الفصل الأول
اعلمْ يا أمير المؤمنين أن مصرَ تربة غبراءُ، وشجرةٌ خضراء، طولُها شهرٌ وعرضها عشرٌ،
يكتنفها جبلٌ أغبر، ورملٌ أعفر، يَخُطُّ وَسَطَها نهرٌ مبارك الغَدَوَات ميمونُ الرَّوْحَات،
يَجرِي بالزيادة والنقصان كجَرْي الشمس والقمر له أوانٌ، يدرُّ حلابه، ويَكثُر عَجاجه،
وتَعظُم أمواجه، فتَفِيض على الجانبيْن، فلا يمكن التخلص من القُرَى بعضها إلى بعضٍ إلا
في
صِغَار المراكب، وخِفَاف القوارب، وزوارقَ كأنهنَّ المَخَايل،
١ أو وُرْق
٢ الأصائل، فإذا تكامل في زيادته نَكَصَ على عَقِبه كأوَّل ما بدأ في جِرْيَته وطَمَا
٣ في درَّته، فعند ذلك تَخرُج مِلَّةٌ محقورة يَحرُثُون بطون الأرض، ويَبذُرون بها
الحَبَّ، يَرجُون بذلك النماء من الرَّبِّ، لَقِيَهم ما سَعَوْا من كَدِّهم، فناله عنهم
أناسٌ
بغير جِدِّهم، فإذا أشرق الزرع وأشرف سقاه النَّدَى، وغَذَّاه من تحته الثَّرَى، فبينما
مصر
يا أميرَ المؤمنين لؤلؤةٌ بيضاء فإذا هي عنبرةٌ سوداء، فإذا هي زُمُرُّدَةٌ خضراء، فإذا
هي
دِيباجةٌ رقشاء، فتبارك الله الخالقُ لِمَا يشاء.
وليس الذي وَصَفَ وادي النيل الأدنى بهذا الوصف الرائع شاعرًا أو جغرافيًّا أو متفنِّنًا
أو
سائحًا، وإنما هو القائدُ العربيُّ عمرو بنُ العاص الذي فَتَحَ مصرَ في القرن السابع
لمولاه
الخليفةِ عمرَ، وهكذا يَصِفُ رجل العمل والعَزْم ذلك البلدَ الذي فيه سر مجده كما لو
كان ذلك
حُلُمًا جميلًا.
ومن الشعراء كثيرٌ يَصِفُون أحدَ البلاد كأنهم فاتحوه، والنيل والشمس هما الإلهان
اللذان
أوجدا مصرَ ويَحفَظَانِها اليوم كما في الماضي، والنيل والشمس هما اللذان وَلَدَا وأخصبا
أخضرَ
واحاتِ العالم طُرًّا، ولكن الإله الشمس هو الذي أبدع النيل، كقول إخناتون: «أنت الذي
خَلَقَ
النيل في أعماق الأرض، وأنت الذي قاده حول الأرض لإطعام الناس حيث تشاء.»
ولا ترى بلدًا أضاءته الشمسُ بمثل تلك القوة، وتمتصُّ الصحراء كلَّ رطوبة فلا تُبْصِر
هنالك
ضَبَابًا ولا طَلًّا،
٤ وكلٌّ من العناصر الأولى — الأرضِ والماءِ والشمسِ — منفصلٌ عن الآخرين انفصالًا
جليًّا، فلا تَغَيُّرَ ولا انتقالَ، والهواء صافٍ خالٍ من الجراثيم، والليل الذي يجيء
بالطَّرَاء إلى دائرتي الانقلاب يأتي به من الصحراء الواسعة إلى هنا، إلى هذه الواحة
التي
تُستَر بالنَّدَى وقتَ الصباح وفي بعض الأحيان.
ولا تُطَبَّق الأحوالُ الجويةُ في البلدان الأخرى على هذه البُقعة الضيِّقة القاطعة
للصحراء
والعاطلة من المطر ومن الشجر والغاب والظلِّ. وعندما نَجِدُ في قبور الملوك، وبالقرب
من الجماجم
ذواتِ الجُبُن المائلة إلى الوراء والتي تَرجِع إلى ما قبل التاريخ عظامًا لبقر الماء
وللذئاب
تَتَمَثَّل لنا غاباتُ نخيل ويَتُوع
٥ حيث كان الإنسان العاري يصطاد الجاموسَ والأسد والضَّبعَ، ثم تَحَوَّلَتْ هذه
الغابات الأبكار إلى سَبْسَب
٦ فإلى سُهْبٍ ثم إلى صحراء، وصار الإنسان بدويًّا أو فلَّاحًا.
بَيْدَ أن تلك المراحل قُطِعَتْ بأسرعَ مما في الأماكن الأخرى، فلم يكن هنالك دور
جليدٍ كما
في أوروبة، وقد تَكَوَّنَ سَهْلٌ، أو صحراءُ ليبية التي يَقطَعها النيل الأول كما تَدُلُّ
عليه
آثار الأنهار التي توارت، وذلك بدلًا من الخليج الكبير الذي كان يُوغِل حتى أُسوان فحكى
عنه
هيرودوتس، ثم تَوَجَّهت الصحراء إلى الشرق، إلى جهةِ الأُخدود الطويل الذي كان البحر
يَغُوصُ
فيه، وكانت أرض شمال أفريقية — حين ظهور الإنسان — ترتفع مقدارًا فمقدارًا كما يُظَنُّ،
فكان
النيل يجري من خلال الخليج القديم، واكتُشِفت رسوم الإنسان الأول وأدواته الحجرية على
الرصيف
الترابيِّ الثاني الذي هو نتيجةُ تَأَكُّلٍ متعاقب، ولم يصبح شمال أفريقية صحراءَ إلا
بعد
ذلك.
وعادت الغابة بعد ذلك غيرَ موجودة لتُلقِي الرُّعْب في قلوب الناس، وعاد الناس لا
يصطادون،
وقد اجتذبهم النهر العجيب وجَمع منهم عددًا كبيرًا بأكثرَ وأبكرَ مما في أيِّ مكانٍ آخرَ
غيرِ
الواحة الأخرى بين دجلة والفرات. ومن المحتمل أن وُلِدَتْ جميع الحضارات في واحاتٍ من
هذا
النوع، وعانى ما بين النهريْن — أو هذه الواحةُ التي هي أوسع من تلك — تحولاتٍ كثيرةً
قامت بها
أممٌ سَكَنَت السهوبَ والجبالَ المجاورة، وتَقَعُ مصر بين بحرين وثلاثِ قارَّات من دون
أن يكون
لها جارٌ سوى الصحراء والبحر، وظَهَرَت حضارتُها من صميم الأزَل ذي الصفاء والجمال الكِلَاسِيِّ،
٧ ومَنَّ الجوُّ عليها بالصحة والثَّرَاء والسعادة.
وإذا كان أنبياء ما بعد الطبيعة الثلاثة ظهروا في صحراءِ بلاد العرب بعد حينٍ فإن
غِرْيَنَ
النيل الرَّزِين أسفَرَ عن دينٍ عينيٍّ مقتبَسٍ من الحياة راجعٍ إلى الموت بَشَرِيٍّ
خالص،
وتبدو عادات المصريين الأولى واضحةً صافيةً صفاءَ هواءِ بلدهم، وتعيَّن شِيَمُهم منذ
ثلاثة آلاف
سنة قبل الميلاد بضِيق المكان الذي يَحمِلُهم على الحياة مزدحمين تابعًا بعضُهم لبعضٍ
غيرَ
قادرين على العَيْشِ منفردين.
وداوم بيض الشمال البعيد وراء البحر وسُودُ الجنوب البعيد عند منبع النهر — في ألوف
السنين،
وفي غاباتهم الكثيرة المطر — على العيش كالهَمَج وعلى التذابح والفوضى القائلة بقانون
الأقوى،
ومع ذلك أكره النهر في هذه الواحة شعبًا كثيرَ العدد على العيش معًا، وعلى الانقسام إلى
فلاحين
وصيادين ومحترفين وكاتبين. والإقليمُ وحدَه هو الذي عَلَّمَ الأعقاب ماذا كان أولئك يعلمون؛
وذلك لأن القبورَ والبرديَّ اللذيْن أداما تاريخَ مصر قاوما القرونَ بفضل جَفَاف الصحراء،
ونحن
إذا ما أمسكنا جمجمةَ رَمسيسَ الثالثِ السليمةَ بأيدينا عَلِمنا بها ماذا كان صاحبُها
يَعْمَل
وفيم كان يفكِّر.