الفصل الرابع والعشرون
دامت عَرْبَدَة العمل تلك ثلاثَ سنين في سواءِ النيل، واستمرت أكثرَ من ألفِ نهارٍ وألفِ ليلة لم يَقطَع اتصالَها قطعًا جزئيًّا غيرُ الفيضانات، وفيما تَتَحَوَّل مهالكُ الصخر إلى سَدٍّ مستقيم بين ضوضاء العناصر والآلات والرجال كان مديرو هذا العمل يُقِيمون بأكواخٍ لطيفة جديدة بجانب شغلهم، وتُغرَس بواسطة خَدَمهم السُّودِ بساتينُ رائعةٌ حيث أَتَوْا بالغِرْيَن قبل أن يَغمُر أقلَّ حقلٍ مصريٍّ، وتَتَحَوَّل الصحراء بإِمرَة نِسوَتِهِم إلى غابٍ من غارٍ أبيضَ وورديٍّ، وذلك بمثل السرعة التي يَظهَر بها السدُّ الحجري.
ولم يكن الخزان عند تمامه مرتفعًا بدرجة الكفاية، وتَظهَر مصرُ بأسرِها محتاجةً إلى الماء في فصل الربيع، ويبدو الحوضُ الماردُ قصيرًا، ويُرَى رفع جدارِ الدَّعم في سنة ١٩١٢ — ثم في سنة ١٩٣٣ — إلى ٥٥ مترًا، مع أنه كان مرتفعًا ٤٠ مترًا في بدء الأمر، ويَحسُب وِيلْكُوكْس أن النفقاتِ تكون مليونيْ جنيه بدلًا من ٤٢٠٠٠٠٠ لو قامت الحكومة نفسها بذلك، مقيمًا البيِّنَة ضدَّ الادِّعاء بأن المال الخاصَّ يَعمَل — دومًا — وَفْقَ حسابٍ أوفقَ من حساب الدولة.
وينال السدُّ رَوْعةً بتلك التعلية، وتُدَمَّج الدعائم في الجدار المتصل الأكثرِ ثِخَنًا ويُوَسَّع الجسر فوقه ويكتسب شكلًا جانبيًّا جميلًا بذلك، ويُستَعمَل الغرانيت الوردي الأقلُّ مقاومةً حيث رُئِيَ ضغطُ الماء والهواء أقلَّ شدةً؛ أي في الناحية الشمالية، ويُبصِره الغريب — الذي يأتي من أسوان — ساطعًا من بعيد، وتَسِم الفروقُ غير المرتقبة ذلك الانتظامَ القَسريَّ في تلك الكُتلَة بشيءٍ من المفاجأة، فتُفتَح من اﻟ ١٨٠ كوة مجموعاتٌ رباعيةٌ فتحًا غير منتظم، ويَتَدَفَّق الماء المزبد كأربعة حُصُنٍ مقرونة ثائرة منقَضَّة بعد وَقْع الحوافر على الأرض وراء الرِّتاج، والمهندسُ الجالس في الحُجَيْرة البيضاء بأقصى الغرب من السدِّ هو الذي يَعرِف عددَ الكُوَى — وأيَّ الكوى — التي يجب أن تُفْتَح وسببَ فتحِ هذه الكُوَى دون سواها.
وإذا ما أُغلِق السدُّ بين نوفمبر ويناير لكي يمتلئ بعد الفيضان وَجَبَ أن يُسْهَر على إرسال مقدارٍ من الماء إلى مصر، ويُفْرَغ الماء فيما بين أبريل ويونيو ويجري إلى مصرَ في هذه الأشهر الثلاثة أكثرُ من ستة ملياراتٍ من الأمتار المكعبة، ويَبلُغ العرض والطلب من التوازن ما يُغَيَّر معه عددُ الكوى المفتوحة وارتفاعُ ما يُفْتَح اثنتي عشرةَ مرةً في اليوم الواحد. ومن حسن الحظِّ أن الأبواب تُحَرَّك بدواليبَ موضوعةٍ على السَّدِّ سهلةِ الإدارة فيستطيع صبيٌّ أن يُطلِق الماءَ المضطرب أو أن يسيطر عليه، وتَظَلُّ البحيرة ساكنةً خلف السدِّ مع ذلك، وتحويلُ مستواها وحده هو الذي يُوحِي إلى الرُّوع بما يقع في الجهة الأخرى، وكلما ارتفع الماء غاصَ معبدُ بِلَاق.
وعندما يأتي الفيضان في شهر يوليو يفتح المهندس الكُوَى اﻟ ١٨٠ بأسرِها، ويَهبِط مستوى البحيرة، وتَبرُز أعمدةُ معبد بِلاق من حَمَّامها مع قواعدها الوَحِلة، وترى مصرَ في كل سنةٍ مدينةً لهذا الريِّ المنظم بمحصولين وبثلاثة محاصيل في سبعة ملايينِ فدانٍ على حين يداوم ١٢٠٠٠٠٠ فدانٍ على إعطاء محصولٍ واحد وَفْقَ نظام الرَّيِّ القديم.
والمهندسُ بمصرَ — حين ينهمك في أرقامه وجداوله ورسومه وحساباته — يبدو كمديرِ صندوق توفير يأتيه خَزَنَتُه في كل صباح بقائمة عن الدخل والخرج، وهو يستعين بالبرقيات التسع — التي يأخذها في أول كلِّ نهار عن جريان النيل الأبيض حتى ملاكال وجريان النيل الأرزق حتى الرُّصَيْرِص — في حساب مقدار الماء الذي يَدخُل الحوضَ في كلِّ أربعٍ وعشرين ساعة، وفي حساب الارتفاع الذي يَبلُغُه هذا الماء؛ وذلك لأنه يَعْلَم أن وصول موج النيل من ملاكال إلى أُسوان يَتِمُّ في أربعة وأربعين يومًا، وأن أصحاب المصالح يطالبون — دَوْمًا — مقابلَ رأس المال الذي قدَّمُوه كضرائبَ لإقامة السدِّ.
وترى ذلك المهندس — كمدير صندوق التوفير — تابعًا للقوى القاهرة التي يمكن أن تَقلِب خططه رأسًا على عَقِب، فتجدُ بين سنة ١٩١٣ وسنة ١٩١٨، وفي الأشهر بعينها، فَرْقَ ستين في المائة بين أعلى مستوًى للماء وأدنى مستوًى له. والنيل الأبيض — الذي هو أثبت الأخوين — هو المسئول عن ذلك، وما يأتي به أشرسهما مُزْبِدًا في شهر يوليو فيُوضَع على رُكَب الآلهة.
ولا يزال عاملُ الانتقام في العنصر المقهور كامنًا تحت النيل، ولا ينبغي لليد التي سيطرت على النهر الحافل بالأسرار أن ترتجف، فلا يُعَتِّم النيل أن يَبْدُوَ عنيفًا، فإذا ما أغلق المهندس كُوَى السدِّ بسرعة بعد الفيضان، أو إذا ما أغلق كثيرًا منها دفعةً واحدة، انهارت أرصفةُ النهر وتَدَاعَى ما على هذه الأرصفة من بيوت، وإذا ما كان ماء الأحواض كثيرَ الملح اضطُرَّ الفلاح إلى استعمال السماد كجميع فلَّاحي العالَم الذين ينتظرون ماء السماء من غير أن ينالوا غِرْيَنًا من الأرض، وإذا ما مضى الفيضان وزَرَع نوبيُّ المجرى الأعلى حقلَه بالقرب من الضِّفة وجب أن يَنْمُوَ ما بَذَرَ بسرعة؛ أي قبل أن يعود الماء فيُذهِبه.
ولو أقيم خَزَّان أُسوان في القرون القديمة لعُدَّ من عجائب الدنيا، وهو من عجائب العالم في هذا الزمن أيضًا، ولم يَكَد بضع عشراتٍ من السنين يمضي على نبوءة بيكر حتى أخذت هذه النبوءة تتحقَّق، «فسيأتي زمنٌ يُعجَب فيه العالم بقدرة مصر حيث يَتَمَوج القمح على مَدَى البصر في هذه الصحارى الرملية البائسة، وحيث ترى الجمل وحده يكافح الطبيعة المنهوكة في الوقت الحاضر، وسيُنْعِم الناس — من بعض المرات التي تُرْفَع — نظرَهم في شَبَكةٍ من القَنَوات والأحواض فيتساءلون مدهوشين عن كيفية بقاء قوة هذا النهر مجهولةً طويلَ زمنٍ كما بَقِي منبعُه أمرًا مكتومًا.»
وقد بُلِغَ ذلك الارتفاع في الوقت الحاضر، ففي كل يوم تُبصِر بالطائرة منظرًا تُبصِر بين صحراويْن قطعةَ أرضٍ خضراءَ ضيقةً تتألف مصر منها، والسائح حين يطير فوق السدِّ يشاهد زورقًا قديمًا يَمُرُّ على قناةٍ طويلة في الطرف الغربيِّ خاص بالمِلاحة، فيَذْكر الرسالةَ التي بُلِّغَت إلى فاوْست.
«زورقٌ كبير على القناة»، ولا يراه فاوستُ الأعمى. وأما نحن فإننا نُعْجَب ما ترك لنا الإله قلوبًا تَخفِق وعيونًا ترى، بالنيل القديم وبمغامراته وبقهره وترويضه وبتهدئته كفيلسوفٍ شائبٍ، وجعلِه نصيرًا مساعدًا للذين يزدحمون على ضِفافه محقِّقًا بقُوَاه التي تُدَارَى بحكمةٍ أكثرَ مما يُحَقِّق في أثناء فَتَائه المُتَجَبِّر، ونرى الشِّراعَ المثلثَ الزوايا الذي كان يُتَّخَذ في عهد الفراعنة، وهنا تتلاحق أساطير ستة آلاف سنة وأعمالُها وأقاصيصُها وأفكارها. وهنا — في هذا القسم الأخير من مجراه — يكتسب النهرُ العجيب السائر إلى البحر ألوانَ جميع الأدوار التي جاوزها، وصدى جميع الحضارات التي أوجدها فأَبصر ازدهارَها وموتَها.