الفصل الثالث والعشرون
تَمَّ النصرُ للإنسان على النيل في أُسوان، وكان لا بدَّ للإنسان من القيام بعملٍ جَلَلٍ حتى ينالَ ذلك، وكلُّ شيء في ذلك الخزان الفريد في بابه فرعونيٌّ علوًّا واستعمالًا وأثرًا، ولو لَقِيَ نابليون عدوًّا طويلًا كالنيل لحكمنا بهزيمته. والنيلُ ضحية طبيعته كجميع ذوي السجايا العظيمة، ويَنتفِع خزان أُسوان من ضَعف النهر؛ أي من عدم انتظام أهوج النيلين.
كان أحد الفراعنة قد شاد سدَّ بحيرة مُوريس في القرن التاسعَ عشرَ قبل الميلاد فيلوح أنه كان يَجمَع من الماء بمقدار ما يُجْمَع في أُسوان في أواخر القرن التاسعَ عشرَ بعد الميلاد. ويُروَى أن الصين والهند قامتا بأعمال مماثلة في القرون القديمة. نَعَم، يزيد ارتفاع عددٍ من الأسداد على ارتفاع سدِّ أسوان، ولكنك إذا عَدَوْت سَدَّ غاتُن للملاحة في قناة بَنَاما لم تَرَ في العالم سدًّا يمسك من الماء ما يُمسِكه هذا السد. وللأسداد الرائعة التي أنشأها السوفيِيت غَرَضٌ آخر، ولما يتم إنشاء سد باولدِر في الولايات المتحدة، ويُمسِك أهم أسداد سويسرة ١٤٠ مليون متر مكعب، ويمسك السد الإسباني — الذي هو أعظم أسداد أوروبة بعد أسداد الاتحاد السوفييتي — ١٢٠٠ مليون متر مكعب، ويُمسك سد نوريس — الذي هو أعظم الأسداد بأمريكة — ٣٥٠٠ مليون متر مكعب. وأما سدُّ أُسوان فيمسك خمسة مليارات متر مكعب؛ ولذا يُشْعَر بدحره الماءَ حتى وادي حلفا؛ أي على مسافة ٣٦٠ كيلومترًا من المجرى الفوقانيِّ.
وأهداف سد أسوان خاصةٌ خصوصَ أبعاده، ومن الأسداد عددٌ كبير معدٌّ لتوليد الكهربا، أو القوةِ، وتوزيعها، ومن الأسداد عددٌ آخر لتنظيم جريان المياه، وما أُتِي من الأعمال على النيل فلزيادة مِساحة الأراضي الصالحة للزراعة في بلدٍ كان يُفلَح من أراضيه ٣٣ في المائة ثم صار يُفلَح منها ٥٠ في المائة ولحماية ١٥ مليون إنسان ضدَّ مجاعةٍ تؤدي إليها زيادةُ عدد السكان، ويقوم السدُّ بعَمَل فاوست في تَقَمُّص أطراف الصحراء وتحويلِ خمسين ألفَ كيلومترٍ مربع من الأراضي — أي ما يزيد على مساحة سويسرة بأسرها — إلى أطيانٍ خصيبة، ولم يمكن ذلك إلا لأن مصرَ عاطلةٌ من الجيران، ولأن البُقْعَةَ الواقعةَ حول مجرى النهر الفوقانيِّ قبل أسوان قليلةُ السكان، ولأنه يَسهُل تعويض أهل الضِّفَاف. ومما لا ريب فيه أن الماء يغمُر أرضَ وطنٍ لا تُقدَّر بثمن، يَغمُر معبدَ بِلَاقَ الجميلَ.
وفكرة سدِّ أسوان قديمةٌ إلى الغاية، غير أنه لم يقدَّم اقتراحٌ عمليٌّ لإنشائه في سوى القرن الأخير، وليس صاحبُ هذا الاقتراح محترِفًا، ولكنه العبقري الهاوي بيكر الذي أبصر المستقبلَ فأوصى في سنة ١٨٦٧ بإقامته قائلًا بصوتٍ عالٍ: «إن الطبيعة أوجدت دِلْتات، ولا تزال تُوجِد، فلِمَ لا يصنع العِلم من الدِّلتات ما يناسب وسائلَه التي يتصرَّف فيها بإقامته أسدادًا؟» وفي ذلك الحين كان يوجد من الأسداد العصرية القليلة ما لا يَجعَل حل المُعضِلة أمرًا سهلًا، وتبدأ التجربة بإنشاء سَدٍّ على مقياس واسع.
يُسمَع في المكان الذي يَبلُغ النيلُ فيه غايتَه من العرض ضوضاءٌ جديرٌ بعهد الفراعنة، يُسْمَع رجالٌ من شعوب تُمَيَّز ألوانُها تحت شمس قاسية في تلك السماء العاطلة من المطر فتَخرُج من هؤلاء الرجال العراة روائحُ من كلِّ نوع، ويتكلم هؤلاء الرجال بلغاتٍ من كلِّ فرعٍ، ويَعمَل هؤلاء الرجال بدقَّةٍ في إقامة بناءٍ خافٍ عليهم، وذلك وَفْقَ أوامر مَلِكٍ غيرِ منظور مجدِّدٍ مناظرَ بناء الأهرام بعد ثلاثة آلاف سنة. وهؤلاء هم العمال العراة أنفسهم، وهؤلاء هم العُرَفَاء الأشدَّاء أنفسهم، وهذه هي الحجارة العظيمة نفسها، وهذا هو الغرانيتُ نفسه، والفرقُ هو في أن يُؤَدَّى العبيدُ أجورًا بدلًا من القوت، والفرقُ هو في أن تَحمِل الأثقالَ الكبيرةَ آلاتٌ مُدرِكةٌ بدلًا من أكتاف الرجال، ولا تُطَاع أهواء ملك يرى نفسه إلهًا، ولا يَبنِي العبيد المعاصرون ضريحَ مَنْ هو فانٍ مثلَهم، وإنما يسير رجلٌ واحد في سبيل الملايين من الآدميين، وإنما يَتَمَثَّل الرجلُ عملًا يُحمَل به عنصرٌ مسيطرٌ على أمرٍ مُبتَكَر.
ويَعقُب الأهرامَ القاتمةَ القائمة على ضِفاف النيل منذ ألوف السنين — والتي أراد بها قهرَ الموت أكثرُ من عاهلٍ معتزلٍ مبجَّلٍ — عملٌ مملوءٌ حياةً وعهودًا مُعَدٌّ لاقتطاعِ أراضٍ جديدة من الصحراء وجَعْلِ محاصيل الأطيان القديمة ثلاثةَ أمثالها، ومع ذلك يَبدُو منظر العمل الثاني ذا مظهرٍ فرعونيٍّ في بدء الأمر.
وفي صحراء الحَجَر والماء تلك تُسْمَع ذاتَ صباحٍ حركة مِجْدَاف الزورق الأول الآتي — كما في اليوم الأول من التكوين — ليُحِلَّ النظامَ محلَّ الفوضى، وكان ذلك في فصل الربيع، وكان ذلك عند انخفاض المياه إلى أقصى حَدٍّ، وتُدَوِّي من الزورق هتافاتٌ غريبة، تدوِّي منه الكلمات: «باب الحارون! الباب الكبير! الباب الصغير!»
وتُبصِر صفوفًا من القوارب محجوبةً وراء ما أُثْبِت من الحجارة هنالك، محاطةً برجالٍ عُرَاةٍ بارزين من الماء، وتُبصِر مئاتٍ من النوبيين اللابسين جلابيبَ يُخرِجون من هذه القوارب أكياسَ أسمنتٍ ثقيلةً وهم يُغَنُّون بألحانٍ محزنة، وتُبصِر فوجًا من المصريين يرفعون قِضبانًا حديديةً إلى الأعلى، وتبصر زُمرةً من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة يأتون، والعريفُ الحاملُ سَوْطًا يَرقُبُهُم، في سِلالٍ بالفحم الضروريِّ لرافعات الأثقال من الآلات، يأتون بهذا الفحم بعد أن يكون قد نُقِلَ سِتَّ مراتٍ بعد خروجه من نيو كاسل وقبلَ حطِّه في وَسَط النهر هنا.
وتُبْصِر أناسًا من السودانيين يَخبِطون ذرعانَهم لِمَا يعتريهم من بَرْدٍ حتى الساعةِ التاسعة صباحًا، وتبصر بجانبهم مهندسًا أوروبيًّا يروِّح على نفسه لتصبُّبِه عَرَقًا من الساعة الثامنة، وتُبصِر هذا المهندسَ ينظِّم أجهزةَ قياس الزوايا، وتبصر الصبيَّ الأسمرَ المُمْسِكَ له محفظةً يفكِّر في الأحذية الجميلة التي يمكن أن تُصنَع من جلدها، وتبصر مِضَخَّة متينةً تَنْتَشِق رملَ النهر بلا انقطاع على حين ترى رجالًا حُدْبَ الظهور يأتون بأكياسِ الرمل الضروريِّ لصنع الأسمنت، وتُبصر رجالًا آخرين يَثْقُبون الصخور المزعجة المغمورة بالماء لنَسْفِها غيرَ ناظرين حتى إخوانَهم الذين يجيئون بالحجارة المنحوتة، ولو لم يُعْلَم أن عزيمةً مبدعة هي التي تُشْرِف على هذا الاختلاط والاختباط لحُكِمَ بأن ذلك مَجْمَعُ مجانين.
ولا يرى هذا المهندسُ قوسَ قُزَحَ الذي يَرْبِط أمامه ذلك الاختلاط بإنشاء السد، ويريد مهندسُ مساقط الماء هذا أن يَستُر بنوره السحريِّ جميع نتائج حسابه، وفرعونُ الأبيض هذا لا يُبصِر بعينه شيئًا، وإنما يَثِب إلى قاربة الآليِّ ويُشير إلى الشرق بإصبعه، وهو يكون بعد عشر دقائق في مكتبه الصغير الذي تَستُر جُدُرَه المُجَصَّصَة مئاتُ الرسوم الدالة على علاقات كلِّ صخرةٍ بالصخور المجاورة، وهو يَحسُب طاقةَ الركن ويقرِّر أن يفحص قاعدتَه غَوَّاصٌ؛ وذلك لأن تَصَدُّعَه بضغط الماء يؤدي إلى انهيار جميع ما بُنِيَ على ما يحتمل.
ولا ينبغي تبديدُ الوقت، ولا بُدَّ من أن تكون ثمانيةُ أركانٍ في مكانها قبل الفيضان القادم، وذلك وَفْقَ حساباتٍ مُحْكَمَةٍ — إحكامَ ما عند الفراعنة — صادرةٍ عن نَفَرٍ مجتمعين في ذلك المكتب.
ولِسُنَنِ النهر — لا لسنن النور — يَخضَع ذلك العمل المعد لقهر النيل، وبعد غِيَاب الشمس، وبعد دخول عشرة آلاف رجل من مختلفِ الألوان في خيامهم على الشاطئ واستلقائهم على حُصرهم، يَنهَض عشرةُ آلاف رجل غيرُهم في الليل اللامع ويَمُدُّون قسم السدِّ الناقص مستعينين ببَكَرَاتِ اتصالٍ راكبين زوارقَ ونقَّالاتٍ مداومين على عيد العمل ذلك ليلًا.
وفي الأسفل يَصرُخ رجالٌ حين يَجُرُّون قطعة حجر من مجرى النهر الجافِّ في هذا المكان بعد أن أُحيطت بحبالٍ ضِخَامٍ، وذلك كما لو كان يُؤتَى ببقرِ ماءٍ مذبوح لتقطيعه.