الفصل العشرون
النيلُ يَقلِب جميع سُنَن الطبيعة رأسًا على عقب كما يلوح، والطبيعة تَبلُغ غاياتها بهذا القَلْب مع ذلك، فالنيل يَجُوب الصحارى والمناقعَ من غير أن يَجِفَّ تمامًا، والنيلُ في الصيف، حين تَجِفُّ الأنهارُ الأخرى، هو الذي يَقلِب بمياهه المرتفعة نظامَ الفصول العاديَّ، والنيلُ يَبقَى مع أنه دون الكونغو والدَّانُوب الأدنى غزارةً ومع اتِّباعه أحوال حياةٍ أشدَّ تعقيدًا، والنيل — مع سيره من مناطقَ بلا مطر — يكون من القوة ما يحتمل معه الجَفَاف، وقد نالت الطبيعةُ هذه النتيجةَ بفضل تآخي النيليْن.
ومن الصعب أن يُعرَف أيُّ النهريْن أهمُّ من الآخر كما يَصعُب تعيينُ نصيب كلٍّ من العالِمَيْن الشريكيْن في الفضل كمسيو كُورِي ومدام كوري، أو الأخوين رايت، اللذيْن اقترن ما فيهما من علمٍ رياضيٍّ وتصورٍ وإلهام وبحثٍ وصولًا إلى اكتشافاتهما. نَعَمْ، إن النيل الأبيض أشدُّ بُطْأً، غير أن هذا البُطْءَ يُنقِذ مصرَ، ويؤخِّر عدمُ انحداره وصولَ مياهه التي تَمُرُّ من الخرطوم بين الشهريْن أغسطس وديسمبر، مع أن النيل الأزرق — الذي هو أكثر سرعةً — يُلقِي مياهه بين يوليو وسبتمبر، ثم إن النيل الأبيض الوحيدَ لا يَخرُج من مجراه، وتظلُّ الزراعة مقصورةً على الضِّفاف المباشرة التي تَسقِيها النواعير. ولولاه — مع ذلك — لماتت مصر عَطَشًا في فصل الجَفَاف حين يحمل النيلُ الأزرق ماءً قليلًا تحت سطح الأرض، ولم تَهَبِ الطبيعةُ النصرَ للأقوى عن حكمةٍ، فأكبرُ الأخوين ضامنُ حياةٍ وأصغرهما صاحبُ عبقرية.
وأرقامُ حساب النيل الأزرق دليلٌ على عُنْف مزاجه، ففيما ترى نسبة الارتفاع والنزول في النيل الأبيض ٥ : ١ تَجِدُها في النيل الأزرق ٥٠٠ : ١، ويمكن أن يُبصَر حساب النيل في مصرَ بين الشهرين ديسمبر ومايو؛ لأن الذي فيه آنئذٍ هو ماء النيل الأزرق، ولا يُعرف — مطلقًا — ماذا تكون الزيادة في شهر يونيو؛ لأنها مدينةٌ للنيل الأزرق؛ أي لجبال الحَبَشة وللرياح الموسمية، ولا يَلبَث النيلُ الأزرق العنيف التابع لهواه أن يَكُفَّ عن المساعدة، ثم يقوم بجميع العمل متى عنَّ له، وهو يحتمل ثلثي الحساب في الشهرين أغسطس وسبتمبر، ولا يحتمل كلٌّ من العطبرة والنيل الأبيض سوى السدس، وإذا حُكِم في الأمر من حيث غزارةُ الماء قيل إن بحر الجبل هو مصدرُ النيل الأبيض. وإن النيل الأزرق هو مصدرُ النيل بأسره، وهذا إلى أن النيل الأبيض ليس أبيضَ، كما أن النيل الأزرق ليس أزرقَ، ففي الربيع يكون النيلُ الأبيض أخضرَ، ثم يصير ضاربًا إلى حمرة، ولا تكون مياهُه شفَّافةً حتى في فصل الشتاء، ويكون لونُ النيل الأزرق في موسم الفيضان كلون الشكولاتة مع اسمرارٍ، ثم يصبح أكثرَ صفاءً.
ومع ذلك لا يدل النيل الأزرق على عبقريته بصَولةِ أمواجه، بل بتركيبها، فالنيل الأزرق إذ يخرج من جبالٍ بركانية ويُحوِّل أجزاء البَزَلْتِ الحبشيِّ إلى غِرْينٍ خصيب، يأتي أمرًا لا يَقدِر عليه النيل الأبيض ولا جميعُ أنهار أوروبة، وتُعرَف قيمة الغرين على ضفاف نهر الغنج أيضًا، ومتى فاض نهر الغَنج فأتلف الغِلال تبسَّم الهندوسي باتِّزان البرهميِّ لما يَعلمه من قوة خِصب التراب في العام القادم. وكان المصريون منذ خمسة آلاف سنة يَعرِفون أن الغِرْيَن سببُ وجود الدلتا، وأن محاصيلَهم مدينةٌ للغِرْين في كلِّ سنة.
أجل، يجيء النيلُ الأبيض — أيضًا — بموادَّ محلولةٍ عالقة به، وتَعدِل النسبةُ المئوية لهذه الموادِّ الممكنةِ الانحلال ما في النيل الأزرق من غِرْيَن، غير أن تلك الموادَّ من أصلٍ نباتيٍّ على الخصوص؛ وذلك لأن المناقع تقوم بعملِ المِصْفَاة العظيمة، ولأن الانحدار أقلُّ مَيْلًا، ولأن الجُزُر تَقِف ما يبقى، ولأن التراب الخَزَفِيَّ لا يمكن كَسرُه، ويَحمِل السوباطُ نصفُ الحبشيِّ غِرينًا، ويَفقِد معظم غِرْيَنه في مناقعه الخاصة.
وما يَحمِله النيل الأبيض والسُّوباط من المواد الصُّلبة فيَرسُب في مجاريهما ومناقعهما، ويأتي النيل الأزرق ﺑ ٨٦ في المائة من مجموع تلك الموادِّ في شهرَيْ فيضانه؛ أي في أغسطس وسبتمبر، وفي الشلالات أيضًا يَجُرُّ النهرُ ما يَقرِضه من البَزَلْت والغرانيت والجير، وإلى الغِرْين يُضَاف رملُ النهر، وما في النهر من موادَّ عَفِنَةٍ، و٩ في المائة مما يَحمِل هو من الموادِّ العضوية، فيَتلَف في أثناء مروره من الصحراء وبفعل الجَفَاف والهواء، وهكذا تزيد الصحراء عدوَّها الماءَ قوةً. وإذا ما انتهى الفيضان وسكَن أخذت الطيور — من فورها — تفترس السمكَ الميت وأنواعَ الجِيف المنتثرة على الضِّفَاف.
ويشتمل الغرين؛ أي مصدرُ الغِنَى، على ذهبٍ يُعَدُّ رمزًا لقيمته، حتى إنه يُصَفَّى على حدود السودان في الحين بعد الحين، ولكن بمقدارٍ قليلٍ لِمَا يتطلَّبه استغلالُه المنتَظم من نفقاتٍ كثيرة. وقد حَسَبَ أناسٌ من ذوي الاختصاص ما في الغِرْين من سَمَادٍ فوجدوا أن كلَّ فدانٍ في مصرَ يحتوي منه ما قيمته جنيهٌ ونصفُ جنيه، ويزيد خصبه بالحرارة، وما فيه من أُكسِيد الحديد فيَزِيد قوة امتصاصه.
والنيل قد أوجد الدلتا قبل أن يحوِّل الإنسان الغرينَ إلى غِلال بألوفِ السنين. والنيل قد شَقَّ طريقَه في الصحراء قبل ذلك بألوف السنين، وتَرجِع أُولَى العلائم والأرقام الخاصة بالفيضان إلى ما هو أقدمُ من جميع وثائق الغرب التاريخية، وهي تبلُغ من القِدَم نحو ستة آلاف سنة، وهي تعدُّ قريبةً من الصحة في الوقت الحاضر، والثورةُ الكبرى التي عاناها النيل هي من عمل الإنسان، ولا تزيد في القِدَم على قرن.
ونَعلَم من التصاوير على جُدرَان قبور الفراعنة كيف كانت الحبوب تُبذَر في الغرين بعد الفيضان وكيف كان يُحصَد بعد شهرين، وتُرَى على تلك الجُدُر أسدادٌ تُحِيط بحياضٍ كما في الزمن الحاضر. ومن الكتابات ما يدلُّنا على أن الحكومات كانت توجِّه ماء الفيضان من حوضٍ إلى آخر إيصالًا للغرين المُولد إلى مكان بعيد، وكان يحتفل منذ أربعين سنةً مضت؛ أي قبلَ إنشاء خَزَّان أُسوان، باليوم الذي تغادر أمواجُ النيل الأزرق الأولى جبالَ الحبشة كما كان يُحتَفَل قبل خمسةِ آلاف سنة، والأسماء هي التي اختلفت، فكان الكُهَّان يُخبِرون الشعبَ بأن إيزيس يَسكُبُ دموعَه في النيل حين يبكي أخاه أوزيرس فيرتفع النهر، واليومَ يُبرِق مهندس الرُّصَيْرِص إلى القاهرة مُخبِرًا بوصول الفيضان. واليوم يقول النصارى والمسلمون: إن قطرةً ربانيةً تَنزِل ليلة اليوم السابعَ عشرَ من شهر يونيو، ولن يستطيع عالمٌ أن يُطفِئ شعلَةَ خيال الناس الشِّعريِّ.
ويغمر الفيضانُ مصرَ في فصل الصيف، فيُخصِب الحقولَ الجافَّة بالغِرْين، ويكون الشتاء لطيفًا غيرَ حارٍّ كما في المناطق الاستوائية فيَنبُت الحبُّ من تلقاء نفسه، ويأتي الفيضان الحبشيُّ في الوقت المناسب إذن، ويكون على عكسِ الفيضان الذي يَغمُر العراقَ إِذَن، ونَعرِف مقدار الزمن الذي تدوم فيه رِحلة الموجة، ففي النيل الأزرق الأعلى يبدأ الفيضان في أبريل ويَبلُغ أُسوانَ في يونيو، ويَصِل إلى الدلتا في يوليو.
ومعظم المياه يَصُبُّ في البحر منذ ألوف السنين من غير أن يُنتَفَع به، وكان لا بدَّ من حلول عصرنا حتى يُشَادَ سَدُّ أسوان وسواه في مصر وتُسقَى الأراضي على طول النيل وإلى ارتفاعٍ ما، فتُعطِي الأطيانُ محصوليْن أو ثلاثةَ محاصيل وتَغدُو الصحراءُ من ورائها خصيبةً.