الفصل الخامس عشر
جاب النيلُ في مجراه الطويل جبالًا ومناقعَ وصحارى فلم يصادِف على ضفتيه أثرًا للماضي، ولو كان عمودًا مكسورًا.
والنيل هو الذي عارضهم بشلالاته، والنيل الحافلُ بالأسرار — وهو كالقسيس الذي يَمنَع المؤمنين من رؤية وجه الله — هو الذي يَلُوح أنه حال دون مَدِّ الأجانب عيونَهم إلى عزلة المياه التي تَمُنُّ عليهم بالحياة. وهل كان المصريون يتوجَّهون إلى مجرى النيل الأعلى على زوارقهم؟ وهل كانوا يصنعون زوارقَ بين الشلالات؟ لا ماء في الصحراء، وكثير ماءٍ في النيل حين الفيضان، فما كان يمكن الأجانبَ أن يسيروا إلى مجراه الأعلى لهذا السبب، وزمرٌ قليلةٌ فقط هي التي كانت تجرؤ على التقدُّم عند إغضاء الأهالي الأصليين عن ذلك، ويكون الهلاكُ نصيبَها إذا ناصبوها العداوة، وتدلُّ الأقاصيص الألفِيَّة على أولئك المغامرين الذين دفعهم فُضُولُهم فَرَدَعَهم فَزَعُهم.
ويسير رمسيس الكبير متوجِّهًا إلى مجرى النهر الأعلى في نهاية الأمر، ويُقِيم رمسيس هذا مستعمراتٍ على ضِفتيه، ويَشِيد معابدَ ومُدُنًا على ضِفتيه، ويُسْكِن فلاحين وصُنَّاعًا هنالك، ويُخَلِّد مآثره بإقامةِ مبانٍ وتماثيلَ في بلاد النوبة، ورَسَمَت الملكة حاتشِبسُت على جُدُرِها زنوجًا جالبين لها مواشيَ وزرائفَ وجلودَ أُسُودٍ وحَلَقَ ذهبٍ مع اتخاذهم أوضاعَ المغلوبين، وتَرجِع هذه الآثار إلى أربعةِ آلاف سنة قبل الميلاد. ومما حَدَثَ قبل المسيح بألفيْ سنة أن أوغل الفراعنةُ حتى النيل الأزرق ذات مرةٍ. ومما لا ريب فيه أن امتدَّ سلطانهم بين سنة ١٩٠٠ وسنة ١١٠٠ قبل الميلاد إلى الشلال الرابع وأن أخذوا من بلاد النوبة عبيدًا وذهبًا.
وهكذا أضاعت قبائلُ النوبة أجلدَ أولادها، وثارت وقُهِرَت فما فَتِئَ أبناؤها يكونون عبيدًا.
إن الذهب هو جسم الآلهة، وهو غيرُ خاصٍّ بكم.
وذهب أحد أولئك الملوك إلى فلسطين نَصْرًا للملك حَزَقِيَّا على أعدائه الأشوريين، ولا نَعرِف مَدَى تأثير المعابد والقصور والفلكيين والملَّاحيين وأمورٍ نافعة أخرى في هؤلاء الهَمَج الذين غَزَوا الحضارة واستقرَّ لهم السلطان عن إرهابٍ. ومهما تكن الحال فقد طُرِدوا في نهاية الأمر، ولكن مع تَزَوُّدِهم بمعارفَ كانوا يَعُدُّونها ضربًا من الأساطير.
وقامت دولةٌ قبل تلك الفتوح وبعدها ممتدةٌ من الشلالات إلى مكانٍ بعيد من شرق بلاد النوبة، وكانت مملكةُ مَرْوَى هذه واقعةً في أقصى الجنوب من عُروَة النيل الكبرى، وكانت عاصمتها نَبَاتَة، وكانت مستعمرةُ الفراعنة هذه قد دَعَت إلى السلطان كُهَّانًا مصريين بَلَغُوا هنالك مهاجرين أو أُسَارَى أو علماءَ، فيلوح أنهم أوحوا إلى ملوك السُّود بمغازي الانتقام، فلما عاد الفاتحون إلى بلادهم حاولوا أن يُدْخِلوا إليها فنَّ البناء المصريَّ وعاداتِ المصريين وقوانينَهم. ولما أراد الملك بِيَانكِي أن يُخَلِّد مفاخره على غرار الفراعنة أو على سُنَّة الطغاة المعاصرين نَعَتَ نفسه في كتابات أحد المعابد العظيمة بالكلمة: «جالب السلام إلى البلدين وملك الشمال والجنوب وابن الشمس وصاحب التيجان»، وصُوِّر الإله أمون وهو يقدِّم إلى ذلك الملك سيفًا قصيرًا، وصُوِّر ذلك الملك في وضعٍ يَصرَع به بضعةَ نفرٍ من أعدائه.
وظلت تلك المملكة الواقعة بين الشلال الثالث والشلال الخامس حليفةً مدةَ خمسة قرونٍ لطيبة ولإله الدولة — أمون — ذي السيطرة على الحكومة، وما انفكَّ ملوكُ نَبَاتة يلقِّبون أنفسَهم ﺑ «ملوك البلديْن» إلى ما بعد قرنيْن من سيطرتهم القصيرة على الدلتا. وكذلك الفراعنة كانوا يُباهُون بأنهم سادة بلاد النوبة مع أنهم أضاعوا كلَّ سلطان لهم هنالك منذ زمن طويل، وذلك ضَرْبٌ من عناد المستبدِّين الذين لا يتنزَّلون عن ولاياتٍ يَخسَرونها، ولكن ملوك ذلك الزمن كانوا يقومون بحَمَلاتٍ على رأس جيوشهم. وقد طعن تُوتْمُوزيسُ الأول ملكَ النوبة بيده وبالقرب من الشلال الثالث.
وغابت هالة الملوك تلك في القرون القادمة، وصار الحكمُ قبضةَ الكهنة وأُسدِل ستار النسيان على العادات المصرية، واستُبدِلت لغةٌ شعبيةٌ، حُلَّت وحدها في الوقت الحاضر، باللغة الهيروغليفية التي لم تكن في غير الكتابة الرسمية، ويأتي دَوْر الملك قمبيز الأسطوريِّ، ولا أَحَدَ يعرِف كيف وقع ذلك. ويشيد كُتَّابٌ من الأغارقة بذكر ذلك البلد العجيب بحماسةٍ كبيرة فلا يَضَع أحدٌ ما يقولون على مِحَكِّ النقد، ويرتدُّ الملوك المحلِّيُّون حتى الشلالِ الرابع ليَتَعَذَّر قهرهم؛ وذلك لِمَا لعاصمتهم الجديدة مَرْوَى من حمايةٍ بالنيل، ومن عدم جعلهم عُرضةً لأيِّ اعتداءٍ كان، ويروي استرابون أن الملوك هنالك كانوا يُنْتَخَبُون من أجمل الناس وأكثرهم مهارةً وأعظمِهم بسالةً، ثم خَلَفَ هؤلاء الأجدادَ القُساةُ خلفٌ ضِعَافٌ، فخَضَع هؤلاء الأعقاب لكهَّان كانوا يقولون إن الآلهة هي التي تُملِي عليهم أوامرَهم الغادرة، وكانوا من السلطان ما يفرِضون الانتحارَ معه على الملوك، ووُجِدَ من هؤلاء الملوك واحدٌ فقط لم يُمكِّن الكهنةَ من نفسه قاتلًا الكاهن الأكبر.
وهكذا يتناوب الحقد وحظ السلاح وضروبُ الانتقام ذينك البلدين الواقعين على ضِفاف النيل، وذلك حتى سنة ٣٠٠ بعد الميلاد حين غادر الإمبراطورُ دِيُوكلِيسيان بلادَ النوبة.