الفصل السادس عشر
تَرَى الأرضَ الضيقة الممتدةَ على طول النهر حين اتجاهه إلى الشمال مستورةً بالنخل،
وتَرَى
واحاتٍ كثيرةً على طول الطريق الممتدة بين الشلال الرابع والشلال الثالث والبالغةِ ثلاثمائة
كيلومتر.
ويكون الطير حيث يكون الحَبُّ، ويقف الأولاد لاصطياد الطيور مع وجود الحر، على أتلامٍ
١ معروفة ويحرِّكون أغصانًا في النهار كلِّه، على حين تَصرُف النواعيرُ التي لا
تَعرِف التعبَ وتدور الثيرانُ الكبيرة، التي يَتَدَلَّى جلد عُنُقها كمِئزَر، مدةَ عشر
ساعات
تحت وَهَج الشمس إصعادًا للماء، ولا نَعلَم فيم تفكِّر، ومن طبيعة الإنسان أن يُقنِع
نفسَه بأن
عَبدَه — إنسانًا كان أو حيوانًا — راضٍ بنصيبه، ومما يُخَيَّل إلينا أن حُصُن دُنْقُلة
البِيضَ
المعروفةَ منذ القديم تقضي حياةً طيبة، ومن المحتمل أن تَحسُد في أثناء عَدْوها شِبهِ
الوحشيِّ
ما تراه من البهائم يدور دورانًا دائمًا بخُطًى هادئةٍ رزينةٍ.
وتُكَدَّس آثارُ ألوف السنين في هذا القسم من المُنْعَطَف الذي تسير القوافل من ناحيته
الجنوبية إلى الجنوب.
وتَضْجَع قطعةٌ من الصَّوَّان على الأرض بالقرب من دُنْقُلَة، وتُترَك هذه القطعة
هنالك منذ
خراب بيتٍ من طين، وكانت تتألَّف منها إحدى زوايا هذا البيت الذي كان جنودٌ من الاسكتلنديين
يَنْزِلون فيه أيامَ حملة كتشنر الأخيرة. ومما لا ريب فيه أن كانت تلك القطعةُ دِعامةً
لناعورةٍ
لا تاريخ لها، وكان البنَّاءون قد نَزَعوا ذلك الحجرَ من قبرٍ عربيٍّ، وكان ذلك الحجر
قد حال —
هكذا — دون غاراتِ العِقْبان على جُثْمَان عبدٍ دَفَنَه ابنه التقيُّ سرًّا منذ بضع عشرات
من
السنوات، وكان هذا الابن قد فَصَلَ الحجَر ليلًا عن أحد الحصون التي أقامها المماليك
لمقاومة
محمد علي، وكان هؤلاء المماليك قد خَلَعُوا الحجرَ من زاويةِ مسجدٍ شاده صلاح الدين في
القرن
الثانيَ عشر حينما أمر بقتل جميع الأساقفة بعد دورٍ طويلٍ من السلام.
وكانت النصرانية في وادي النيل الأوسط ذلك مسيطرةً على كثير من الأماكن مدةً تزيد
على ستة
قرون. فمن الممكن أن كانت تلك القطعةُ حجرَ زاويةٍ لكنيسةٍ شادها الملك سِلْكُون الدُّنْقُلِيُّ
تكريمًا للقدِّيسين، وكان الصليبيون المُدَرَّعون في ذلك الزمن يَربِطون حُصنَهم الجميلةَ
بحَلقة ثابتة في الحجر عندما يَدخُلون تلك الكنيسةَ قبل اقتحام مخاطرِ الصحراء ضارعين
إلى
العذراء أن تَحمِيَهم؛ وذلك على أن يَفُكَّ هؤلاء الفرسان جِيَادَهم من حَلقَة الحجر،
وأن
يَهمِزوا بلطفٍ خواصرَها مع إمساكِ رُكُبها
٢ بمقدَّم أحذيتهم فقط، ولا يزال أثر الحَلْقة منظورًا حتى اليوم، وارجِع البصرَ إلى
ما هو أقدمُ من ذلك تَجِد الحجرَ جزءًا من رُوَاقِ معبدِ بتحُور الذي تقوم أعمدته الحجرية
الرملية الحُمرُ، حتى الآن، على مدخلِ غابةِ النخل فتُعَدَّ شاهدةً على عملِ إغريقيٍّ
أَتَى
متأخرًا، والذي يحتمل أن يكون قد كُرِّسَ
٣ للإله مارس الذي يدعو اسمُه الروماني في مملكة تروَى إلى الحَيْرَة، ثم إن العبيد
الذين عَمِلُوا في ذلك البناء كانوا قد انتزعوا الحجر من قاعدة تمثالٍ ضَخْم لفرعونٍ
نجهلُ اسمه
مُكَبْكَبٍ على شاطئ دُنْقُلَة منذ مئات السنين.
وكلُّ شيء زال، فقُضِيَ أمرُ الحضارات والدِّيانات والفاتحين والمغلوبين الذين عَبَدُوا
النورَ والقوة بأسماءٍ وسِمَاتٍ مختلفة، حتى أولئك الذين كانوا يعتقدون أن القوة في الرحمة،
وهم
قد أرادوا تمجيدَ الحياة بالحُصُون والمساجد والمعابد والحاميات، وهم قد تَوَارَوْا ونُسُوا،
وهم قد ذَوَى مجدهم، وصَوَّان النيل وحده هو الباقي، هو الأبدي، وهو قد احتمل الضغط وإزمِيلَ
٤ النَّقَّاش وثَقْبَ الزِّرْفِين
٥ والناعورةَ والقبر وألوفَ السنين، وهو ضاجعٌ على شاطئ النهر، والنهرُ يَمَسُّه
مسًّا خفيفًا دائمًا من غير أن يُفنِيَه.
والغرانيتُ في مجرى النهر الفوقانيِّ من دُنقُلَة يقاوم الموجَ من جديد، وتُقسِم النهرَ
جزيرةُ أَرغُو التي هي أطول جُزُر النيل والبالغُ طولها ٣٥ كيلومترًا، ويَتبَع هذه الجزيرةَ
بضعُ جزيراتٍ وكُتَلٌ صخرية يَضِيق بها النيل ويُرغِي ويُزبِد في سبعِ دوافعَ.
والنيلُ يغيِّر منظرَه في الشلال الثالث، وعلى بعد ١١٠٠ كيلومتر من الخرطوم، ووسط
العُروَة
الكبرى، فيَقِلُّ الشعور بالسهب، ويكون مجرى النهر أقلَّ عرضًا، ويغدو بقرُ الماء نادرًا،
وتَنِمُّ على الحضارة عصاباتُ لصوصٍ أحسنُ تنظيمًا، وكلُّ شيءٍ يُشَجِّع هذه العصابات
الراكبِ
رجالُها خيلًا أو جمالًا على مهاجمة المسافرين، وتَفرِض تلالٌ على النهر مُنْعَطِفًا
مفاجئًا من
الشرق إلى الغرب، وتَدفُق سلسلة جبالٍ مرتفعة بعضَ الارتفاع فيَنْزِل عليها ماءُ السماء
في
الشتاء أحيانًا، ويجري النهر من جديد في مضايقَ ومسايلَ من رُخامٍ أحمرَ وأخضرَ، ويَبلُغ
النهر
في بعض المرات من الضِّيق ما يستطيع معه نوبيٌّ ماهرٌ أن يَرمِيَ حَجرًا من ضِفةٍ إلى
أخرى؛ أي
على مَسافة ثمانين مترًا، وتَحُول مُنْعَرَجاتٌ كثيرةٌ وصخورٌ ضاغطةٌ ودوَّاماتٌ غيرُ
قليلة دون
كلِّ ملاحة في ذلك الوادي الذي يَدعُوه العرب بلسانهم التصويريِّ المَرِن «حياةَ
الحَجَر».
وأهلُ تلك المِنطقة أقلُّ مهارةً في المِلاحة من إخوانهم في الجنوب، فتَغرَق في الغالب
أرماثُهم المصنوعةُ من أربعة سُوقٍ من النخيل المُحَدَّبةِ قليلًا من الخارج إلى الداخل
والسيئةِ الإدارة بمجاديفَ مفلوجةٍ من أعلاها. وأما في السِّباحة فلا تَجِدُ أبيضَ يُجِيدُها
مثلهم، والأسود يَربِط مِطرَده
٦ على رأسه ربطًا أُفُقِيًّا ويَعبُر النهرَ سابحًا، وعلى الأسود أن يجاوز الماءَ
ليَصِلَ من أوعر ناحيةٍ في الضِّفة إلى حَقْلِه الضَّيِّق ويَبذُر فيه حفنةً من الحبوب
أو
اللُّوبياء، وذلك على أن يعود إليه ليَحصد ما زَرَعَ ويجلُبه إلى كوخه سابحًا حاملًا
إياه على
رأسه، وإذا عَدَوْتَ المحيطَ المتجمدَ لم تَجِد مكانًا يَعْسُر كَسْبُ العيش فيه كما
في ذلك
البلد.
ومن يملكْ في تلك البقعة كوخًا وبقرتين وأربعةً من المَعْز يتكلم عن واحته، وتُعَدُّ
الناعورةُ دليلًا على الغِنَى، وتُعَدُّ النخلة دليلًا على نعمة الله، وتَلُوح مآثر الدول
الكبرى الغابرةِ بين علائم العيش الراهن الهزيلة، ومع ذلك لم تكن الأعمدةُ الهائلة التي
نَصَبَها أَمِنُوفِيس وتُوتْمُوزيس وسِيزُوسترِيس للإشادة بمجدهم في وَسَطِ سوقٍ ولا
على طريقٍ
تجاريةٍ زاخرة، وقد حَمَلَتْ خُنْزُوانيةُ
٧ الفراعنة ألوفَ العبيد على تمجيدهم بين الصخور السُّودِ والصحراء الصفراء
المَغْرَاء وفي سعيرٍ معم وفَقْرٍ لا ينطوي على رِعَائِيَّةٍ شعرية منذ ذلك الزمن، ولو
كان
لأولئك الملوك غُنْيَةٌ عن إعجاب جمهورٍ من الحُضُور، ولو كان أولئك الملوك يَعلَمون
أن مآثرهم
المنقوشةَ على الحجر مما لا يراه غيرُ بضع مئاتٍ من الرُّعاة العُرَاة ومن الفلاحين الذين
جفَّفَتْهم الشمس، لاعتقدوا أنهم أندادُ الآلهة بما شادوه وبما فكَّرُوا فيه لألوف السنين.
ومهما يكن الأمر فإننا نعلم من أحد تلك الآثار أن مستوى النيل الاعتياديَّ كان في عهد
أَمِنُوفِيسَ الثالثِ أعلى مما هو عليه في الوقت الحاضر بثمانية أمتار؛ وسببُ هذا الفرق
هو عملُ
الماء في ثلاثة آلاف سنة.
ومع ذلك نُقِشَتْ كتابةٌ وَجَبَ تفسيرُها للسكان المحليين جيلًا بعد جيل. فبالقرب
من وادي
حلفا، وفي نهاية الشلالات، وحيث يُصبِح النيل صالحًا للملاحة، أَمَرَ أحدُ الفراعنة بأن
تُنْقَشَ على عَمُودٍ من الغرانيت الكلمة:
يُحظَر على الزنوج بعد هذا الموضع أن يسيروا مع النيل على سفينة.
وفي الزمن الذي وُضِعَ فيه ذلك الإنذارُ المتوعِّد كان حَدُّ مصرَ الجنوبيُّ هنالك،
بالقرب
من الشلال الثاني، وعلى مَسافَةِ ١٥٠٠ كيلومتر من مجرى النهر التحتاني بعد الخرطوم، ولا
يزال
حدُّ مصرَ الجنوبيُّ في ذلك المكان، وهذا الشلال الثاني مؤثرٌ في النفس أكثرَ من سواه،
وهذا
الشلال بركانيٌّ مُجَرَّدٌ من النبات، ولهذا الشلال منظرُ المهالك، وإذا ما دَنَا الإنسان
منه
خُيِّلَ إليه أنه أمام جحفلٍ من بقر الماء المتحجِّر البارز اللامع على نور الشمس، وذلك
لتدوير
الماء كلَّ شيء، وما يحدث حول الصخور من دَوَرَانٍ مائيٍّ خفيف فيُقَوِّي الوهمَ.
وتُرَى من فوق جَنْدَل أبي صِير، وعلى ضِفة النهر اليسرى، حجارةٌ أكثرُ من الماء،
ويُرَى في
الشتاء ثلاثمائة وخمسون جزيرةً، ويَبقَى من هذه الجزر حين الفيضان أكثر من مائة جزيرة،
والناسُ
يَسكُنُون خمسين جزيرةً منها على الأقل، وهي تشتمل على أكواخٍ من طينٍ لازبٍ، وعلى أشجار
سَنْطٍ
قوية قاومت كثيرًا من الفيضانات، وتَبدُو أتلامُ حقول الفول والعدس مُرَبَّعَاتٍ متروكةً
لأولادٍ في زاوية من حديقة، ويذهب الأهالي إلى الحقول مرتين في كلِّ عام راكبين زوارقَ
شِراعيةً
أو قواربَ ذواتَ مجاديفَ، وذلك للبَذر والحَصَاد.
وتمتدُّ مدينة وادي حَلْفَا الصغيرةُ على ضِفة النيل اليمنى، وذلك مع وجوهِ أبليةٍ
بيضٍ
وكثافةِ سكانٍ ونخلٍ، ويسيطر عليها تلٌّ فوق الضِّفة اليسرى يُذَكِّر بكثبان شاطئ البحر
العالية، وما تُبصِره من نزول الذَّهَبِيَّات مع النهر ومن بدء الخطِّ الحديديِّ ومن
تَلَبُّثٍ
في الملاحة فأمورٌ تَهَبُ الحياةَ إلى المصر، ويَخفِق علمُ مصرَ الأخضر وحدَه فخورًا
بعد
الآن.
ويُتِمُّ النيل مغامرتَه الثالثة مسرورًا، ويجاوز النيلُ مِنطقة الشلالات سعيدًا،
هو يَسِير
مُتَّئِدًا عريضًا جليلًا أكثرَ مما في الخرطوم، هو يَدخُل مصر.