الفصل الثاني والعشرون
في الخرطوم، حيث ملتقى النهرين الأخوين، نرى الأخَ الأصغر لآخرِ مرةٍ يشتدُّ بجميع سيول الحبشة فينقضُّ على أخيه الأكبر بعنفٍ بالغٍ فيصدُّه ثلاثةَ أشهر، ويَدحَرُه إلى مسافةٍ ما أيضًا، كما كان السوباط قد صنعه به. وهذا الصدُّ الطبيعي ضروريٌّ لمصر؛ وذلك لأن مُعْظَمَ الماء وقت البَرَكَة هنالك يَجرِي إلى البحر من دون أن يُنْتَفَعَ به، ولكن النيل الأبيض يَحفَظ قواه لفصل الشتاء حين تَعطَش مصر فيُعِينُها عند وَهْن أخيه، فبمثل هذا الرَّمْزِ تتجلَّى سجايا كلا النيلين.
وظاهرة الدحر تلك أوحت إلى المهندسين بتحويل حوض النيل الأبيض الطبيعيِّ إلى خزَّانٍ مصنوع كما فُكِّر في أمر بحيرة طانة أو بحيرة ألبرت، وإطالةِ وقوفِ المياه بسدٍّ وتأخيرِ إرسال الماء المدَّخَر إلى مصر حتى فصلِ الربيع حين تكونُ مصر أحوجَ إلى الماء مما في فصل الشتاء ووقايةِ البلاد من مثل الفيضانات التي كانت تُخربها في الغالب، فإذا جُعِلَ الفيضان — هكذا — عنيفًا تارةً وضعيفًا تارةً أخرى يكون قد أسرَع وتأخر وَفْقَ احتياجات البلاد. ويُثِير هذا المشروعُ البادي البساطة — والذي هو من وضع بريطانيين خبيرين — شعورَ جميع المصريين الوطنيين فيقول هؤلاء موكِّدين: إن الإنكليز يَوَدُّون سدَّ النيل في السودان، ويُصَرِّحون بأن ذلك عملٌ شيطانيٌّ يمكن أن يؤديَ آليًّا إلى إهلاك مصرَ عَطَشًا، ويجعل نداءُ الاستغاثة هذا ملايينَ المصريين أعداءً للإنكليز. وتَدُور الانتخابات حول ذلك المشروع، ويُتَّهَم العاهلُ ووزراؤه بخيانة الشعب لسماحهم بإنشاء السدِّ، ولوعدِهم بدفع نفقات بنائه أيضًا، وذلك مع الادِّعاء بأن السدَّ سيكون سلاحًا بيد الإنكليز عند تصادم مصرَ الواقعةِ تحت النفوذ الإنكليزيِّ والسودان الخاضع لإنكلترة.
ويوشِكُ إنشاء خزان جبل الأولياء أن يَتِمَّ على مسافة خمسين كيلومترًا من الخرطوم في المجرى الفوقانيِّ فتَقطَع النيلَ الأبيض دِكَّةٌ كلسية، وسيكمُل بناءُ الخزان في سنة ١٩٣٧ وسيكون مفيدًا لمصر لا ريب. أجل، يمكن أن يكون سلاحًا بين أيدي الإنكليز، ولكن لا لإجاعة مصر. أجل، يُدْرَك قلقُ مَنْ يَرَوْن قُوتَهم اليوميَّ قبضةَ الأجنبيِّ، ولكنَّ قليلَ منطق يكفي لتبديد مخاوفهم. ولنفرضْ أن حربًا — أو شبحَ حربٍ — يَحفِز إنكلترة التي يؤيدها الرأيُ العامُّ إلى اتخاذ هذا الأسلوب الإرهابيِّ المخالف للمزاج الإنكليزيِّ، ولنَفْتَرِضْ أن مصالح إنكلترة في مصرَ لا تَردَعها عن سلوك سبيل الشدة، لنرى أن تأخيرَ الفيضان الربيعيِّ أو تقليلَه لا يضرُّ مصرَ إلا لوقتٍ قصير، وذلك لتعذُّر سدِّ النيل سدًّا تامًّا، ولِمَا يؤدي إليه ذلك من إغراق جميع وادي النيل الأعلى ومن تعذر الزراعة وانتشار الأوبئة فيه.
وفي سنة ١٩٢٦ يَقطَع الوفد المصري — الذي هو حزب مصرَ القوميُّ — كلَّ استعدادٍ لإنشاء خزَّان جبل الأولياء، عملًا بما زَعَمَه مستشاروه من كون تعلية خزان أسوان تؤدي إلى النتيجة نفسها، وإلى جَمْع ما تحتاج إليه مصرُ من الماء حتى فصل الربيع. ومما زاد الوفديين سوءَ ظنٍّ ما بدا من تَشَوُّقِ الإنكليز الذين يَحْلُمُون قبل كلِّ شيء بالفوائد التي ينالونها من إنشاء الخزَّان الجديد والذي لا يُنْكرون نفعَه للسودان، غير أن إنكلترة في جميع اتفاقاتها. وفي اتفاق سنة ١٩٢٩ أيضًا، أَلْزَمَت نفسَها رسميًّا تِجاه المصريين بألَّا تصنع ما يُؤَثِّر في مقدار جَرْي النيل ومستواه ووقتِ فيضانه في مصر.
وكلا الأمرين يحدُث بعد مفاوضاتٍ لا حدَّ لها، فقد زِيدَ ارتفاعُ خزان أسوان وعُمِل بمشروع خزَّان جبل الأولياء الذي يمكنه أن يقوم بوظيفته في جميع أيام السنة من غير أن يَغْمُرَه الغِرْيَن ما دام النيل الأبيض يترك جميعَ غِرْيَنه في المناقع وراءَه. ومن نتائج العمل القائم الآن على ساقٍ وقدمٍ أن يساعَد على ضمان مستقبل مصر.
واليوم يستلزم النيلُ ميزانيةَ دولةٍ تَقِلُّ مواردها ويزيد سكانُها، وتُضْطَرُّ إلى إدخال ما لا غُنْيَةَ لها عنه من الموادِّ الأولية؛ أي من الماء، ولا تستطيع بعمل أبنائها ولا بالضرائب أن تُوَسِّع نِطاق حَرْثِها وزَرْعها.