الفصل السادس
يلتقي نظاما منابع النيل، ويجتمع كلُّ شيء في الزاوية الشمالية من بحيرة ألبرت لتقوية
تدفُّق النهر الشاب الذي يُجهَل طوله حتى الآن، وقد قامت الأنهار بدورات طويلة وجابت
١ أضواجًا
٢ غيرَ قليلة، ما دامت المسافة برًّا قصيرةً من منبع النهر إلى مصبِّه في أوغندة، وهي
٢٥٠ كيلومترًا في بلد ذي وادٍ مُجوَّفٍ على طريق صالح يُقطع بسرعة، وبين البحيرتين يتَّجِه
نيل
فيكتورية من الجنوب الشرقيِّ إلى الشمال الغربيِّ، وتَجْرِي في جهةٍ واحدة سواعد اليمين
الثلاث
المهمة التي تلاقيه بعد مسافة وفي فَتَرَاتٍ طويلة، وذلك كالأولاد الذين يُقلِّدون خُطى
أبيهم
الأولى من دون أن يستطيعوا مسايرة أدوار مصيره الكثيرة فيما بعد.
وبحيرةُ ألبرت التي هي أصغر من بحيرة فيكتورية، وأكبرُ ثمانيَ مراتٍ من بحيرة كُونْستانْس،
٣ مستودعٌ للأنهار القصيرة والطويلة التي تَصدُر عن ثلوج جِبال القمر وأمطارها، وهي
تُغَذِّي النيل وتملأ الحفرة بين الدرجة الأولى والدرجة الثانية من العرض الشمالي، وتمتد
الجبال
على جانبيها، وتُعَدُّ حدًّا للحيوانات باتساعها وطولها فيعجز معظم أنواع الجراد عن مجاوزتها،
حتى إن الزنوج يسمونها بلغتهم الزاهية «لوتانزيغا»؛ أي «الضياء الذي يقتل الجراد».
وقال أحد ملوك الزنوج لبعض السياح: «يُمكِن رُوحَ البحيرة أن تثير الرياح الهائلة
عليكم
وتقلب جميع زوارقكم.» وألقى الزنوج فيها دجاجًا وخَرَزًا بحضرة الملك تسكينًا لها، ويَحِيق
الخطر بكل شيء ما كان هنالك مرفأ واحدٌ فقط وما دام يسافَر في قوارب صغيرةٍ أو على أرماث
٤ غريبة مصنوعة من سُوق البردي وما دامت الزوابع والأعاصير تهبُّ بغتةً، وبالعكس
تُنعِم روحُ البحيرة على سكان شواطئها بمقاديرَ كبيرةٍ من الأسماك التي تدفعها العواصف
إلى
الشاطئ فتُؤخَذُ بحبال طويلة أو في سلال، ويُذكَر في كلِّ حديث يقع بينكم وبينهم خبرٌ
عن سمكٍ
نهريٍّ عظيم وُجِد هنالك من قِبَل أجدادهم، ونبأٌ أكبر من ذلك عن الملح.
وماء بحيرة فيكتورية — هذا البحر الداخلي — عذبٌ، وماء بحيرة ألبرت ملحٌ، وملح هذه
البحيرة
رزقٌ لمعظم زنوج تلك البقعة، ولا تَصِلُ أيديهم إلى الكلأ الطويل الذي يَحْبُكون به بيوتهم،
فيضطرون إلى ابتياعه من بعيد بذلك الملح الذي يستعمله في أغذيته نصف أوغندة كما تستعمله
القبائل
الأخرى وداخلُ الكونغو البَلجِيَّة حيث يُفتَقَر إليه، ويرسُب ذلك الملح في البحيرة فلا
يحتوي
النيل عند خروجه على شيء منه تقريبًا، ولهذه الظاهرة شأنها في ألوف الكيلومترات من المجرى
التحتانيِّ، ولهذه الظاهرة خَطَرُها حتى لمصر، وهكذا يُشعَر في المشيب، عن قَدَرٍ، بنتائج
مغامرات الشباب، وهكذا تُبصِر الملحَ العقيم عامل حياةٍ في الجبال التي تَحُول الحواجزُ
الوعرة
دون زراعة الحبوب فيها، ولكن الرجال لا يُبدُون حراكًا في جمعه، والنساء هن اللائي يفعلن
كلَّ
شيء.
وذلك قِدْرُ ساحر، وفي أقصى شمال البحيرة الشرقي، وفي المضايق العميقة، وبين الصخور
وكِسَر
الحجارة التي يُحِسُّ الرجل الأبيض حرارَتَها من خلال نعل حذائه، تنبعث أبخرةٌ كبريتية
محرقة
خانقةٌ وتنبجس من تلك التجاويف مياهٌ حارَّةٌ مالحة إلى الغاية رائقةٌ، وفي ذلك الجو
تشاهد
نساءً عارياتٍ عُرْيًا تامًّا يرفعن جُدُرًا صغيرة من طين، ومن بين هذه الجُدُر وفي قنواتٍ
ضيقة
يوجِّهن الطين المالح، وبين هذه الجدر التي توحي بمنظر قريةٍ خَرِبةٍ، والتي تفصل بعض
مختلف
المنافع عن بعضٍ يجلس النساء والأولاد القُرفُصاء ويجرفون الطين الذي يرسب من الماء بقطعٍ
من
حديد، ويلتقطونه أو يقطِّرونه بحسب الحال في جَوَابٍ
٥ من صلصال،
٦ والحذق كلُّ الحذق في مَزْج التراب والماء مزجًا مناسبًا، وإذا ما برَّد المطرُ
الترابَ ذهب الملح، والمطر أشدُّ ما يخشونه كما أن الغيث أكثر ما يرجوه إخوانهم، ولتلك
المادة
التي يستخرجونها من الماء قيمةٌ كالتي تكون لِمَا يناله غيرهم في مياهٍ أخرى بالرَّحْض،
٧ والواقع أن الملح هو ذَهَبُهُم.
ويحزِم الرجال تلك السلعة الرمادية المرَّة في أوراقٍ من شجر الموز ويضعونها في غُلْفٍ
طويلة ضيقة مصنوعة من سيقان الخَيْزُران ويحملونها على ظهورهم كأنها زوارق نيليةٌ مصغرة،
ثم
يسيرون أيامًا بأسرها عُرَاةً مع حصيرٍ للنوم وقَرْعٍ
٨ مملوءٍ ماءً حتى يَنْتَهُوا إلى الأسواق التي يَزِنُ الملحَ فيها إخوانٌ لهم
ويعطونهم عِوَضًا منها ذخائرهم من البرديِّ والحبوب والخَرَز والرِّماح والجلود، وغايةُ
القول
أنهم يُقَايِضون الملح الذي يَحُكُّه نساؤهم وأولادهم على أرض بلادهم بين الأبخِرة الخانقة
بما
يحتاجون إليه في سَكَنِهم ولباسهم وغذائهم وزينتهم وصيدهم، وهكذا يقوم بذلك العمل الطريف
الذي
يَلُوح أنه عريقٌ في القِدَم أناسٌ لم يسمعوا شيئًا عن استغلال المناجم، وذلك في بقعة
لم تطأها
قدم إنسانٍ أبيض منذ مائة سنة.
ويعيش شعبٌ بالقرب من هنالك، وهو شعبٌ أطرف وأقدم من ذلك، وهو شعبٌ وحيدٌ في أصله
وقِصَر
قامته، ويسكن هؤلاء الأقزام أحدَ سفوح جبال القمر، والآن ترانا أمام هذا الشعب الأفريقيِّ
الذي
ظلَّ حيث هو منذ أقدم الأزمان، ويروي أرسطو مؤكدًا أن ذلك ليس من الأساطير، ويوري أرسطو
أن
أقزامًا يسكنون كهوفًا هنالك، وليس في رواية أرسطو من الأسطوري سوى ما عُزي إلى أولئك
القوم من
حيازة أفراسٍ صغيرة، ويلوح أن الأقزام هاجروا إلى السُّهُوب المرتفعة من أفريقية الجنوبية
في
غضون القرون.
فلما أخذ الزنوجُ يَفْلَحون المروج دُحِرَ أولئك إلى الآجام عن ضَعْفٍ، وهنالك داوموا
على
التجمع في غابة الكونغو البِكر موسِّعين رقعة أراضيهم إلى أن انتصب لهم زنوج البانتو
الذين هم
قومٌ طوال فردُّوهم مجددًا، وهكذا ترى الأقزام ويُدعَوْن بالباكوا على العموم، وهكذا
ترى
الأقزام وهم قومٌ عُنُدٌ ولكن حَذَرٍ ومَزْرُوبُون ولكن مع مناعة، يُعمِّرون أكثر من
العروق
المسيطرة التي لا يختلطون بها إلا نادرًا، وللأقزام تعيينٌ لسجيَّتهم بأجسامهم ومصيرهم،
وهم من
كل ناحيةٍ يشابهون الغيلان والعفاريت الذين وَرَدَ ذكرهم في أقاصيص الشمال والذين خرجوا
أيضًا
من أصلاب أقزامٍ وجدوا في الحقيقة فعُثِر في أوروبة على عظامٍ لهم تَرجِع في القِدَم
إلى العصر
الحجري.
وليس أولئك الأقزام من الملاح، ولكن ليس فيهم ما يُثِير السخرية، ويبلغ طول أجسامهم
الشُّعْرِ
٩ الكَسْتنائية اللون أو الضاربة إلى صفرةٍ مترًا و٣٠ سنتيمترًا، ولهم بطونٌ باجرة
١٠ وسررٌ كالأزرار ووجوهٌ متهارمةٌ كامدة فاهمة يحيط بها شعرٌ كثيف، وللرجال منهم لحًى
طويلةٌ، ولهم عيونٌ لَوْزية وأفواهٌ كبيرة ذات شفاه رقيقة، ويتصفون بالصمت والترصد وبما
ليس
خاصًّا بالزنوج من عدم الثرثرة وعدم الفضول، ومما يَمِيزهم من العروق المجاورة ما في
وَضْعِهم
من ذكاء وحياء يذكِّر بما عند القردة الكبيرة، وهم إذا ما أُبصِروا في السوق عُراةً يحترزون
من
السود والبيض على السواء، وأُبصِرَت نساؤهم لابساتٍ ثيابًا طفيفةً من قِشْر الشجر مع
إقدام
وجَفَاءٍ وهمجية، وجدت فيهم صفات العفاريت، وهم ألِبَّاء مُدَاجون وقساةٌ نُصَرَاء وعاطفيون
عِطَاشٌ إلى الانتقام وحاقدون شاكرون، والشِّيبُ وحدهم هم الذين يحملون منهم سماتِ الألم،
والشيب هم الذين يعرفون أن كل شيء كان باطلًا.
ولا يكادون يتحولون في مصارعتهم شعوبًا تنظر إليهم من عَلٍ وتزدريهم كما يزدري الرجل
الفطري
من هو أصغر منه، ولا سيما في سواء تلك المنطقة الكثيرة السكان، وكان كل إنسان حولهم يعتمد
على
الماشية والحبوب في معاشه، وكان الصيد عِيدًا كالحرب، وهم لقِصَرهم — نتيجةً لملاءمة
بيئاتهم مع
القرون — اضطروا إلى الاعتصام بالغابة البكر فغدوا عفاريت بين الحيوانات الابتدائية وصاروا
من
الصائدين، وهم قد عاشوا بدويين في زِرَابٍ
١١ صغيرة محبوكة بسرعة، وفي مخابئ يتعذَّر العثور عليها، فيتجنبها البانتوي الزنجي
الخرافي على أنها مأوى الأقزام، ويحافظ الأقزام على نارٍ لا يعرفون إيقادَها، ويجهل إخوانهم
من
أهل جبل إلغون وجودَ النار، ويشوي الأقزام اللحم والطَّلْح،
١٢ ويُتقِنون صنع الأباريق والسلال، ويأكلون أكثر مما تأكل الشعوب الأخرى، ولكن من
الحيوانات التي يذبحونها ومن الخنازير البرية والغِزلان والفئران والجراد والسمك والأفاعي،
وهم
لذلك، يَبرُدُون ثناياهم
١٣ وأنيابَهم العليا فيُذرِّبونها.
١٤
ويعيش أولئك الأقزام في أكواخهم الصغيرة عيشًا بسيطًا غريبًا، ويندر أن يشاطرهم أكواخَهم
آخرون، والأقزام يدخلونها زَحْفًا من ثقوب كخُرُوق الفئران، ونساء الأقزام — دومًا —
عارياتٌ
عاطلاتٌ من الحلي والقلائد والوشم، وليس لدى الأقزام أي معتقدٍ كان كمعظم جيرانهم، وليس
عندهم
رؤساء، ولأحسنِ الصائدين منهم بضعة امتيازاتٍ في بعض الأحيان، وهم لا يَرضَون بشيء قد
يُوجِد
شركةً أو حالًا، وكل واحد منهم يعيش منفردًا مع بعض نسوة، وتراهم يَحمِلون عطفًا مرموقًا
نحو
أولادهم، ولا يضع النساء أولادَهنَّ في الأكواخ، بل في الغابة وحدهن، وهنَّ يقطعن الحبل
السري
بأسنانهن كما تصنع الحيوانات.
وإذ ليس عند الأقزام مثل ما عند جيرانهم من دواجنَ وخُضَر وزراعة فإنهم لا يجتمعون
إليهم
إلا في عيد أو بعد صيدٍ كبير، والأقزام أمرح من زنوج تلك البقعة وأكثر وَلَعًا بالموسيقى،
وهم
يغنون فرقًا وأفرادًا، وهم يضحكون ويأتون بالأقاصيص، وهم يشربون قليلًا ويتخذون أوضاعًا
لا غبار
عليها، والتبغ والسَّعُوط كلاهما مَدَار شغفهم الوحيد.
وهم — كأقزام الشمال — سُرَّاقٌ شاكرون، فإذا ما جَنَّ
١٥ الليل وخَرَجوا لسرقة الموز، والموز طعامهم المفضَّل الذي لا يحوزونه في الغابة،
وضعوا في الغالب قطعةً من صيدهم
١٦ تحت الشجرة المسلوبة، ومما يحدث أحيانًا أن يُعوِّضوا الرجل المسروق ماله بأغربَ من
ذلك، وذلك بأن يدخلوا حقله في أثناء رقاده فيطهِّروه من الكلأ الرديء، أو أن ينصبوا مِصيَدًا
قد
يقع فيه حيوان فيأخذه، أو أن يطردوا القرود من بين أشجار موزه، ومما يَحدُث أيضًا أن
يخطف هؤلاء
النَّوَر الخبثاء من شباه القردة زنجيًّا صبيًّا وأن يضعوا أحد صغارهم بدلًا منه لأمه
الزنجية
العواءة.
والفيل هو محل ميلهم وهدف طمعهم، والفيل — الذي هو أضخم الحيوانات — هو ضحية أناسٍ
صغار
يستفيدون من قِصَر قاماتهم فيصطادونه مشتركين، وينساب أحدهم تحت الفيل مسلحًا بحرابٍ
حادةٍ،
والفيل هو من شدة ضعف البصر ما يعجز معه عن رؤيته وإصابته بخرطومه، ويُغلَب الفيل بذلك
الهجوم
الغادر، ويرابط الأقزام حوله حتى يُلتَهَم تمامًا، وينتفعون بعاجه في ابتياع ما يحتاجون
إليه،
ويُبدون مكر الأقزام في صيد السمك كذلك، فهم يَسُدُّون الجداول ويُنشِئون قنواتٍ صغيرةً
يجري
الماء إليها فيمسكون السمكَ المكافح بأيديهم.
وهكذا صار أولئك الصائدون الصغار مقاتلين وأَقْيانًا
١٧ كبارًا، ويحتقرهم إخوانهم الكبار، ويسخرون من هؤلاء «الرجال ذوي اللِّحى الطويلة»،
وهم يضطرون — مع ذلك — إلى الاشتراء منهم مزاريق مُطَرَّقَةً
١٨ في الغاب وأسنَّةَ حِرَابٍ وأسورةً من حديد لنسائهم، وتستخدمهم القبائل المسيطرة في
محاربة أعدائها، وإذا ما أضحى هؤلاء الأقزام مشاورين لرئيسٍ تَغَلَّبَ شكرهم على غدرهم،
وارتبطوا بعطفٍ ثابت، خاصٍّ بالشعوب المضطهدة منذ زمنٍ طويل، فيمن يُحسِن معاملتهم
لاستغلالهم.
ومن هم هؤلاء البانتو الذين هم على خلافٍ دائم مع الأقزام؟ ومن هم سادة تلك البلاد؟