الفصل السابع
ينتفخ شراعٌ أبيض انتفاخًا خفيفًا على ساريةٍ تنحني أمام خُضْرَة الواحة، وينفصل في الأفق خَط جبال الصحراء غير المنتظم أصفرَ على أزرق، ولا تَجِدُ لهذه الألوان الثلاثة في مكانٍ من العمق والصفاء أعظمَ مما هو هنا حيث تراها مدينةً للنور الباهر الخالي من أيِّ غيم، وللرمل البريءِ من كلِّ عيب، وللحقول الرطيبة على الدوام والمكسوَّة بالنبات، والأحمرُ وحدَه هو المفقودُ هنا، وذلك منذ أن تَرَكَ العلَم التركيُّ مكانه للعلم المصريِّ الذي اختِير له لونُ الأرض الأخضر فعاد لونُ الدَّم لا يكدِّر نضارةَ انسجامِ الألوان المصرية الأربعة ولا روعتها.
وللأبيض نفسه تأثير اللون بألوف الأشرعة على النهر وبالبيوت على الضِّفاف وبمباينته الدائمة للألوان الثلاثة الأساسية. وفي المساء يخسَر الأبيض منزلتَه، وفي أسوان يصير النهر أزرقَ نِيلَجِيًّا، ويصير لون النخيل والسَّنْط أخضرَ رَمَاديًّا، ويصير لون الجبال القريبة أسمرَ برتقاليًّا مع ظلالٍ زُرْقٍ، ويصير لونُ الصحراء ورديًّا، ويصير لون الجبال البعيدة بنفسجيًّا، ويلجأ جميع الزوارق إلى الخُلجان الصغيرة، ويبدو النيلُ في الليل بلا أنوار. وإذا ما غابت الشمس أبصرتَ ستارًا من السحاب يغامر مارًّا كالسهمِ من الغرب إلى الشرق، ويَظهَر جزءُ السماء الشماليُّ في الأُفُق بنفسجيًّا، ويَنعَشه بعض السُّحُب الوردية ذاتَ لحظة، ثم يتحوَّل إلى أخضرَ جَلِيٍّ حتى يَتَجَمَّعَ عند السَّمْت آخرُ نورٍ للنهار ورديًّا ذهبيًّا مارًّا بسرعة، ويَدخُل القمر الشاحب مِنطقةَ العالَم الذهبيِّ كرسولٍ يُنذِر بالرحيل، وتلوح جبال الصحراء شهباءَ ويعود النيل رَماديًّا مفكرًا في مَشِيبه.
وكان لجدِّ هذا الفلاح في القرون القديمة مثلُ الوضعِ الحاضر عندما كان يَنزِل مع النهر، وكان شِراعُه — وهو على مُقَدَّم المركب — يَجتنب الكُثبانَ كما هي الحال الراهنة، حتى إن الزوارقَ الخفيفةَ التي تجري في النيل هنا وهناك كانت موجودةً في ذلك الحين مع سُرْعَة عَطَبٍ؛ لأنها مصنوعةٌ من البرديِّ، ولو حَدَثَ في ذلك الزمن — مع ذلك — أن جاء فرعونَ ساحرٌ بزورقٍ بخاريٍّ لقتله على ما يحتمل. ولا عَجَبَ، فقد حارَ كلَّ الحَيْرة من الفكرة القائلة بإمكان جَرْيِ الأنهار إلى جهةٍ غير الشمال. ومما وَقَعَ أن أَوْغَلَ تُوتْمُوزِيسُ الأول في آسية، فذُعِرَ من الاتجاه نحو منبع نهر الفرات في الشمال فدعا الخليجَ الفارسيَّ لذلك ﺑ «بحر النهر الذي يَجرِي على العكس».
وفي مصرَ بأسرِها تَدُلُّ عَشَرَات السَّوَارِي في كلِّ مرسًى على مكان أبي البلد، على مكان منبع الحياة: النيل، ومَنْ يسافر نهرًا بين ذلك الوادي الأخضر ويرى الصحراءَ المتوعِّدة من جميع الجهات يَعُدُّ نفسَه سعيدًا بين الجياع. أجل، هنالك أجوافٌ محفورةٌ في التلال الغربية مشتملةٌ على قبور الفراعنة، غير أن ملايينَ الفلاحين صاروا في الصحراء أعفارًا؛ وذلك لأن الأحياء ما كانوا ليَغتَذُوا على ضِفاف النهر لو لم يَدْحَرُوا الأمواتَ إلى الرمال.
ويَصدِم الزورقُ الكثبانَ في الغالب، وذلك لعدم وجود مُصَوَّرٍ لضَحَاضِحَ تتغير في كلِّ فيضان. واليومَ — أيضًا — لا يكون النيل صالحًا للمِلاحة ما لم يُنَظِّمْ مجراه بنفسه، وهو يَحفِر مجراه ضمن الحدِّ الذي يَحمِله عليه مُعَدَّل فيضانه المتحول، ويتوقف اتساع جُزُرِه على شدَّة الفيضان وعلى انعطاف جُزَيِّرات الغرين التي يَحُطُّها في كلِّ مكان.
وفي أُسوانَ يغادر إلى الأبد ذلك الغرانيتَ الذي أعطى الفراعنةَ مِسَلَّاتِهم، والذي أعطى الإنكليزَ حجارةَ سَدِّهِم المنحوتةَ (لصعوبة جلبه من شواطئ البحر الأحمر)، وما انفكَّ الماء وصخرُ الشلال الأول يكونان خطَّ دفاعٍ تجاه الجنوب. وبعد الجَرْي بين الصخور من وادي حَلْفا، وبعد مأساةِ النخيل الغارقة، وفيما يَفِرُّ الناس نحوَ المرتفعات والمعابد المغمورة ومع المجرى التحتانيِّ المباشر لاختلاط الدوافع والمساقط الهائلة الناشئة عن كُوَى خَزَّانِ أُسوَان يَتَفَتَّح وادي النيل عميقًا ضيِّقًا، ولكن مع خُضْرَةٍ وبيوتٍ بِيضٍ كثيرة يسكنها برابرة. وتعد أسوان — الحصن والسوق معًا — حدَّ مصرَ الحقيقيَّ منذ عهد الفراعنة، وتتحطَّم العقائدُ والحضارةُ على ذلك الشلال المنيع الذي لم يَدُرِ الفاتحون من الشمال والجنوب حولَه إلا نادرًا.
وإليك جزيرةً صغيرةً ملائمة للأحلام، حيث تُزْهِر حديقةٌ مفقودةٌ تحت ظِلِّ دَوْح الأَثْل والنخل مع أن على هذا التراب الخصيب أن يُنْبِتَ البُرَّ والخُضَرَ، وهذا من عَمَل قائدٍ، لا من عَمَل شاعر، وهذا من صُنْعِ اللورد كِتشنر الذي تَمَنَّى — بعد طَوَافه في الصحراء وانتصاراته — أن يسير مع ذوقه الروائيِّ، والذي قَطَعَ لُغْمٌ ألمانيٌّ نشيدَه الختاميَّ، وكان أسلافُه في عهد الفراعنة قد مَرُّوا بالقرب من هنالك، مَرُّوا من بِلاق حين غَزَوْهم بلادَ النوبة، وكانت الجزيرة تُسَمَّى آنئذٍ يِب أويِبُو؛ أي جزيرة الفِيَلَة، وذلك لِمَا كان من بَيْعِ النوبيين عاجًا فيها، أو لِمَا كان من نزول ذلك الحيوان العظيم إليها ذاتَ مرةٍ على ما يحتمل، وكانت مياهُ النيل من الانخفاض في تلك الأيام ما استطاع معه الفيل أن يجاوزَها، ولا رَيْبَ في أن الإله خنُوم أعانه على ذلك، والإله خنُوم هو الذي كان يَسكُن بِلاقَ فصَنَعَ الإنسانَ بدولابٍ من فخار.
وهم يخرجون من خيامهم مساءً كما في زمن هِيرُودُوتْس، وهم يُدْعَوْن بالبِشَاريين في الوقت الحاضر، ولكن نفورهم من الفلاح لا يزال ثابتًا لا يتبدل، وما كان البدويون والفلاحون ليتفاهموا أبدًا، وما كان تماسُّ الفريقين ليَبْدُوَ أجدَى من تماسِّ رمزيهما، الرملِ والماء؛ أي الصحراء والنيل، ويعيش الفلاح في أكثر أقاليم الدنيا تعادلًا، وتَهبِطُ درجة الحرارة في الصحراء إلى الصِّفْر ليلًا، ويكون البدوي كالملاكم المحترف عاريًا أو مُدَّثرًا بعَبَاءة.
وفي أسوان — عندما يبيع البدوي جَمَلَه ويشتري منه خُضَرًا وبيضًا — يكون كلٌّ من الرجلين غريبًا عن الآخر مع أنهما يتكلمان لغةً واحدةً ويتفاهمان أحسنَ من تفاهم اثنين من الأوروبيين، وتَفصِل بينهما روحُ النيل، وتُعَارَض ضِفافه المُخْضَرَّة والنِّزاعُ في سبيل الغرين بمقاتلة الضواري في الصحراء والغاب، ويُعَدُّ البدوي أسعدَ من الفلاح على فقره ومخاطره اليومية وزهده، وهما إذا ما تقابلا على ذلك الوجه وبَدَوَا بائسيْن وساوما كَسْبًا لبضعة دوانقَ وكانا أكثرَ احتياجًا من سوائمهما ظَهَرَ أحدُهما سيدًا وظَهَرَ الآخرُ عبدًا، وهذه هي سُنَنُ الحرية والارتباط في الأرض.