الفصل الثامن عشر
يسير النيل للقيام بمغامرةٍ رابعة، ولا يُبْصِر النيل خصمه، ولكنه يشعر بنتائج اعتدائه
فيزيد همُّه، وهنالك ما يَضْغَطُه، وهنالك ضغطٌ أشدُّ هولًا من جميع ما حدث من عهد سقوطه
الأعظم
وسيره في المناقع أيام شبابه، وهنالك ضَغْطٌ أَدْعَى إلى الهَلَع مما في الشلالات أيام
كُهُولَته، وما فَتِئَ مستواه يرتفع من غير أن يَتَلَقَّى ماءَ مطر، والنهرُ يعلو حتى
مَسافة
٣٥٠ كيلومترًا من مجراه الفوقانيِّ قبل أُسوان، بيد أن هذا ليس الفيضانَ الأكبر الذي
تُسفِر عنه
أمطار الصيف النازلة على جبال الحَبَشَة فتَصُبُّ في النيل الأزرق، وتَقِفُ النيلَ قُوًى
حافلةٌ
بالأسرار.
ولو كان النيل ذا ذاكرةٍ لقال في نفسه إنه لم يَحدُث منذ ألوف السنين من حياته أن
غَمَرَ
البلاد في الشتاء خلافًا لما اتَّفَقَ له منذ ثلاثين عامًا، وأكثرُ من ذلك إلغازًا هو
أن مياهه
ترتفع وقتَ الحَصَاد وتَهبِط في الصيف وقتَ الفَيَضَان.
والآثارُ الدالَّة على سرعة هذا التحول في الشتاء كثيرة، ومنها انتصابُ شِعَاف
١ النخل في النهر من غير أن تَنْبُتَ النخيلُ فيه، ويَمَسُّ حَيْزُومُ
٢ الباخرة جُدُرًا فيُحَوِّلُها إلى غُبَار كما لو كانت مدينةُ إِيسَ
٣ قد بُلِعَتْ هنا. ولكن تلك الجُدُرَ ليست سوى أكواخٍ ترابية أقامها فلاحون فتَرجِع
إلى الذي جَهَّزَهَا بالمادة، تَرجِع إلى أبيها النيلِ، ويَبرُزُ رأسُ الناعورة من بين
الأمواج،
وتُكَوَّن جُزَيْرَاتٌ عندما تَسقُط النخل ويتراكم الطين هنالك، وهي ليست من نوع الجُزُر
العائمة في المناقع. والأمر هو أن الجزر القديمة تَبرُز في الزمن الراهن، فيعود أهلُها
إليها
بالزوارق، ويَنمُل الأولاد في رءوس النخيل البارزة من الماء والمستورةِ بالثِّمَار، وإن
ظلَّت
شِبهَ غارقةٍ تسعةَ أشهر من شهور السنة.
وينتصب على التلال المتصلة بالضِّفاف الجديدة بيوتٌ من طين لازب، ومن حجرٍ في بعض
الأحيان،
لظهورِ الغرانيت ثانيةً هنا، وتَبدُو هذه البيوت — تحت طِلائها الكلسيِّ الجديد — متجهِّمةً
كالحصون في ألواح النحاس القديمة، ولا ترى لهذه البيوت نوافذَ، ولا تُضِيء الشمس وجوهَها،
وتُشعِر شُرُفاتُها الغريبة بأنها مهجورة، وتُذَكِّرنا بالنماذج التي وَضَعها مهندس لتغيير
المنظر.
وتَنزِل نِسوَةٌ من عَلٍ لزرع طرف حقلهنَّ، ويكون للطين المُجَمَّد مظهرُ رصيفٍ على
طول
النهر، وتمُرُّ من هنالك نسوةٌ على ظهور حميرهن الصغار، والنساء وحدَهن هن اللاتي يَسِرْن
ما
دام الرجال كَنَّاسين في القاهرة أو منظِّفِي أطباقٍ في مطاعمها، وهؤلاء الرجال هم أكثرُ
أمانةً
وأقلُّ ذكاءً من فلاحي مصرَ الدنيا، وهؤلاء الرجال يهاجرون إلى السودان ليكونوا خَدَمًا
عسكريين
لدى ضباط كتشنر، ولكن لسنةٍ واحدة فقط، ثم يَرجِعون إلى أزواجهم.
ويَصْعَد حظُّ هؤلاء الفلاحين ويَهْبِط بين هذه الضِّفاف الوَعِرَة الجديبة، وقد
رُفِعَ
خَزَّان أُسوانَ مرتيْن، وغَمَر في كلِّ مرةٍ مساكنَ ألوفِ الأُسَر، وقُدِّمت إليها أراضٍ
في
مصرَ الخصيبة، وهي لم تُرِدْ مغادرة تلك التربة المَرْتِ
٤ ذات الوَحَل والحجر التي عاش عليها أجدادها، وهي قد أقامت أكواخًا جديدةً في أماكنَ
أكثرَ ارتفاعًا، وظلَّت النخلُ الخائضة مُلْكًا لها، وظلَّت تعُدُّها شجرَ آبائها، وتَوَدُّ
أن
تأمل رُطَبَها وإن وَجَبَ أن تَصِلَ إليها راكبةً سفينة.
وتكوَّنَتْ أشباه جُزُرٍ فيجري النهر من بينها في فِيُورداتٍ
٥ صغيرة، وتستُر شواطئُها قُرًى خَرِبَةً وسَيَغمُرها الماء في الشهر القادم،
ويترجَّح عرض الأراضي المُخْضَرَّة في شهر فبراير بين خمسين مترًا وثلاثمائة متر، ويُضْطَرُّ
النوبيون بعد الحَصَاد إلى نقل حبوبهم إلى منازلهم الجديدة، لكيلا يَجْرُفَها الماء في
فصل
الشتاء.
والدِّرُّ مدينةٌ صغيرة يجعلها ارتفاعها القليل في حمًى من الفيضانات، وهي تَقَعُ
في نهاية
مُنْعَطَف النيل، وتَقرُب منها كروسكو حيث تَفرِض الجبال على النيل عُروَةً قصيرة متَّجِهة
نحو
الجنوب الشرقيِّ، وتقع هذه الجبال في بُقعة خصيبة يُخرِج جَذرُ النخلة الواحدة بها عِدَّة
أصول،
وهنالك يَبْدُو الناس أصحَّاء نِشَاطًا، وتبدو السوق زاخرةً، وتَلمَع البيوت من خلال
شجر
السَّنْط الأصفر، وهنالك كانت تُحَمَّل الجمال فتبلُغ أبا حَمَد عند الشلال الرابع في
ثمانيةِ
أيام أحيانًا قاطعةً عُروة النيل من الطريق التي يَتْبَعها الخطُّ الحديديُّ في الوقت
الحاضر.
ومن هنالك كان حُجَّاج مكةَ يَسِيرون نحو البحر الأحمر. واليوم تُزَمِّر وتُبَوِّق سيارات
فُورد
الصغيرة في الطُّرُق فتنتظر جِمال كُردُفانَ الجميلة باسِرَةً
٦ كأنها تَعرِف أنها صارت لا تساوي أكثرَ من جنيهين بعد أن كانت تساوي عشرة جنيهات،
وأن نزول قيمتها جعل منها في القاهرة جَزُورًا،
٧ مع أن غوردون وكتشنر جابا الصحراء على متون آبائها فكانت حاملةً أولَ رُسُلٍ
للحضارة في سُهُوب السودان الموحشة.
والسدُّ يجعل النهرَ عريضًا مقدارًا فمقدارًا، ويُصبِح النيلُ بحيرةً عند حدود مصرَ
الحقيقية؛ أي في دائرة السرطان، والمنظرُ خياليٌّ أسمرُ باهرٌ خالٍ من النبات، ويبدو
الحجر
والرُّبَى والجُزُر والصخور الطريفةُ الأشكال والمصقولةُ المركومةُ رَكْمًا مستديرًا
غريبًا،
وتبدو الجنادلُ مستويةً أو عَمَدًا أو كُتَلًا أو أطوادًا. وهكذا يظهر الشلال الأول —
شلالُ
أُسوان — تكرارًا للشلَّال الثاني، ولكن مع اتساعٍ لا حَدَّ له، وبَدَلًا من ضِفاف نهرٍ
لا
يُرَى منه غيرُ شواطئَ بعيدةٍ من الغرانيت الأحمر واقعةٍ حَوْلَ شَفِير تلك البحيرة نصف
المتحجِّرة التي تنتصب خارجها رءوسُ نخلٍ كأرواح الغَرْقَى في رؤيا دانتي، ويَبلُغ ذلك
السِّمَاطُ السائل من التأثير في النفس والبعد من الحقيقة وإعشاء الأبصار ما لا يُعْجَب
منه
الإنسان إذا ما اشتعل، ويلوح القِطار الأبيض المواجه؛ أي الشلال، أنه تِنِّينٌ مستعدٌّ
للوثوب
على الملَّاحين الذين يَصِلون إلى هنالك.
ومع ذلك تَزْلَق قُلُوع الزوارق الأولى التي هي مصريةٌ خالصة فوق تلك البحيرة كالطيور
السَّوَانح
٨ مع أعلامٍ مختلفةِ الألوان على السارية أو المُرْنَحَة،
٩ وهي تَمَسُّ سُعُوفَ
١٠ النخل المغمورة مَسًّا خفيفًا، ويضع الرُّبَّان ذِرَاعَه على السُّكَّان
١١ ويشتدُّ تِجاه ريح الشمال، ويرتَدُّ قميصه الأبيض متموِّجًا إلى الوراء كالإِزَار
في تمثال فِيكتوَار،
١٢ وتبلُغ صخور الأساس الحُمرُ حتى الخَصْر، وتحيط به الصحراء الصفراء التي تُعمِي من
كلِّ جانبٍ على حين يقترب الزورق من تيجان الأعمدة الطريفة.
وتَنْصِب الرُّتُج
١٣ والعَمَد رءوسها خارج البحيرة، وهي بقايا خيالٍ ساخر في الماضي غيرِ مبالٍ بدساتير
الحياة الراهنة، وهي ظِلالُ ذكرياتِ آلهةٍ آفلةٍ، وهي حُلُم روحٍ روائية تَبكي كلَّ شيءٍ
رهينِ
الفناء، وتستحوذ الأفكار على المسافر الذي يَدْنُو من جزيرة الفيل (بِلَاق) فوقَ زورقٍ،
وذلك في
الشتاء حين ارتفاع المياه، وحين يَرَى عُصَيْفِيرًا يُحَرِّك ذَنَبَه عند مستوى الماء
وعلى
إفرِيز أُوزِيرس الذي هو عاهلٌ غِطْرِيسٌ يَغسِل رجليه في النيل وعلى تاج إيزيس الذي
يَظْهَر
وحدَه من بين الأمواج، ويَمَسُّ المِجدَاف سَقْفَ صَرْحٍ
١٤ أقلَّ ارتفاعًا، غير أن الثُّقُوب، غير أن الأجزاء التي نُزِعَت بالإزميل، تدلُّ
على أن حَسَدَ القساوسة أدَّى إلى مضارَّ أكثر مما أدى إليه السدُّ الذي ما فتئ يَغمُر
معبد
بِلاق منذ ثلاثين سنة، فإذا حلَّ فصل الخريف وفُتِح الخزَّان وعاد النيل إلى مستواه العاديِّ
بَدَت المعابد جافَّةً كما في الماضي، ولكن مع استتار الجُدُر بطبقةٍ من الطين الضارب
إلى
خُضْرَة، ويمكن هذه الأماكنَ المقدسةَ أن تَصلُح لسَكَن الجنِّ.
وكان المصريون والنوبيون يُمْضُون عقودَهم حول السَّلم أمامَ هذه المعابد، التي هي
ضرائحُ
لآلهتهم، أيام كانت غيرَ مغمورةٍ، ومن المحتمل أن وَضَعَت كليوباترة ذراعَها على يَدِ
عبدٍ جالس
القُرفُصاء في ذلك المكان الذي يَبنِي الخطَّاف وَكرَه فيه. وهنا كان السلطان بعدها لآلهة
الأولنبيا، بَيْدَ أن القيصر هادِرْيان أراد أن ينال حُظْوَة لدى الآلهة المصرية فَعَبَدَ
إيزيس
وهوروس خارج رومة، وصور منبع النيل على جدار؛ وذلك بأن جعل إله النيل جالسًا مع أفعاه
عند قاعدة
صخرةٍ صابًّا الماء من جرتين على حين ينظر إليه عقابٌ وباز.
وكانت هجرة إيزيس إلى هذا الطرف الجَنُوبيِّ حين تَمَّ النصر ليسوعَ في الدلتا، ثم
وَضَع
كُهَّانٌ تمثال العذراء بين الآلهة المصرية، ثم جاء أتباع محمدٍ فقلبوا تلك الصور واستبدلوا
آياتٍ قرآنيةً بها، غير أن المباني الرائعة التي شيدت في القرن الثالث الذي هو عصر الانحطاط
كانت قائمةً، وهذه المعابد، التي هي أصغر من الأخرى وأهيف، والتي هي أكثر من الأخرى أناقةً
وزخرفًا، عاطلةٌ من المسحة الكلاسية،
١٥ وهي لا تزال واقفةً في وسط النيل ولم تصبها العناصر بضرر، وما تتصف به هذه المعابد
من فرط الزينة فيجعل منها منظرًا من المزمار المسحور، ولم تزل هذه المعابد في حالٍ حسنةٍ
عندما
نقش الفرنسيون أسماءهم على الجدر البطلمية، وقد عُني الفرنسيون بجعل أسمائهم على ارتفاعٍ
يمكن
أن ترى به فوق الرتاج الشرقي من الزورق، وقد سار الفرنسيون على غرار الفراعنة فأشادوا
بذكر
معركة الأهرام مع درج جميع أسماء الجنرالات، ثم جاء إنكليزيٌّ فحك اسم نابليون عن حنقٍ،
ثم جدده
ابنٌ لنابليون فأعاده إلى ما كان عليه مع الكلمة: «لا يجوز تدنيس صفحةٍ من التاريخ»،
فهذا يصلح
أن يكون درسًا للمتعصبين في زماننا.
وإذا ما صعدنا فوق رتاجٍ بمراقٍ من حديد، ونظرنا إلى الغرب وقت المساء، فإننا نبصر
تكرار
ألوان المعبد الرائعة في الطبيعة، نبصر بحيرة النيل زرقاء كالعظلم،
١٦ ونبصر النخل رماديةً خضراء، ونبصر الجبال المجاورة برتقالية اللون مع ظلالٍ زرق
خضر، ونبصر الصحراء وردية والجبال البعيدة بنفسجية، ويعقب الشمس قمرٌ مبرقعٌ في السماء
الغربية
الخضراء الزرقاء، على حين تنشر السماء الشمالية، من طرفها الأرجواني، طريقًا بين السحاب
الوردي
والسحاب الأخضر اللامع الذي ينتهي في الأعلى، في سمت الرأس، في العهد الذهبي لخطٍّ سهميٍّ،
مودعًا آخر هبات النهار، ثم تمضي بضع دقائق فيذوي النور وتصبر الجبال شهباء
١٧ دكناء ويغطس النيل غير المحدود في الظلام.
وتتقد سلسلةٌ من الأنوار بغتةً، وتقطع الشفق بضع مئات من الشهب
١٨ كالسكين، وتظهر هذه الشهب ما تشتعل فوقه من بناء هائل، وتسقط شرارةٌ في هذا العالم
الذي يرجع إلى ما قبل الطوفان، ويبتر جدارٌ من فوره وينهار، وهذه هي خاتمة الفوضى، فقد
فرضت
عزيمةٌ ناظمةٌ سلطانها، وتلاشت ألوان السماء والمعبد وتوارت الغيلان الحجرية، ويسد خزانٌ
من
الحجر الرمادي تلك البحيرة في وجه الشمال، فلم يبرز غير رتج المعبد، ونرى من ناحية هذا
السد
الأخرى سلسلةً من المساقط المصنوعة الموضوعة وضعًا منتظمًا، وهذا العمل هو سبب كل شيء،
وهذا
العمل هو الذي يزعج نوبية الدنيا على طول ٣٥٠ كيلومتر، لحرمانه ألوف الفلاحين بيوتهم
ولدحره
إياهم إلى التلال الجرد، ولإغراقه النخيل ومعبد بلاق الذي نحن عليه، والإنسان قد قهر
النيل بذلك
البنيان، وذلك هو اختراعٌ جريءٌ قد عَيَّن مصير النهر في مجراه التحتاني ومجراه الفوقاني،
وذلك
هو المكان الذي يخسر النيل فيه حريته.
وذلك هو خزان أسوان.