الفصل السادس
نعلم أن جميع النباتات التي يَهَبُ الماءُ لها الحياةَ كانت موجودة في عهد الفراعنة؛
وذلك
لأن مصرَ هي بلدُ الدنيا الوحيد الذي نعرِف نباتَه منذ ستة آلاف سنة، ولا تَرَى في العالَم
مكانًا زَيَّنَت التقاليدُ فيه القبورَ كما زَيَّنَت هنا، ولا ترى في العالم مكانًا حَفِظَ
الجفافُ فيه ذلك كما حَفِظ هنا، وفي القبور وُجِدَتْ مائتا نوعٍ للنبات، ولا سيما عند
بَسْطَ
عصائب الموميا، وتُبصِر على رءوس الأجسام المحنَّطة غارًا أو ضربًا من السِّدْر،
١ وتُبصِر في أيديها غصنًا من الآس
٢ أو الأَثْل،
٣ وتُبصِر حول أجيادها قلائدَ من النَّعْنع أو الياسمين، وكان يُنثَر العَبَيْثُران
٤ والوردُ والفاغِيَة
٥ والمُرُّ والنَّضَف
٦ على فراش الموت، وكان النِّيلَج يُستعمَل للصبغ، وكانتِ الحِنَّاء تُسْتَعْمَل للضَّجْع
٧ المُرغِي المُعَدِّ لشُقْرة الشعر.
وإلى ذلك أَضِفْ ما يُترَك للأموات من أقواتٍ وما على القبور من صُوَرٍ، وأضف النقوشَ
البارزةَ كذلك السُّور بالكرنك حيث عُرِضَت الحيوانات والنباتات عرضًا رائعًا، وحيث يَظهر
السِّدْر ذو الأكمام والبرديُّ مع زهره ذي الأسنان التسع، وبين ذلك تَرَى ارتيادَ الهداهد
٨ والسَّلْوَى،
٩ ويعدو الطَّيْطَوَى تحت شقائق النعمان، ويَبدو الإِبِيس المقدَّس بجانب الزَّنْبَق،
ويَبهَر نورُ الشمس جميعَ أولئك؛ وذلك لأن المتفنِّنَ غَطس أولئك في معبدٍ ذي ظلامٍ دامس
فوجب
مرورُ ٣٥٠٠ سنة لتخرِجَها يدُ عالمٍ أثريٍّ بصيرٍ إلى النور الذي كانت قد جاءت منه كنماذجها
الحية.
والبرديُّ هو أكرم تلك النباتات، وكان عبيد الفراعنة يَقلَعونه حُزَمًا، ويَنزِعون
ورقَه،
ويَصنعون منه حِبالًا ونِعَالًا ويَجمَعون سُوقَه ويجعلون منها أطوافًا ويَضَعُون عليها
سُقُفًا
في الغالب، وكانت تُؤكَل جذوره. وكما أن الإنسانَ الحسنَ التقويم يمكنه أن يَعمل ويُفَكر
معًا
كان يمكن البرديَّ — بعد أن يَكْسُوَ الإنسانَ وينقلَه ويُطعِمه — أن يحتفظ بخواصَّ تقضي
بالعجب، فبعد أن كانت سوقه تُقَطَّع عصائبَ دقيقةً متداخلةً كانت هذه العصائب تُطرَق
وتُدْبَق
وتُلَفُّ منتظرةً تجهيزَها بالمعارف لتُسَلَّم إلى أمواج الزمان كالزوارق التي تسير مع
النيل
مشحونةً بالمسافرين، وماذا كنا نعرف عن مصرَ وعن القرون القديمة لولا هذا النبات؟ وكانت
تُصْدَر
لفائفُ البردي من القرن الحاديَ عشرَ قبل الميلاد إلى سورية ثم إلى أثينة فإلى رومة،
وكانت
الأساطير والتاريخ والفلسفة والقوانين التي تُسَجَّل فيها تَحمِل أنباءَ الأمم البعيدة
من خِلال
العالَم فتعود ثانيةً إلى مصرَ.
والآن — في واحة مصرَ الضيقة هذه — ترى مكانًا للمروج والغابِ أضيقَ مما في الماضي،
والمدن
وحدَها هي التي تنتحل حقَّ غرسِ الشجر، ومما تشاهِد في الريف أحيانًا جميزةٌ منفردة أو
طَرفَاءُ
ذاتُ حفيفٍ خفيف، أو قليلٌ من أشجار التوت ذواتِ الورق الواسع، أو قليلٌ من أشجار السَّنْط
المتجففة بعضَ الشيء؛ أي تشاهد من الشجر ما لا يحتاج إلى غير ماءٍ قليل، والنَّخْلُ وحدَها
هي
من الفائدة ما تستحقُّ معه أن تُسقَى، ويُنتَفَع بخُوص النَّخْل وخشبها في بناء المنازل
وفي صنع
الأثاث والحُصْر كما في النيل الأعلى، وتُعِين ثمارُها الصفر والحمر والسمر على تغذية
الشعب،
ويتم نضجها في البيوت وقت الشتاء، كالتفاح والكمَّثْرَى في أوروبة، وينتشر شجر الدَّوْم
من
السودان حتى أسيوط، ويؤكلُ من فاكهته وتُشرب حتى عصارةُ ثمره.
وتُعدُّ مصرُ شديدةَ الرياح تجاه شجر المَوْز، وفي الصيف يأكل الفلاح المصري الصُّبَّار
مع
أزهاره الصُّفْر الجميلة أو من دونها، ويأكل الجملُ من الصبَّار ما هو على أطراف الحقول
ما دامت
ثمار هذا الشجر النابت بلا ماءٍ تَصلُح لحيوان الصحراء ذلك، وهل بينهما صهارةٌ مصدرها
الحرمان
والفقرُ وتشابهُ الطالع؛ أي الأمورُ التي تُوَلِّد الحقدَ لدى الإنسان في الغالب؟
ويُزْهِر السِّدْر الأزرق في قَنَوَات النيل، كما في الزمن الذي كانت تُزَيَّن به
الموتى،
ويَنبُت السِّدر الهندي الأبيض، الذي تَتَفَتَّح أكمامه فوق الورق الأخضر، في الأحواض
المنعزلة
بين الأنقاض، وقد توارى السِّدْر المقدس عن مصرَ.
وتَحَوَّلَ عالَم الحيوان أكثرَ من تَحَوُّلِ عالَم النبات والإنسان، وبَدَتْ هذه
الأرض
الضيقة — التي لا مكان فيها للغاب ولا للصيد — وديعةً هادئةً كالنهر وقبل النهر، وكانت
الطيور
وأنواع الحيوان تَكثُر في المناقع في أزمنة ما قبل التاريخ، حين كان مجرى النيل يَربَح
من البحر
في كلِّ صيف، وكانت تلك الحيوانات تَنعَش النهرَ في عهد الفراعنة الذين تُزَيِّن القنائص
وألواح
الصيد قبورَهم، وتجعل النهرَ خَطِرًا كالقسم الجنوبي من بلاد النوبة في الوقت الحاضر.
ولكن الأسد عاد لا يشرب من النيل المصريِّ أبدًا، وصار بقر الماء لا يَتَقَلب هنالك
أبدًا،
وأصبح التمساح لا يَتَمَطَّى هنالك أبدًا، ومن الطرافة أن يجاوز تمساحٌ أُسوانَ. ومما
وقع في
سنة ١٨٢١ أن أُصْمِيَ آخر بقرِ ماءٍ في أسوانَ فحدث من الهَلَع كما لو كان الأمر قد جرى
على
ضِفاف نهر الرين أو نهر التايمس.
ولم يَحدُث في مكان من الدنيا أن قدِّس للحيوان كما قدِّس له في مصر، ويَروِي لنا
هيرودوتس
أن القوم هنالك يعدُّون جميعَ الحيوانات مقدسةً، وهيرودوتس حين يَخْزُر
١٠ يذكر أنه لا يبيِّن أسباب ذلك، وتدلُّ مئات الصور التي لا ريب في أصلها الشعبي على
مزاج الفلاح الفرعوني وحبِّ هذا الفلاح للحيوان. وإليك ذئبًا — في أحد النقوش البارزة
— يلاعب
غزالًا لعبة الداما، وإليك نمرًا — في نقش بارزٍ آخر — يزمِّر وهو يحرس غِزْلانًا وإوزًّا
حاملًا صغارها بين ذراعيْه، ويقاوم الضبعُ إوزةً ألقت نفسَها في فمه، ويَعُود الأسد والثعلب
بقرَ ماءٍ مريضًا، ويؤلِّف القرد والحمار والأسد والتمساح فرقةً موسيقيةً، وتُمسِك فأرةٌ
صغيرة
زهرةً وتجلس على كرسي وتبدو أَمَتُها وراءها منتظرةً هدايا هِرَّةٍ، وتُبصِر آسادٌ سِنَّوْرًا
يمرُّ من غير أن تُبدي حراكًا، ويرتفع طيرٌ نحو بقر ماءٍ قاعدٍ على شجرة. فهل لنا بهذه
المناظر
أن نتمثَّل شعبًا جشعًا حقودًا في بلد لا يُحَبُّ الحيوان فيه؟
وكان لكل حيوان حارسُه الخاص، وكان الرجل التقيُّ يَحلِق رأسَ ابنه ويَبِيع شعره
ويسلِّم
الثمنَ إلى الحارس حتى يُطعِم حيوانه المقدس، وإذا ماتت هرةٌ حَلَقَت الأسرة حواجبَها،
وإذا مات
كلبٌ حلقت الأسرة جميعَ بَدَنها، وأقيم لكلٍّ منهما قبرٌ، وكان للإبيس مقابر خاصة، ووُجدت
تماسيح وأفاعٍ محنَّطةٌ، ويلوح أن الحية التي حولها الله إلى عصا أمامَ موسى كانت من
نوع الصِّلِّ،
١١ وتظهر مزيِّنةً تاجًا لفرعون.
وكانت مصر الجافة معدَّةً لتكون جنةَ الأفاعي والخفافيش والعقارب والبعوض، وتَقعُد
الحَرَابِيُّ فوق الشجر مع ألسنتها الطويلة وهيئاتها الهائلة التي تذكِّرنا بمحترفي السياسة
المتطرفين. ويمتدُّ الضبُّ الجبَّار الأسمر على الأرض تحتها، ويُخرِج أصواتًا هزليةً
ويهزُّ
رأسَه كابن الطبقة الوسطى الذي يكتم خوفه من أناسٍ يَتَوَعَّدونه.
وفي زَمَن الفيضان تُطْرَد هذه الجِعلان
١٢ والضُّبَّان من أَجْحارها، ويحاول الفلاح الذي تَغزو بيتَه أن يُبِيدَها على غير
جدوى، وتأتي الكارثة بغتةً في بعض الأحيان، وهي ثالثةُ بلايا مصر؛ وذلك أن أَرْجَال
١٣ الجراد تَحجُب السماء وتُهلِك كلَّ شيء وتَزِيد كثيرًا على الرغم من القارِ
١٤ والبترول اللذين يَسعَى الفلاح بهما أن يَقضِي على قَصَمها،
١٥ وتَمنَح الحكومة جوائز على ذلك. وكان بليني قد أوصى بتوزيع مثلِ هذه الجوائز منذ
ثمانيةَ عشرَ قرنًا.
وحافظ النيل على أسماكه، ومنها القَيْصَانَة
١٦ الغريبة التي تُصْطَاد اليومَ بالشَّبَكة، والتي هي منحدرةٌ مما كان العبيد
ينظِّفونه ويجفِّفونه على زورق الملك ميرا على حين كان هذا الملك يميل إلى الخلف ويَشرَب
ويَتَمَتَّع بالحياة وإن جَلَسَ في قاربه المأتميِّ المصوَّر على قبره، وتنتفخ هذه القَيْصَانة
كالمُنْطاد وتَعُود على ظهرها مغطَّاةً بالأشواك وتعوم على النيل ناشرةً ذعرًا حولها،
وهي لا
تنتفخ على هذا الوجه إلا لأنها مجهَّزَةٌ بجهازٍ غُضرُوفيٍّ لولبيٍّ وصِمامٍ خَفِيٍّ
كالطغاة،
وهي لا صوتَ لها إلا إذا زال انتفاخها، فيجتذب هذا المنظرُ الناسَ إلى الشاطئ.
والرَّعَّاد سمكٌ غريبٌ آخر، وللرَّعَّاد طولُ الحية وأوضاعُها، وله في قِحْفه
١٧ من الخروق المشابهة لِفَتَحَات قِحْفِ الحوتِ ما يُلقِي به الماء، وله مثاناتُ
ذواتِ القوائم الأربع. والرَّعَّاد هو السمك الكَهرَبيُّ الذي يَرَى العربُ أن الإنسان
إذا
مسَّه ارتعش وتشنَّج، وأن نَفَسَه يَكفِي لكَهرَبَة السبَّاح.
وإذا كنت مياه النيل منخفضةً وَقَفَت الجواميسُ عليها كالبَقَرَات السَّبْع السِّمَان
والبَقَرَات السَّبْع العِجَاف
١٨ التي رآها فرعون في منامه، ولكن يجب أن يقيَّد الذكور منها خَشْيَةَ فِرارها بين
الماء، ويَبدُو السَّلُوقِيُّ في البارز من نقوش القبور وفي القديم من الأقاصيص. والسَّلُوقِيُّ
جميلٌ مع قذارته وتوحُّشه، والسلوقيُّ يطارِد ابنَ آوَى على حدود الصحراء. أجل، تعبث
المواعز
الشُّقْر الخُطْلُ
١٩ وصغار الخنازير على طول الضِّفاف، غير أن السِّنَّوْر هو الحيوان المفضَّل في الوقت
الحاضر كما في الماضي. وأول تأنيسٍ للسِّنَّوْر حدث هنا، وللسنور هنا تَرَى مقبرةً قريبة
من
المسجد كما كان له بالقرب من المعبد فيما مضى، ويشابِه المصريُّ الفرنسيَّ بسِنَّوْره
ومحافظته،
ولكن واحة الفرنسي أوسع مدًى.
وترى حيوانًا قصيرًا أَجُوجًا
٢٠ يُكَرْدح
٢١ على السدِّ المستوي الطويل بما هو أسلسُ وأظرفُ من خَبَب
٢٢ الخيل وأسرع من ذَمِيل
٢٣ الجَمَل الذي لا يُحِبُّ السير على الطرق المعبَّدة. والحمارُ هو الحيوان
السَّرْجيُّ الأفريقيُّ الأصل، وآسية هي مصدر الخيل والجمال، وقد تأخَّر وصولُهما إلى
أفريقية،
وقد عدا الحمارُ من جَنوب هذه القارَّة إلى الشمال فغدا مَطِيَّة المصريين الحقيقيَّ،
ومَن لم
يَرْكَب الحمار المصريَّ لا يَعرِف ما هو الحمار، وحمار الشمال حَرُونٌ بَلِيدٌ كَسُولٌ
يُعَدُّ
اسمُه وحدَه سَبَّةً، وحمار مصر ناريٌّ نشيطٌ جميل.
والحقُّ أن الحمار في إسبانية واليونان يُحَبُّ، والحق أنك إذا عَدَوْتَ حميرَ الحجاز
لم
تَجِدْ حمارًا يشابِه حمارَ مصر؛ وسببُ هذا ما يَتَّفِقُ له هنا من يُمْنٍ في صَغَره
ومن عَلَفٍ نَجِيعٍ
٢٤ وحسن معاملة، وتَرجِع مَلاحتُه إلى ظرف صاحبه، وهو إذا كَبر لم يميَّز من البغل
بغير أُذنيه ضخامةً، وهو أغلى ثمنًا من حصان متوسط، وهو يظلُّ تحت الشمس ناظرًا بمؤخَّر
عينيه
نظرًا خفيفًا، وهو يَظْهَر قويًّا رشيقًا مَرِنًا أملسَ نحت شَعره الرمادي فحَفَرَت له
يدٌ
ماهرةٌ رسومًا رائعة، وهو يبدو زاهيًا بسرجه الجميل مستعِدًّا ليمتاز من سواه، وهو يَحمِل
على
ظهره ضربًا من العمالقة، وهو يُسرِع في القيظ على طول السد مع عَرَقٍ أقلَّ من عَرق
راكبه.
وحمارُ الفلاح أرخصُ ثمنًا من غير أن يكون أقلَّ صَلاحًا بدرجات، وحمارُ الفلاح مُجِدٌّ
فطينٌ قليلُ العِناد، والحمارة خيرُ الأُمَّات، وقد رُئِيَت الحمارة وهي تُلقِي نفسها
في إصطبلٍ
محترقٍ إنقاذًا لولدها. والحمار يهتدي إلى طريقه الذي سَلَكَه مرتين أو ثلاثَ مراتٍ،
وهو يأبى
أن يتقدم، أو هو يَشْبُو،
٢٥ إذا ما لاح له أن راكبه ضلَّ سبيلَه، وما هو القوت الذي يتطلَّبه؟ لا شيءَ في
النهار، ويكتفي في الليل بالبرسيم وبكلِّ ما يَرفضه الحِصان والبقر، وبالحَسَك
٢٦ والشَّوْك أيضًا، ويَعدِل الجملَ من هذه الناحية تقريبًا، والماء الصافي هو الذي
يَوَدُّهُ دَوْمًا.
ومن ثم يُرَى كيف يعيش نحو خمسين سنةً؛ أي إلى أن يَضطَجِع ليموت.