعينها.
وما النخل التي يُتَّخَذ خشبها في صنع النواعير تحت وَهَج الشمس إلا صادرةٌ عن النخل
التي
غرسها المصريون والرومان والوثنيون والمسلمون والنصارى في تلك الضِّفاف المستوية، والتي
شذَّبُوها على نمط واحد وجهَّزُوها بحبال وأسنان نَيْلًا لدورة الماء وللخِصب حتى حدودِ
الصحراء، والدولابُ يُغَنِّي بلحنه المطَّرِد النغم على مسافة ألوف الأميال، والدولابُ
القديم الأعقد
٢٢ الأقصف يحوِّل طرف الصحراء إلى نهر من زمرد، وذلك كالإله فُولِكن
٢٣ الذي هو أبشع الآلهة، فكان يصنع حُلِيَّه من الزُّمُرُّد بين الذَّمَى
٢٤ والعُثَان.
٢٥
وعلى الجُرُف،
٢٦ وفوق النهر، تُحَرِّك حِبالٌ غليظةٌ دولابًا عموديًّا حاملًا نحو عشرين من الجِرَار
الطويلة المصنوعة من طينٍ لازب
٢٧ أحمرَ، وهذا الدولابُ يدُورُ حول جِذْع
٢٨ نخلةٍ مُدَمَّجٍ تدميجًا أُفُقِيًّا في مركزه، وفي الأسفل تَغطِس كلُّ جَرَّةٍ في
الماء وتمتلئ، فإذا ما صَعِدَت ثانيةً انحرفت من عموديتها وصَبَّت الماء في ساقِ شجرةٍ
مجوَّفةٍ
تجلُبه إلى خندقٍ صغير، ويَندمِج جذع النخل الأفقيُّ — على ارتفاع بضعة أمتار — في دولابٍ
كثيفٍ
ثانٍ يُدِيره الثورانِ حول مِحوَرٍ عموديٍّ، ويجلس الصبي السائق لهما على لوحٍ صغير خلفهما،
وهو
في كلِّ دورةٍ يَحنِي رأسه مرتين تحت نخلة ثالثة اتُّخِذَتْ زافرةً،
٢٩ وهو في مراتٍ أُخَرَ يسير وراء الثيران ممسكًا الرَّسَن غير مضطرٍّ إلى الانحناء
كثيرًا كما في تلك الحال.
وعندما يتحرَّك الدولاب المحرِّك يَدُور جِذعُ النخلة العموديُّ في مركزٍ خشبيٍّ
موضوعٍ في
الأسفل فيؤدِّي ذلك إلى الصَّرِيف الذي يُسمَع على طول النيل في بلاد النوبة ومصرَ، ولا
يَقدِر
الفقير على ركز مَدَارٍ في الأرض لِمَا ليس لديه من جَيْر
٣٠ ومساميرَ، فترى كلَّ شيءٍ مُشَذَّبًا في الخَشَب، والنخلُ تُعطِي كلَّ شيءٍ، تُعطِي
جُذُوعَها وشُرُطَها
٣١ وأوراقها الجافة التي تَقِي الفلَّاح حَرَّ الشمس، والدولاب وحده هو الذي يصنع من
خشب السَّنْط في الغالب. ويسير الفلاح على سُنَّة أجداده فلا يبتاع غير الجِرَار، وإذا
ما
كُسِرَت جرةٌ استبدل الفلاح بها — في الوقت الحاضر — إناءً من صفيح الزيت أو عُلْبَةً
كبيرة من
عُلَب المحفوظات
٣٢ الفارغة.
والعلب اللامعة بنور الشمس هي كلُّ ما بُدِّل في الساقية منذ عهد الفراعنة، وتدور
الساقية
المصوَّرَة على جُدُر قبور الفراعنة كما تَدُور اليوم، وإذا ما حُرِّكَت كلُّ واحدةٍ
من
الساقيتين أو السواقي الثلاث أو الأربع بزوجين من الثيران بَلَغَ ماء النيل في بضعِ دقائق
منطقةً مرتفعةً عنه عشرين مترًا جافَّة مجرَّدةً منتظرةً سَعيَ الإنسانِ لتُسْتَر
بالخَضَر.
تلك هي الآلة السحرية القديمة التي تقوم مقامَ المطر في الأشهر الثمانية التي لا يأتي
النهر
في أثنائها بماء جبال الحَبَشة الذي يفيض على الأراضي الممتدَّة حَولَه، ويَفقِد المحراثُ
فائدتَه فيُجهَل أمرُه في مساوفَ واسعةٍ في بلاد النوبة، وفي مصرَ بعدئذ، حيث يَصِل الماء
وصولًا طبيعيًّا أو مصنوعًا فيُنعِم بالمحاصيل قَسْرًا، وحيث تقوم ثلاثةُ أشهر — أو بضعة
أسابيعَ في بعض الأحيان — مقامَ دَورَتِنا من الخريف إلى الربيع، ويُحدِث الفلاح حُفَرًا
بطرف
حديدةٍ، أو بعَقْبِ قَدَمٍ أحيانًا، ويَرمِي فيها بعضَ الحبوب، ولا يَعرِف الفلاحُ سمادًا
غير
الكلأ الفاسد الذي يَقلَعه، وينبت الحبُّ بسرعة وتَبلُغ السوق ارتفاعَ خمسة أمتار في
بعض
الأحيان، وتعطي الأنواع الجيدة عرانيسَ ذاتَ خُصَلٍ كبيرة وحبٍّ أبيضَ ذي غلافٍ دقيق،
وتُغنِي
هذه الذُّرَة عن البُرِّ والشَّعِير.
ويَزرَع ابن الشاطئ فضلًا عن ذلك ثامرًا
٣٣ وفولًا وعدسًا وقَرْعًا وشمَّامًا وتَبْغًا وفُلفُلًا أحمرَ وخِرْوَعًا، ويَنضُج
أحلى ما في جميع وادي النيل من الرُّطَب حول بَربَر ودُنقُلة، وتُتَّخَذ طريقةٌ طريفةٌ
لتأبير
٣٤ النخل؛ وذلك أن النخل، لقلَّةِ ما بينها من فَحَاحِيلَ،
٣٥ يوزَّع بينها اللَّقَاح
٣٦ كما في نظام الأمومة، فإذا حَلَّ فصل الربيع نَمَلَ
٣٧ الأولاد في النخل وجَنَوْا عساليجها
٣٨ المزهرة ورموا الكُشَّ
٣٩ على أُنْثَاها وسَقَوْها بماء الناعورة، وإذا هَبَّت ريح السَّمُوم حَمِدُوا الله،
فالمثل العربي يقول: «ينمو بلحُ الله ورِجْلُه في الماء ورأسُه في نارِ السماء.»
وإليك أناسًا سُمْرًا طِوالًا نِحافًا، كلُّهم من عَصَبٍ وعَضَلٍ، كلُّهم من غير
شحمٍ بفعل
رمل الصحراء وحرِّها، إليك البرابرةَ الذين يقيمون بأطراف عُرْوَة النيل منذ ألوف السنين،
وقد
كانوا بدويين فيما مضى، ولا يزال أبناءُ جنسهم من أهل البدو، ويَحلِقون شعورَهم ولحاهم
مَلْطًا،
ولهم جباهٌ راجعةٌ، وهم قُعْمُ
٤٠ الأنوف، خُوصُ
٤١ العيون كما تبدُو تحت حواجبهم الكثيرة الشَّعر، وتَظهَر الحياة على سيماهم من
بصرهم، ويبدو نشاطهم ووِدادهم من أول اختلاطٍ بهم، ويتَّخِذُهم أغنياءُ المصريين في القاهرة
خَدَمًا وسُعَاةً وطهاةً وحُوذيِّين
٤٢ لِمَا عُرِف من إخلاصهم لسادتهم، ويُعَدُّون أكثرَ أهل أفريقية الشرقية قِرًى،
ويغتذون بالذُّرَة والجبنة وحفنةٍ من التمر، وينامون في الغالب على صندوقٍ قديم من غير
أن يزول
أُنْسهم، ويَذْبَحُون شاةً تكريمًا لضيفهم، ويَبحَثُون له عن لَبَنٍ سائغٍ وبُنٍّ حَسَنٍ
من
مَسَافة بعيدة، ويَحرُسُونه وقت نَوْمِه أو يَقُصُّون عليه أقاصيصَ قديمةً تحت السماء
ذات
الكواكب، وفي لغتهم من البقايا ما يَنِمُّ على أنهم كانوا نصارى قبل أن يَصِيروا مسلمين،
ولا
يزالون يُسَمُّون يوم الأحد يومَ الرَّبِّ.
وعاصمتُهم — بَرْبَرُ — بُقعةٌ خضراء في الصحراء الصفراء، وهي واقعةٌ على مجرى النهر
التحتانيِّ بعد مَصَبِّ العطبرة، وهي — وإن لم تكن مهمةً في الوقت الحاضر — كانت أكبرَ
مدينةٍ
على النيل الأعلى منذ ثمانين سنة، وكانت السفن الشِّراعية تَقصِدُها، وكانت منذ القديم
سُوقًا
للعاج والذهب، وللنِّخاسة على الخصوص، وما فيها من حدائقَ ظليلةٍ لشِيبِ الموظفين والتجار
فمَدِينٌ — بالحقيقة — لعَرَق الإنسان والحيوان.
وللنيل صوتٌ في تلك المِنطقة، والنيل في منطقة الشلالات تلك، والنيل في ذلك المُنعَطَف
الذي
يجاوز أربعَ درجاتٍ من العرض، يَهدِر ويُزَمْجِر ويُرعِد ويُزبِد، ولا مِرَاء في أن فِقَرَ
الصَّوَّان تلك، ولا مراء في أن حواجزَ الغرانيت تلك: كانت تؤلِّف بحيراتٍ كبيرةً قبل
أن
يَشُقَّ النيل لنفسه طريقًا، وهي لكي تتوارى وَجَبَ انقضاء ألوف السنين في اصطراع الماء
والصخر،
ولم تنفكَّ الصخورُ تدرس
٤٣ وتداس
٤٤ بالموج الظافر غيرَ تاركةٍ للموج غيرَ ذراتٍ وحَصَيَاتٍ نتيجةً لخضوعها، ويَنقَضُّ
النهر بين مئاتِ الجنادل والجُزَيْرَات ومن خلال الدوافع — التي تبلُغ من الطول عِدَّةَ
كيلومتراتٍ، مُضَوْضِئًا
٤٥ ضوضاء زَعَمَ كاتب رومانيٌّ أنَّ أهل الشواطئ كانوا يهاجرون بسببه خوفًا من أن
يصبحوا صُمًّا.
ومهما يكن من أمرٍ فإن ما يُخرِجه البرابرة من أصوات هائلة في الوقت الحاضر يُعَدُّ
دليلًا
على أن الضرورة تُقَوِّي أيَّ عضوٍ كان، وذلك لبلوغ أصواتهم من ضفة إلى أخرى مع هدير
الموج، على
حين لا يكاد الرجل الأبيض يُسمَع صوته لمسافة عشر خطوات.
ولأُذُننا أن تقضي العجب في تلك الضِّفاف الرائعة، فالسائح الذي يَسِير بين كثيبين
راكبًا
بعيرًا دانيًا من النهر من غير أن يَرَى رأس نخلةٍ أو يَرَى صاريةَ سفينةٍ يُفتَن أيضًا
بسماعه
من بعيدٍ خريرَ المياه كما كان يُفتَن أغارقةُ عصر هِيرُودُوتْس بمثل ذلك عند مشاهدتهم
البحر.
والسائحُ الذي يمشي على الضِّفة وقت الفيضان يَسمَع اختلاط هدير الأمواج باصطكاك الحَصَا
عند زُحُولها
٤٦ عن الشاطئ بقوة المَدِّ.
وتحاول جُزُرٌ سبعٌ وجزيراتٌ كثيرةٌ عند الشلال الخامس — وبعد سبعين كيلومترًا من
بَرْبَر
على مجرى النهر التحتانيِّ — أن تَسُدَّ مجرى النهر في عشرة كيلومترات على غير جَدْوَى،
ثم
تتغلَّب الصخور على الماء حَوْلَ الدرجة العشرين من العرض الشماليِّ وبعد الخرطوم بأربعمائة
كيلومتر من الخطِّ الحديدي، وتُكرِهه على الصراع متقهقرًا، ويَحمِل السماط البركاني الثخين
—
الذي يَجُوب الصحراء من الشرق إلى الغرب — نهرَ النيل على الرجوع إلى الوراء للمرة الوحيدة
في
حياته، وعلى الجريان نحو الجَنوب لبضع مِئاتٍ من الكيلومترات كالعائد إلى منبعه، وهو
إذا كان
على بُعْدٍ من خصمه الغرانيتيِّ استأنف جَريَه إلى الشمال من فوره؛ أي سَلَكَ السبيل
المُعَدَّةَ له، وذلك كالرجل الذي يُغَيِّر وِجهَتَه ليَرجِع إليها بقُوًى مَغْنَطِيَّة.
ويقع مِرفَق أبي حَمَد والخرطوم وأُسوان على خطٍّ عموديٍّ واحد تقريبًا، وتبدو في
هذا
المنعطف إحدى جُزُر النيل الكبيرة، البالغة من الطول عشرين ميلًا ومن العرض ثلاثةَ أميال،
شاهدةً على اصطراع العناصر ذلك، على حين يضيق النهر بين ضفتيه الصوَّانيتين ويتسع متناوبًا
بين
مائتيْ متر وألفيْ متر، وكان القدماء يبحثون عن الذهب والفضة في جُزُره، ويتكلَّم ديودورس
عن
وجود نُحَاسٍ وحجارةٍ ثمينة بجانبهما، وهذه إما أن تكون قد سُرِقَتْ من هنالك، وإما ألا
تكون قد
وُجِدَتْ هنالك.
ولا ينقطع قُطَّاع الطرق عن تلك المِنطقة؛ لأن النيل هو السبيلُ الوحيد بين الصحراوين،
وإذا
ما لاح لنا قَصْرٌ قديمٌ أسودُ بَرَّاقٌ قائمٌ على شاهقٍ فوق الشاطئ وأبصَرْنا النهرَ
يؤلف
دوافعَ جديدةً ليَضِيقَ بين حاجزين أدجنين فيما بعد، ورأينا كوخًا هزيلًا يستند إلى جندلٍ
ووجدنا فيه زوجين وأولادَهما يَكسِبان عيشَهما من قطعةٍ صغيرة إلى الغاية واقعةٍ على
الضفة
تمثَّلت لنا ذكريات القرون الوسطى؛ تَمَثَّل لنا الفارس القاطع للسبيل والتاجر الأسير
والفلاح
المستعطي، والفقراءُ هم السعداء كما جاء في الأساطير، ولا عجب، ففلاحو تلك المِنطقة يقولون
للسياح إنهم لا يَعرِفون الأمراض.
والشلال الرابع أعنف من الشلال الخامس، فليس الغرانيتُ والبَزَلْتُ وحدَهما هما اللذان
يَعُوقان النهرَ، بل يَعُوقُه الرُّخام السُّمَاقِيُّ والصَّوَّان أيضًا، ويَقرِض النهرُ
في ستة
كيلومتراتٍ طريقَه من تلٍّ أسودَ مُغِمٍّ فيظهر محصورًا كئيبًا مُوحِشًا، وهذا هو أصعب
قسمٍ من
النيل الأوسط، وأكثرُ أهل البلاد خِبرَةً هم الذين يجاوزونه، ويتعاون الرفقاء على جَرِّ
القوارب
الصاعدة في الشلالات ضدَّ التَّيَّار؛ وذلك بأن يُقْرَن كلُّ دولابٍ بحبل حتى الدولابِ
التالي.
وجميعُ النوبيين سُبَّاحٌ ماهرون، فإذا أراد أحدهم أن يَنزِل إلى النهر نَفَخَ في قِرْبَتِهِ،
أو جَلَسَ على رَمَثٍ
٤٧ مُذَرَّب
٤٨ مصنوعٍ من سُوق الذُّرَة مُزَوَّدًا بخبز وتمر في قشر شَمَّام فيقضي أيامًا بأسرها
عائمًا سائرًا على النيل مُدَبِّرًا للأمر بيده الماهرة.
وقد يُقتَل رَجْمًا، أو قد يُخْطَف كما كان يصنعه باريس
٤٩ الأسود الشهير الذي كان يُغوِي حسانَ بلاد النوبة فيأتي بهنَّ إلى «كَعْبِ
٥٠ العبد» الذي لا تزال أنقاضه بادية على الشاطئ. والعبدُ رقيقٌ بسيطٌ أضلَّ زوجَ سيده
فجاء بها إلى الصحراء الحَجَرية حيث شاد لها قصرًا منيعًا، ولم يَجِدْ هذا النوبيُّ شاعرًا
مثل
أوميرس يُشِيد بذكره فلم يُكتَب الخلودُ لِمُلك يمينه هيلانة السوداء تلك، غير أن أسطورتها
تجري
بتُؤَدَةٍ على شِفاه الزنوج بين هدير النيل.
ويظهر النهر موحشًا بين تلك الصخور والجُزُر كما في منبعه، وهنالك يستأنف الكفاحَ
بقرُ
الماء والتمساحُ؛ أي سيد النيل ولِصُّه، وهنالك يَرقُبَان السابح، وعندما يَصرَع التمساح
— نصف
المطمور في الرمل — رجلًا بذَنَبه لاعَبَه كالهرِّ مُرْعِبًا إخوانَه، وليس لدى هؤلاء
ما لدى
الشِّلُّك من مهارةٍ ووسائلِ دفاعٍ في مثل تلك الحال، وهم يَزْعُمُون أن التمساح يُفَضِّل
الأبيضَ على الزِّنجيِّ تفضيلًا يُزَهِّد الأوروبيَّ فيه مختارًا، ويجادل كثيرٌ من الرُّوَّاد
في تَتَبُّع التمساح للإنسان على الشاطئ، ويوكِّد النوبي عكسَ ذلك فيَنصَح الضحية بالركض
دوائرَ
دوائرَ لإنقاذ نفسه.
ولبقر الماء ما للنبيل من طبائع، فإذا داس في النيل إنسانًا أو حيوانًا بين حين وحين
تَرَكَه وشأنَه، وإذا قَلَبَ زورقًا فلأنَّ الزورق صغيرٌ، ولأن الربَّ خلَقَه كبيرًا،
وهو لا
يَجُرُّ إنسانًا ولا حيوانًا إلى الماء أبدًا، وهو في السِّباحة كالفيل في الأرض، وهو
بطيء
الحركة دَمِث الخُلُق طيِّب المزاج بين قُرَنَائه، وهو في الغالب أقلُّ ضوضاء ودورانًا
من باخرة
نيلية صغيرةٍ تَشغَل مثلَه حَيِّزَ طُنَّيْن من الماء، وهو ذو لونٍ زيتونيٍّ سِنجابِيٍّ،
٥١ وهو من الجمود ما يُعَدُّ معه جُلمُودًا بارزًا من الماء لو لم تَنِمَّ شاماته
الوردية الجميلة وعيناه وأذناه وخَطْمُه
٥٢ على أنه حيوانٌ، ولو لم يَفْغَرْ فاه بغتةً عارضًا أسنانًا مائلةً بالية كاشفًا على
لسانه العريض قَصفَ النِّيلُوفَر
٥٣ الذي تغنَّى الشعراء بلطفه.
وليس لبقر الماء عينان غائرتان كعيني الفيل، بل تبلغ عيناه من الكِبَر ما يُخيِّل
إلى
الناظر معه أنهما موضوعتان على وجهه، ولبقر الماء بهما مع أُذنيْه الصغيرتين من قوة الشعور
ما
يُحِسُّ به حضورَ أعدائه، وهو إذ كان لا يَخْشَى أحدًا من هؤلاء تراه كثيرَ الهدوء فيما
خلا
وقتَ السِّفاد،
٥٤ وإذا كثرت النباتات المائية لم يخرُج من الماء في الليل، وهو يَقصِد الشاطئَ مساءً انتجاعًا
٥٥ للكلأ، وإذا سُمِع خُوَاره آنئذٍ ظُنَّ أنه خارج من مغارةٍ فتُوَلى الأدبارُ لقدرته
على سَحْقِ ثَوْرٍ عند مروره، وهو يُحدِث في الحقل الذي يَحُوبُه إذ ذاك حُفَرًا أعمقَ
مما
يُحدِثه مِحْرَاثٌ حديديٌّ.
ثم يعود إلى النهر الذي هو مَوطِنه.