الفصل الخامس
اليوم تَرَى العنصر مقهورًا، وسيحدِّثنا النهر عن معنى ذلك، وفي السنين الثلاثين الأخيرة يُحَوِّل سد أُسوانَ وتُحَوِّل أسدادٌ أربعة أخرى في مجرى النهر التحتانيِّ نظامَ الري الألفي المصري للمرة الأولى، ويُوجِبُ تحويلُ مِنطقة حبوبٍ إلى منطقة قطنٍ نظامَ قَنَوَاتٍ يوزَّع به الماء في العام كلِّه توزيعًا يُسْقَى به البلد على الدوام، ويُسْعَى مع ذلك في إخصاب أراضٍ بعيدةٍ واقعةٍ عند حدود الصحراء.
وهكذا يُسفِر الفنُّ العصريُّ عن أمرين مختلفين أشدَّ الاختلاف، وأولُ الأمرين هو تعبيد إحدى قُوَى الطبيعة، وذلك بأن يُحْبَس في أحواضٍ فيضانٌ ما فَتِئَ منذ أقدم الأزمنة ينتشر مُصَاوِلًا في كلِّ صيف حتى يَنْزوِي، ويُجْعَلُ من مغامرٍ كائنًا رزينًا مقتصدًا، ويُحرَم العالَمُ منظرًا مؤثرًا ليُعطَى بضعةَ ملايينَ من أطنان القطن زيادةً على ما كان يُعطَى، وكان مقدار القطن يَكفي الجميعَ كما هو الأمر قَبْل ذلك، وليس ما وَقَعَ غيرَ شعوذةٍ ينتقل بها المحصول من يدٍ إلى أخرى، غيرَ خُدْعَةٍ يَمُرُّ بها القطن من أيدي الأمريكيين إلى يد الأنْغُلومصريين.
وانظُرْ إلى الأرقام تَجِدْ أن المزروعَ في الوقت الحاضر هو ٢٢٠٠٠ كيلومتر مربع من ٣٠٠٠٠ كيلومتر مربع، وأن ٨٠٠٠ كيلومتر مربع سيُزرَع قريبًا، وأن ٣٠٠٠ كيلومتر مربع هي من منطقة الريِّ الجديد في مصرَ العليا، فإذا ما انقضى ثلاثون عامًا بُلِغَ الحدُّ من الأراضي الصالحة للزراعة بمصرَ، ولكن مصرَ تكون قد بَلَغَت من السكان في ذلك الحين ما بين اﻟ ١٨ واﻟ ٢٠ من الملايين. والآن يُعْطِي سبعون في المائة من الأراضي التي تُزْرَع بمصرَ محصولين أو ثلاثةَ محاصيلَ سنويًّا، ويُطَبَّقُ نظامُ الريِّ وَفْقَ مقتضى الأحواض في مجرى النهر الفوقانيِّ قبل أسيوط كما في الماضي؛ أي في النصف الأول من مجرى النيل بمصرَ؛ أي على الرُّبْع من مجموع الأراضي الصالحة للفِلاحة فقط، وذلك بعد النظر إلى ضِيقِ الوادي.
ولنذكر من أين يأتي الماء، ففي الصيف — بين فبراير وأغسطس — يكون النيل الأبيض بالغَ القوةِ، فيأتي بثمانين في المائة من الماء محتمِلًا العِبْءَ، ويهبط ما يجيء به النيل الأزرق إلى خمسة في المائة من الماء في بعض السنين، فإذا حلَّ زمن الفيضان قُلِبَت النسبة تقريبًا. والأرقام تقريبيةٌ مع ذلك فتُصَنَّفُ سنواتُ انخفاضِ الماء عادةً هكذا: (١٧٨١–١٧٩٧، ١٨٩٩–١٩١٥)، ويترجح مقدارُ الماء الذي يَمُرُّ من خزَّان أسوان بين ٤١ مليار متر مكعب و١٣٨ مليار متر مكعب. ولولا خزَّانُ أسوان لأسفرت سنةٌ سيئة كسنة ١٩١٣ عن مجاعةٍ في مصرَ، ومحصولُ القطن وحدَه هو الذي أصابه الضُّرُّ في تلك السنة.
ولا تُبصِر في أيام السَّلْم على الأقل سَدًّا يُرَى إنشاؤُه في النيل الأعلى مهدِّدًا لمصر، وقد أثبتنا في جزءٍ آخرَ أن من الأساطير التي تُزعَم قدرةُ إنكلترة على إغلاق الكُوَى وإماتةِ مصرَ جوعًا، ومع ذلك نَجِدُ أن الفيضانات هي من التغيُّر ما يُمكِن الأسدادَ في حال الحرب أن تكون به أداةَ ضغطٍ بيدِ الإنكليز، ومن السهل أن يُرْفَعَ مستوى المياه التي يَحبِسُها سَدُّ بحيرة ألبِرت الأعلى مترًا واحدًا، فتُمسَكَ بذلك خمسةُ ملياراتِ مترٍ مكعَّب. وبما أن معدَّل ضَياع الماء في المناقع ثمانيةَ عشرَ مليارَ مترٍ مكعب وَجَبَ إنشاء القناة التي تكلَّمْنا عنها آنفًا، ففي هذه الحال يَصِلُ الماء من بحيرة ألبرت إلى أُسوان في خمسةٍ وخمسين يومًا.
ويقال إن من شأن خَزَّان جبل الأولياء الذي يُقام في مجرى النهر الفوقانيِّ قُبَيْلَ الخرطوم أن يَقِيَ مصرَ خَطَرَ الطوفان، ومن شأن السدِّ الذي رُسِمَ مشروعُ إنشائه منذ خمسَ عشرةَ سنةً في بحيرة طانة أن يُمْسِك من الماء أكثرَ مما تُمْسِك بحيرةُ ألبرت؛ أي يُمْسِك سبعةَ مليارات متر مكعب فتَسقِي ثلاثةُ ملياراتٍ منها قطنَ الجزيرة على حين يَبقَى أربعةُ ملياراتٍ احتياطًا لِمَا لا يُنْتَظَر من الماء في السنين ذواتِ الكوارث، فهنالك يُفرَّغ الحوضُ من غير أن تَخْسَرَ مصر قَطْرَةَ ماءٍ؛ وذلك لأن مياه النيل الأزرق التي تَنْصَبُّ في النيل الأبيض بالخرطوم تَتَجَمَّع في المجرى التحتانيِّ بعد بحيرة طانة بمسافةٍ بعيدة وعند الحدِّ بين الحَبَشَة والسودان.
ولا يَزرَع الفلاحُ غيرَ ما يستطيع سقيَه بنفسه، وهو يَزرَع من البِرْسِيم لماشيته ما يَسقِيه ثمانيَ مراتٍ وما يَحُشُّه ستَّ مراتٍ في السنة، وهو يَزرَع بَصَلًا وفولًا وذُرَةً وخُضَرًا، وبُرًّا يَبذُرُه في الغِرْيَن في شهر أكتوبر ويَسقِيه ثلاثَ مراتٍ فقط ليعطيه في شهر أبريل ما يحتاج إليه من الخُبْزِ هو وأولاده.
ويُنبِت النيل، في تلك الأرض الضيقة الواقعة على المجرى الفوقانيِّ قبل أسيوط، مثلَ الحبوب التي كانت في عهد الفراعنة بفضل الأحواض والنواعير بعينها، ويُخصَّص ثلثُ ما بين أسيوط والقاهرة من أراضٍ للقطن، ويتوقَّف كلُّ شيءٍ على الأسداد، ويَنبُت أقلُّ بصل للفلاح بإشراف مهندسي أسوان.
ومن نتائج إنشاء خزان أسوان أن أسفرت زراعةُ القطن في مصر العليا عن ارتفاع قيمة الأرض بنحو ١٨٠٠ جنيه لكل كيلومتر مربع، وأن اشتدَّت كثافة السكان فصار كلُّ كيلومتر مربع يشتمل على مائةٍ من الناس زيادةً على ما في أيِّ مكان آخر، وأن كانت هذه الزيادة على حَسَب خواصِّ الأرض، ويؤدِّي ارتفاع ثَمَن كلِّ قِطعةِ أرض جنيهين إلى تأسيس أُسرة إضافية. وهكذا يبدو أثرُ خَزَّان أسوانَ على مسافة أربعمائة كيلومتر من المجرى التحتانيِّ.
ومن أطرَف نتائج إقامة الأسداد هو الخوفُ من غزارة الفيضانات. ومما يَحدُث منذ عهد الفراعنة حتى هذه الأيام — وفي بعض الأحيان — أن تُجاوِز الفيضانات الحدَّ، ولكن هذا هو من النُّدْرَة ما لا ينفكُّ الناس معه يَدْعُون الآلهة أن تجعل الفيضان قويًّا جدًّا. واليوم يُخْشَى أن يؤديَ الفيضان إلى خراب السدِّ؛ ومن ثم ترى الجيلَ الذي قَهَرَ العنصر يخاف انهدامَ ما بَنَى، فهو في هذا كالطاغية الذي يخاف الثورة.
وكما أن الغِنَى يزيد الإنسان بُخْلًا وتعطُّشًا إلى الذهب تَرَى كِبَار المالكين يتوجَّعُون دومًا من قلةٍ في الماء كان أجدادُهم يعانونها أشهرًا بأسرها، وترى الباشا في القاهرة يُوَكِّد ضرورة إنشاء سَدَّي الخرطوم وبحيرة طانة، وسدِّ بحيرة أَلبِرت على ما يحتمل، وصولًا إلى ازدهار قُطْنه في ديروط. والفقير — من ناحيته — تابعٌ للغنيِّ ومائه، ولا شيءَ يَلُوح كافيًا منذ ثورة الري التي نشأت عن شَيْد سَدِّ أُسوان في سنة ١٩٠٠.
ثم ماذا؟ يُضْطَرُّ نِبرُ الدنيا القديم إلى استيراد الحبوب من الخارج بعد أن صار يُصْدِر القطنَ إليه، ويغتني بذلك على حساب استقلاله. أجل، له أهدافٌ واسعة، غير أنه عاد لا يتمتَّع بالهدوء الداخلي، وكان غوته قد أبصر مثلَ هذا الفرقِ بين العمل والفكر فقال: «الفكر يوسِّع، ولكنه يعطِّل، والعمل يُلْهِم، ولكنه يحدِّد.»
وإذا كان الفدان في المجرى الفوقانيِّ قبل أسيوط يأتي بثمانيةَ عشرَ جنيهًا فإن فدان القطن في المجرى التحتاني بعد أسيوط يؤدِّي حتى ثمانيةٍ وعشرين جنيهًا، ويَزِيد ما للزارع في الدَّفتر الكبير، ويزخَر السكان، ولا تَكثُر مَسَرَّةُ الحياة، ويُستَرُ البلد بالحشرات التي يُؤَدِّي إليها اتصالُ الماء بعد أن كان صِحِّيًّا مع الجَفَاف، وتَظهَر أمراضٌ جديدة فتُعَدُّ البِلْهارزيا التي ترافق النيلَ المُوَسَّع من جوائح مصرَ، ويقول الناسُ بصوتٍ عالٍ: «لا زيادةَ أسداد! لا زيادة ماء!»
ويعود الفلاح — متَّزِن الخُطَى — إلى الساقية التي انتقلت إليه من أجداده، والتي لم يَسْطِع مهندسٌ أن يستبدل بها غير المِضَخَّات التي تنتشر رويدًا رويدًا، ويداوم دولاب الفراعنة الخشبيُّ على الدوران بالقرب من الأسداد البِيتُونيَّة مُتَّئِدًا بسيطًا كالحِصان الذي يَجُول بجانب السيارة.
له الجواب بنواح الساقية التي يدور دولابها حولَ محورٍ خشبيٍّ، ويَعرِف النيل هذا الصريفَ من بلاد النوبة ومما بعدها، ويزيد هذا الصريفُ زيادةً لا حدَّ لها فوق تلك الأرضِ الزاخرة بالسكان، وتتساوق خمسون ساقيةً أو مائةُ ساقيةٍ، ومن يُبصِرها تَخُوض من بعيدٍ يَتَمَثَّلُ له فريقٌ من الأثريين يبحث في الأرض مُبَارِيًا.
وهكذا تمتزج في ألوف الأمكنة ثلاثةُ ألحانٍ، وهي: نشيدُ الأمل الأزليِّ الذي ينغِّم به العبدُ المتبلِّد السائر وراءَ جاموسيه أو الجالسُ القُرفُصاء على المَجَرِّ، وقَرْعُ الصفيح الضامن للمعلم عملَ الإنسان والحيوان، وصَرِيفُ خشب الجُمَيْز القديم الذي كان قد أنبته دولابٌ خَشبيٌّ على ضِفَّة النيل ليحوِّلَه بعدئذٍ إلى دُولاب يُسْتَخْرَج به الماء لإسقاء أشجارٍ جديدةٍ وحَصْدِ محاصيلَ جديدةٍ.