الفصل الحادي والعشرون
ترى ابن ضِفاف كلِّ جدول منذ أقدم الأزمنة في غَمٍّ من أعمال ابن المجري الفوقانيِّ وحركاته فيسأل في نفسه عن استنفاد هذا الجارِ كثيرًا من الماء، وعن تحويل إياه إلى مصلحته، وتَحمِي قوانينُ جميع البلدان ابنَ المجري التحتانيِّ من اعتداء ابن المجري الفوقاني إذا كان كلا الفريقين يَسكُن بلدًا واحدًا على الأقل. وإذا كان منبع جدولٍ خاصًّا بمالك أرضٍ آخرَ فإن الانتفاع الصحيح بمجاري الماء يصبح صعبًا لِمَا يصير به جميع الدواليب التي يُدِيرُها وجميعُ الأموال الخاصة في خَطَر، ويَبدُو الوضع أشدَّ خطرًا عندما يتوقَّف أمرُ بلدٍ بأسره على مجرى ماءٍ عظيم، لا من أجل مائه الصالح للشرب، بل من أَجْل الحبوب التي تُغَذِّي سكانَه، وذلك عندما يكون منبع مجرى الماء هذا في بلد آخر، وعلى أصحاب السلطة في المَصَبِّ أن يَنْفُذوا في نفس أصحاب السلطة في المنبع نفوذًا تامًّا حتى يَعرِفوا مقاصدهم. وماذا يقع لو تنافر الفريقان فصَرف ساكنُ المجرى الفوقانيِّ منبعَ الماء عن وِجْهته عن خُبْثٍ غيرَ خائفٍ مقابلةً بالمثل؟ فالاشتراعُ الدولي في أمور الريِّ وهميٌّ ككلِّ حقٍّ دَوْليٍّ.
وما كان يساور قدماءَ المصريين من غَمٍّ فمثلُ ما يساور المصريين المعاصرين، وذلك تِجاة أمةِ إثيوبيةَ البعيدةِ النَّكِرَةِ التي وَضَعَت الآلهةُ منبعَ النيل الأزرق بين يديها كما وضعت الفيضانَ الأكبر والغرينَ المولِّد اللذين لا يمكن مصرَ أن تعيش بدونهما، وفي الأساطير والكتابات شواهدُ على تنازع أهل المجرى التحتانيِّ وأهل المجرى الفوقانيِّ وتفاوضهما. وقد أدَّى هذا الوضعُ إلى مخاوفَ مخالفةٍ للعقل في الغالب.
– لقد عاش آبائي في سَلْمٍ مع هذا القِسِّيس.
– لا تَدْعُه قسيسًا، وإنما ادعُه ﺑ «سيدي».
ويكرِّر هذا الأمرَ ثلاث مرات، فيقول السلطان بتأنٍّ: «أريد السَّلم مع سيدي القُمُّص يُوحَنَّا.»
وهنالك سَلَّمَ الحبشيُّ إلى سلطان مصر قَوْسًا وستةَ سِهَامٍ من ذهبٍ وقال: أصبتَ إذ قلتَ سيدي، فحياتُك وموتُك بين يديه، وأنت تَعرِف السببَ، فالنيلُ يأتي من بلدنا، ولو أراد سيدي لقطعَ الماء وأماتكم جميعكم جوعًا.
السلطان: «ذلك حقٌّ.»
ويفسِّر المؤرخ جِبُّن ذلك الإكراهَ بجهلِ الترك وحِيَل الأقباط وخُيَلَاءِ الأحباش.
وحاول نصرانيٌّ من الغرب أن يَجْعَل من تلك الأُسطورة حقيقةً، ففي سنة ١٥٠٠ كان ألفُونسو دُو آلبُوكِرْك البرتغاليُّ، الذي جُعِل منه رجلٌ عظيم، نائبًا للملك في الهند، فأراد أن يَنزِع من السلطان طُرُقَه التجارية وإهلاكَ مصرَ فاعتمد على القُمُّصُ يوحنا وسعى في تحويل النيل الأزرق إلى البحر الأحمر، فلم يَحبَط عملُه — كما روى ابنه — إلا لعدم وجودِ عمالٍ ماهرين، «وإلا كان يمكنه أن يَخرِق تَلًّا، فتموت مصر عطشًا.»
والآن أيضًا؛ أي بعد أربعمائة سنة أو تزيد، وُضِعَ من الكتب الحديثة ما عُدَّ به تحقيق ذلك المشروع أمرًا ممكنًا، ومع ذلك يَجِب على جميع العالَم أن يَعلَم أن أهمَّ ما يأتي به النيل الأزرق لا يأتي من مجرًى يمكن تحويلُه، بل من مئاتِ السيول التي يتعذَّر ضبطُها من بعيد، وما في النيل الأزرق من مخاطرَ ومنافعَ فقد حَمَلَ على قياسِ جريانه وحسابه قبل أن يُصنَع مثل ذلك عن النيل الأبيض. وقد عُني بالأمر سنة ١٩٣٠، وسيُعنَى به في المستقبل لا رَيْبَ.
ووُضعتْ مشاريعُ سدٍّ لبحيرة طانة منذ ثلاثين سنة خَلَتْ، ولن تُكرَه الحبشة على منح امتيازاتٍ ما دامت مستقلةً وما دام الرِّقُّ يُغْنِيها عن كلِّ قَرْضٍ من الخارج. وهذا ما جَعَل من غارستن — الذي تُتَّخَذ حساباته عن النيل أساسًا رئيسًا لجميع مسائل الري — عاملًا في اتفاق إنكلترة والنجاشي يُعَاهِد به هذا الأخيرُ على عدم القيام بأعمالٍ في الأبَّاي الأعلى، وعلى عدم السماح لأحدٍ بصنعِ ذلك من غير أن تُوافق عليه إنكلترة ومصرُ مقدَّمًا. وقد اعترفت إيطالية في سنة ١٩١٩ وسنة ١٩٢٥ بمركز إنكلترة الممتاز في مقابل ضَمان القسم الغربيِّ من الحَبَشَة عند إنشاء مثل ذلك السدِّ، وقد وَقَعَ هذا باسم «مناطق النفوذ» التي هي شكلٌ عصريٌّ للفتح الاستعماريِّ. وما فتئت فرنسة تُثِير رِيَبَ نجاشي الحبشة، ثم غَيَّرت فرنسة سياستَها في صيف سنة ١٩٣٥.
وفي سنة ١٩٢٧ عَرَضَت إنكلترة على الأحباش ما هو ضروريٌّ من النقود لإنشاء سدٍّ مؤدٍّ إلى زيادة ريِّ زراعة قطنها السودانيِّ، ويُوَلِّي النجاشي وجهَه شطر الأمريكيين، ويُسْفِر هذا عن وضع مشروعِ سَدٍّ من قبل شركةٍ في نيويورك، وتَخشَى إنكلترة أن يكون للأموال الأمريكية ومصالح ملوك القطن الأمريكيين تأثيرٌ في مجرى النيل فَفَضَّلَت الاتفاق مع منافسيها هؤلاء، ثم حدثت الأزمةُ العالمية فوَقَفَ كلُّ شيء.
ويُثِير سدُّ بحيرة طانة — وهو سيقام ذاتَ يومٍ — حَسَدَ الدول العظمى، ويقاومه أحباش أديس أبيبا لِمَا يوجبه من دخول الأجانب في البلاد، ولِمَا يُجْهَل به وقتُ خروجهم منها، ويَزعم سكان شواطئ بحيرة طانة — بوَحْيٍ من قسوسهم — أن الأجانب الآتين من أجل المشاريع يريدون إقامة سدٍّ يبلغ ارتفاعُه مائة متر فيؤدي إلى هدم كنائسهم وإلى تحويل الأبَّاي، وأن الأجانب كانوا قد سَموا بحيرة طانة، والمصريون وحدهم — وهم الذين أهمتهم الحبشة في عهد السلاطين — لم يكترثوا لذلك، فهم يَعلَمون في الوقت الحاضر أن ثلاثةً في المائة من الفيضان يَصِل إلى مصر من بحيرة طانة، وأن ذلك السدَّ لا يحرمهم ماءً، ولا غِرْيَنًا يقوم عليه عيشهم، وأن الغرين لا يأتي من هذه البحيرة، وأن ذلك السدَّ يحفظ — بالعكس — ثلاثةَ ملياراتِ مترٍ مكعبٍ من الماء لمصرَ والسودان عند الجَفَاف، وأنه يَحفَظ هذا المقدارَ للسودان وجزيرته وحدَهما بعد إنشاء مصرَ لجميع أسداد النيل الأبيض. وفي هذه الحال — وفيما خلا الشتاء وقتَ الفيضان — يكون النيل الأزرق سودانيًّا صِرْفًا ويكون النيل الأبيض مصريًّا خالصًا.
بيدَ أن هذا القطن الذي كان يزرعه أهل البلاد هو من الهزال كالقطن شِبهِ البرِّيِّ الذي يُزرَع الآن في حقول الحبشة، وهو لا يمكن أن يزاحم القطن الأمريكي، لِمَا ليس في الجزرة من أثرٍ للحِذْق والفن، ولقلةِ ما في الجزيرة من الماء على الخصوص.
وينالُ أبعدُ الجداول وأضيقها في أوقات معينةٍ — وبفضل نظام التوزيع الرائع — مقدارًا معينًا من الماء على نسبة ما يَنزِل من المطر في هِضَاب الحَبَشَة. وإذا حدث في النصف الثاني من شهر يونيو أن مَلَأَ الفيضانُ الحوضَ اشتملت القناةُ الرئيسةُ على ماءٍ يُوَزَّع في تسعة أشهر.
وكان ابن البلد يُذعَر إذا ما فُسِّرَ له نظامُ حياته الجديد، وقد زادت مخاوفه عندما اتخذت الحكومة سجلًّا للأملاك نتيجةً لعمل سنينَ طويلةٍ، فحُسِبَ دَخْلُ الفدان الواحدِ وَفْقَ المعدَّل المتوسط لأربعين عامًا. وقد قُسِّمَت البلاد في ذلك السجلِّ إلى مربعات يشتمل كلُّ واحدٍ منها على عشرة فدادين، ويَفصِلُ بين كلِّ واحدٍ منها جداولُ ماءٍ، فصار الألوف من السودانيين لا يفرِّقون بين حقولهم، وغدا غيرُ واحدٍ من الشِّيب يَغْلِي حقدًا على أولئك الذين يَزعُمون أنهم يجلُبُون السعادة إليه.
ثم كانت مفاجأةٌ فقد حَفَزَ ما في النساء والأولاد من فُضُولٍ إلى فتح الثَّقْب الذي يجلُب الماء إلى جدولهم، وقد أوجب وصولُ الماء إلى الحقل المزروع هُتَافَهم سرورًا، ثم أهرِعوا إلى الجدول التالي فوجدوه يَغمُرُ الحقول أيضًا، وقد بَذَرُوا في كلِّ مكانٍ ما أتاهم به البيض من أكياس بُذُور الذرة والقطن فأبصروا ازدهارًا في الموسم الجديد، أبصروا الثمارَ خيرًا مما في الماضي ورأوا جَوْزَةَ القطن أنصعَ مما في السنوات الخَوَالي، وجلست النساء أمام أكواخهنَّ، وتعلَّمنَ تنظيف القطن بأحسنَ مما كانت تصنع أمهاتُهن، ووَضع الرجال القطن في أكياس راكمين إياها بأرجلهم، ومَضَت الجمال محمَّلةً أثقالًا عظيمة إلى محطة الخطِّ الحديديِّ التي بناها الأبيض في مكانٍ قريب، فنُقِلَ القطن إلى البحر الأحمر حتى يُرْسَلَ إلى البحر المحيط، إلى جزيرةٍ أخرى أتى منها سادةُ السدِّ وأعمالُ القَنَوات.
والآن يَتَعَلم ابن لاقطة القطن في المدرسة ما هو السدُّ وما هو الدِّعام وما هو حَفْرُ القَنَوَات، فإذا كان ذكيًّا ذهب — على ما يحتمل — إلى كلية غوردون في مدينة الخرطوم الكبيرة، وإذا مَرَّتْ بضعةُ أعوام اختَبَرَ طبيعة أرض الجزيرة أو وَضَعَ جداول لمستوى النيل أيامَ الفيضان، وينال مائةً وخمسين قرشًا راتبًا شهريًّا، ويَسكُن بيتًا حجريًّا ويَدْخُلُ سيارتَه مساءً.
وهل يكون أسعدَ حالًا من أخيه الذي يحافظ على عادات آبائه؟ وأخوه — مع كسله — ينتفع من بناء السدِّ، وأخوه يَكسِب وقتَ الحَصَاد ثلاثةَ شلناتٍ في ثلاثة أيامٍ؛ أي ما كان أبوه يكسِبه في شهرٍ، وأخوه يستطيع أن يظلَّ مستلقيًا تحت الشمس أو مع النساء في السبعة والعشرين يومًا التي تَفْصِله عن القمر الآتي، وكثيرٌ من القبائل مِكْسالٌ، والإنكليز لا يَفرِضون العمل قهرًا، فالضرورة تقضي بجلب عمالٍ من الخارج.
وسيكون أولئك العمال من الحجاج الذاهبين إلى مكة، ويأتي أولئك من الساحل الغربيِّ ويجوبون أفريقية، وسيجاوزون البحرَ الأحمر لزيارة قبر النبيِّ، وأولئك أَمْرَن على الأعمال الزراعية من الرُّعيان الذين هم من أنصاف هَمَج السودان، وأولئك يَنصِبون خيامهم ويَزْرُبُون مَعزَهم طَوْعًا على ضفة النيل ليقيموا هنالك ستةَ أشهر، وليَكسِبوا من المال ما هو ضروريٌّ لإتمام سفرهم، ويُحْسِن الإنكليز — على الرغم من مبشريهم — قبولَ هؤلاء الحجاج المتعصبين الذين هم من العمال الصالحين. وإذا حَدَثَ أن أصبح أولئك ذوي صلاتٍ جنسيةٍ بالنساء المحليات فإن ذلك يُعَدُّ خيرًا للعرق الذي يشتدُّ وينتعش بهذا التوالد كما في كلِّ مكان.
وثُلثُ الجزيرة فقط هو الذي يُسقَى بذلك الماء في الوقت الحاضر، ويُنتِج هذا الثلث ما يَعدِل خُمْسَ القطن الذي يُحْصَد في الدلتا المصرية، ولكن من أصناف مختلفة فيُصَرِّح الخبراء بأن بعضَها أجودُ منه وبأن بعضَها الآخرَ أردأُ منه، وتُؤَدِّي الحرارة اليابسة والمطر المعتدلُ في بدء النموِّ والجَفَاف حين النضج والاقتطاف وتهويةِ الأرض إلى وجودِ تربةٍ ممتازة صالحة لزراعة القطن أكثرَ من صلاح الجزيرة الواقعة بين دجلة والفرات الأوسط، والتي تُنْتِج برِيٍّ مصنوع قطنًا يُعرَف باسم الجزيرة أيضًا. ويَبلُغ محصول الفدان على ضِفة النيل الأزرق في الموسم الجيِّد خمسَمائة رطل إنكليزيٍّ أو أكثرَ من هذا المقدار.
وكانت السنين التي أتت بعد بناء السدِّ بالغةَ الجودة، وأفسدت النقابةُ — التي يحق لها أن تأخذ من الدخل أربعين في المائة — الحكومةَ بجعلها تنال من ذلك خمسةً وثلاثين في المائة، فكان الأمر كما في الزواج الذي تتعود الفتاةُ فيه على الإنفاق الكثير عندما لا تُحْمَل على الحساب. ومما كان يَسُرُّ الأُسَرَ المزارعة البالغَ عددُها عشرين ألفًا — والتي كانت صاحبةً لأملاكٍ فيما مضى — أن تشتريَ آلاتِ خياطة وفُونُوغرافاتٍ بأموال لها تتسرب في إنكلترة بعد اشتراكها في استغلالٍ جمعيٍّ كما في روسية السُّوفيِيتية، وكان ملوك القطن يأتون إلى هنا — إلى داخل أفريقية — ليبتاعوا المحصولَ في محلِّه، وكان كلُّ فدَّانٍ يُعطِي ثلاثين جنيها إنكليزيًّا ربحًا خالصًا، وكان المال الاحتياطيُّ يَزِيد فخصَّت حكومةُ السودان المدارسَ والطرقَ والصحةَ بمليون جنيه في كلِّ سنة.
وقد بلغ الحرص على الإسراع في إعداد أراضٍ للماء غايتَه، وقد بلغ فَقْد اليد العاملة من الشِّدَّة ما صار معه المضاربون الغِضَاب من كسلِ الأهالي يتمنَّوْن إبادة الحمى المعدية للمواشي حَمْلًا للبدويين على الزراعة، وإتلافَ ذُبَاب تسي تسي لقطاع الدِّنْكا إكراهًا لهم على إرسال أولادهم لقطف القطن.
ولسُرْعَان ما أتت سنون شِدَادٌ كما في التوراة؛ ففي سنة ١٩٢٩ — وفيما كانت تُزَاد مساحة الأراضي التابعة للرَّيِّ — هَبَطَت أثمان القطن، وعاد لا يَشتَرِي منه أحدٌ، وصار الفدان لا يعود بغير سبعةِ جنيهات بدلًا من ثلاثين، وأخذ المطر الملائم فيما مضى لا يَنزِل في الوقت المناسب، وغدا غزيرًا، وأُصيب نبات القطن بالمرض واستولى العُشبُ الضارُّ على الحقول، وعمَّت البلادَ أوبئةٌ بعد بناء السدِّ، وكان الحجيجُ الآتون من الغرب قد نَقَلُوا البِلهارْزيا — التي هي مرضٌ فظيعٌ صادرٌ عن نوعٍ من الديدان — إلى سنار قبل إنشاء السدِّ في مديرية دُنقُلة.
وهذا هو الإنذار القاسي الذي سيَرِنُّ في آذاننا بمصرَ مرةً أخرى. أجل، قضت الأزمة العالمية والمطرُ والأوبئة على كل حساب لاح صحيحًا وظَهَرَ صالحًا في بدء الأمر، ولكن لِمَ تُصْدَر مادةٌ أوليةٌ جديدةٌ من بلدٍ لا يستطيع أن يُنْتِجَها إلا إذا حُرِم الحَبَّ الذي كان يُنْبِتُه منذ قرون، والذي كادت الأسدادُ والقَنَوات والآلات وعقول المهندسين تُضَاعِف مقدارَه؟