الفصل الثالث
تلك المسألة موضع جدلٍ لدى العلماء، فلا يَجِدون لها حلًّا، ولا شيء أكثر عُقمًا من إثارة مسألة العروق في مصر حيث تُحَوِّل الطبيعة والجو المتجبِّر كلَّ من يَدنُو من النيل. ويُثبِت سِيفْرِه أن السِّلْتِيِّين كانوا أولَ الغزاة، ويَرُدُّ فُولْنِه ذلك بأن أولئك من الزنوج، ويَرَى فِينكِلْمِن أنهم من الصينيين، ويَجِدُهم جُونِس من البُولِينِيزِيِّين، ويُجَهِّل بِيتْري جميعَ هؤلاء ويقول موكِّدًا: إن أولئك من الأحباش، ويَسخَر رُوجِه من تلك الآراء كلِّها ويقرِّر أن أولئك من البابليين.
ومن الطبيعي أن وُجِدَتْ في النيل الأعلى هياكلُ عظميةٌ لزنوجٍ وأن وُجِدَتْ في النيل الأدنى هياكل عظميةٌ لآسيويين. وإذا كان قد وجد في أقدم القبور قَمْحٌ مفحَّمٌ وقِضبانُ كَرْمٍ فإن من الموكَّد أن تكون هذه القضبان — ومن المحتمل أن تكون الحبوب — قد جاءت من شواطئ الفرات. وإذا كان ذو الرأس الكَبشِيِّ أمونُ قد وُجِدَ مرسومًا في الصخور الأفريقية فلِمَ لَمْ يَعِنَّ للأمم المجاورة الكثيرة أن تَمزُجَ الحيوانَ بالإله، ولِمَ لَمْ يفكِّر الفلَّاح الأول على النيل في رسم خطٍّ بالعَصَا على الأرضِ ذاتِ الغِريَن الناعم فيخترعَ المحراثَ على هذا الوجه؟
أجل، عَرَفَ المصريون أن يَشِيدُوا مبانيَ وأن ينحتوا حجارةً من غير أن يعلِّمهم ذلك أجنبيٌّ، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن أولَ صنمٍ مصريٍّ كان إلهةً لها جسمُ بقر الماء.
والنيل لدى أولئك القوم مقياسُ كلِّ شيء في كلِّ زمن، سواءٌ أكان ذلك منذ ستة آلاف سنة أم في الوقت الحاضر، وعند أحد الفراعنة أن المَجدَ من عناصر حياة الخلود فَصَرَخ قائلًا: «يمكن الناسَ أن يقولوا عني ذاتَ يومٍ إنه كان نيلًا!» وعلى مَنْ يَمثُل بين يَدَيْ أُورِيرِس وقضاةِ الموت أن يُبَرِّئَ نفسه مع اليمين من الكبائر الأربع والأربعين فيقول عن إحداها: «إنني لم أُلَوِّثْ ماءَ النيل ولم أَحْبِسْه عن الجريان في موسمه ولم أَسُدَّ قناةً.»
وحُقِّقَ ذلك بما هو أعمقُ عن روحٍ شعريةٍ، ويَستعمل أوميروس ضميرَ المذكَّر للنيل وضميرَ المؤنَّث لمصر، ويَرمُزُ هذا الفرق النحويُّ إلى مصر. ولم تكن التماثيل التي جَعَلَ النحَّاتون بها من النيل رجلًا منتفخًا بطينًا ذا ثَدْيٍ، ولم تكن الأناشيدُ المصرية، ولم تكن الصُّوَرُ الرائعة التي رَسَمَها من ظَهَرَ من المصوِّرين في تاريخٍ متأخر، لتُعَبِّر عن الأسطورة بمثل الكلمة التي صَدَرَت عن ذلك الإغريقيِّ الأجنبيِّ المُدرِك لِمَا في النهر من قوةٍ مولَّدة قبل هيرودوتس بأربعة قرون.
وقد حَدَّد نيلُ النوبة — ويختلف عن نيلِ مصرَ بشلالاته الستِّ المكوَّنَة من الغرانيت والحجر الرمليِّ الصوَّانيِّ — أمورَ الريِّ والزراعة تحديدًا لم تكن الفِلاحة معه لتمتدَّ في ١٢٠٠ كيلومتر على غير كيلومترين أو ثلاثة كيلومتراتٍ من العرض، ويُسَيْطِر الكِلْسُ الصَّدَفِيُّ تحت أُسوان حيث تَبدَأ مصرُ جيولوجيًّا، فيَحفِر النيلُ مجراه العريضَ في هذه الأرض اللَّيِّنَة ويستطيع في نهاية الأمر أن يَخزُن هنا ما يَجُرُّه من غِرْيَن في ألوف الكيلومترات، وهكذا يتكوَّن بلدٌ خصيب أوسع مما في السودان خمسَ عشرةَ مرة. والآن ترى الواديَ البالغَ الضيق وغيرَ الموجود في الغالب بين وادي حلفا وأُسوان يمتدُّ مع اتساع يَستُر ما بين عشرة كيلومترات وخمسةٍ وعشرين كيلومترًا، ولو كان طوله مناسبًا لعرضه بدلًا من أن يبلُغ ألف كيلومتر لظَهَرَت واحةٌ كبيرة في الصحراء.
ومع ذلك تَفصِل خطوةٌ واحدة ما بين الحقل الأخضر والصحراء ذات اللون الأصفر، وَمَنْ يُشَاهِد هذا المنظرَ من الطائرة المتجهة إلى الشمال لا يكاد يصدِّق أنه من الحقائق، وإنما يخيَّل إليه وجودُ خريطةٍ تحت قدميه دالَّةٍ على الوجه الذي يتغلَّب به الماء على الرمل والذكاءُ على الماء، وعلى الوجه الذي ينتصران به على الشمس.