الفصل الثامن
جاء في القرآن:
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ،
ولكن الله عارضَ الماء بالتلال والصحراء لكي تمارِس العناصرُ — كالناس — بعضَ قُوَاها
ضدَّ بعض؛
ولذا يُضَيِّقُ للمرة الأخيرة مجرى نهره المفضَّل ويُخضِعه لآخر تجربة، والنيل — بين
أسوان
وأدفو، وعلى مائة كيلومتر مستقيمٍ — يجاوز سدًّا من حجرٍ رمليٍّ كان يُمسِك ماء بحيرةٍ
كبيرةٍ
على ما يحتمل. والنيل نفسُه أقلُّ ضنكًا وضِيقًا من واديه، وتزدحم تلال الصحراوين على
ضِفافه،
وهي قد بَلَغَتْ من الاقتراب من الضِّفة الشرقية ما وَجَبَ معه خَرْقُ نَفَقٍ لمرور الخطِّ
الحديدي، وهذا النَّفَق قصيرٌ جدًّا، وهذا النَّفَقُ وحيدٌ على جميع الخطِّ، ولا ريب
في جعله
المهندسَ السويسريَّ الذي أنشأه يرى أنه نُقِلَ إلى لِيلِّيبُوت
١ بقوة السحر.
والنيل بعد أسوانَ — وفي أربعين كيلومترًا — يَجرِي على ذلك الوجه، والنيلُ تنتظره
مغامرةٌ
جديدة هنالك، والنيل قد قهر وعُوِّقَ سيره، والنيل قد ضُغِطَ في قصائبَ
٢ تنظيمًا للريِّ، لا نَيْلًا لقوةٍ أو كهربا، ويُخيَّل إلى النيل عند خروجه من
الكُوَى أنه يستردُّ حريتَه، ولن يَقِفَه سدٌّ لطويل زمنٍ. بيد أن أربعةَ أنابيبَ عظيمة
وُضِعَت
في مجراه فتَنزِع منه بعضَ قوته، وبالقرب من هنالك تَصَعَّدُ مِدْخَنَةٌ كبيرةٌ سوداءُ
في
السماء الزرقاء، وتُبصِر بجانبها قاعةً دَكْنَاء، وتُبْصِر بجانب القاعة معبدًا ساطعًا،
وتُبْصِر نخيلًا بين الاثنين، وتُبْصِر سهلًا أخضرَ خلف النخيل على مَدَى البصر.
ولا ريب في أن النهر القديم يَعرِف أن جميع هذا يَرجِع إلى تاريخ حديث، وكان سهلُ
كوم أمبو
الواسعُ أصفرَ قبل ابتغائه ماءَه، وهو مَدينٌ باتساعه المفَرطَح
٣ للوادييْن النافذيْن إليه من جبال العرب واللذيْن يأتيان بالصحراء الشرقية إلى
النهر. ومما لا مِرَاء فيه أن كان مهندسو الفراعنة يُنْعِمون النظر فيه مع سُخْطٍ عن
عَجْزٍ؛
وذلك لأنه يَعْلُو مستوى الفيضانات خمسةَ عشرَ مترًا؛ وذلك لأنه يَبلُغ من الارتفاع ما
لم
يستطيعوا معه غيرَ سَقْيِ شاطئ النيل المباشر، وكانت مدينة أمبوسَ الصغيرةُ قائمةً هنالك
فبَقِيَ منها بضعة أعمدةٍ بجوار المِدخَنَة.
ولم تتمَّ تلك المعجزة بفضل خَزَّان أسوان، ولكن هذا الخَزَّان دَلَّ مصرَ ماذا يمكن
النيلَ
أن يَنفَع به مصر، وكان الباشوات يهزُّون أكتافهم منذ خمسين سنةً حينما اقترح الفرنسيون
عليهم
إنشاء سدٍّ لسَقْيِ ذلك السهل الواسع، وكانت الضِّبَاع وبنات آوى تعترك هنالك في سنة
١٩٠٣.
وتلك المِنْطقة زاهرةٌ في الوقت الحاضر، وهي أوسع من بقيةِ مصرَ العليا، وهي تكتنف
أربعين
قريةً، ويَطُوف أربعون ألفَ شخصٍ بين شجر الموز وقصب السكر، وبين البُرِّ والخُضَر، وفي
وسط هذه
الصحراء القديمة تَقُوم مدينة صغيرة حيث يسعى الخدم، وحيث يُتَلْفن
٤ الكَتَبَة، وحيث يَزْهُو معلم المدرسة بين الطلبة ومديرُ البنك بين زُبُنِه، وفي
المكان الذي كانت تَعْوِي الذئاب فيه تُبْصِر المؤذنَ واقفًا على شُرْفَته المستديرة
داعيًا إلى
الله خمسَ مراتٍ في كل يوم. والآن يخضرُّ ثلاثون ألفَ فدانٍ كان من النادر أن تَسِير
منها البُعْرَان
٥ فتبدو ناضرةً في الشتاء والصيف بعد أن كانت صفراءَ جَدْبَاء منذ وجود جبال العرب
المجاورة، فبذلك يكون حُلُم فاوست قد تَحَقَّقَ.
وتُبْصِر رجليْن حافييْن رزينيْن صامتيْن أسمريْن لابسيْن جلبابيْن يَجُوبان القاعةَ
ذاتَ
الآلات التي لا تنقطع أساطينها عن الصعود والنزول، ودواليبها عن الدَّوَرَان، وحبالها
المصنوعة
من القِنَّب عن الصَّرِير، والمانُومِتْرات
٦ عن الارتجاف في محابسها الزجاجية، ويُعْنَى بدَهْن ذلك كلِّه، وذلك إذ يَلْمَع
يُوحِي باحترامٍ قدسيٍّ، وذلك يَنْفَع في جلب ماء النيل إلى الأنبوب القديم الناضح
٧ فوق القاعة.
وقد أدى هذا الماء إلى جعل السهل الصحراوي خصيبًا، وقد جلب إلى هذا السهل حتى الغرين،
ويكون
النيل وقت الفيضان على مستوى تسعة أمتار، وتصير المضخات غير مفيدةٍ، ويسفر ضغط الماء
عن صعوده،
وهذا هو فعل الآلات التي جلبت من جبال سويسرة منذ ثلاثين سنة، وصدئت إحدى قطع التغيير
بسرعةٍ في
تلك الرطوبة المصنوعة فكان يمكن اتخاذها حطمة
٨ مسلةٍ، وعاد اسم بيت شولزر التجاري لا يكون هنالك أكثر من حال الكتابات
الهيروغليفية التي لا تكاد تحل، ولنفحص سيرًا
٩ موقفًا، وتأتي قدة الموميا العصرية هذه من شافهاوزن.
ولكن سير الآلة الأسود هو من وبر الجمل، ولا احتياج إلى الفحم لصنع ثلاثين ألف طن
سكرٍ بكوم
أمبو في كل سنة، وذلك لاستعمال ورق قصب السكر وقودًا، ويفصل الصبيان لهذا الغرض ما هو
ذابلٌ
جافٌّ من تلك الأوراق وما كان أخضر منها فيصلح طعامًا للجواميس، ويحمل ما هو أصفر أو
ضاربٌ إلى
حمرة من قصب السكر على عرباتٍ أو سياراتٍ أو حيوانات.
والجمال هي التي تراها مرتجة، وهي تثقل من الحمل ما لا تكاد أعناقها وقوائمها ترى
معه،
وتكدس جبالٌ من قصب السكر أمام قاعة القدور، ويعد الحزم بالمجارف اثنا عشر رجلًا، ويعبئ
أربعة
رجالٍ آخرون هذه القدور النهيمة الفاغرة أفواهها كالفيول، وعلى ما تراه من تغذية النيل
نفسه
بنفسه تجد الإنسان مستعبدًا له، وماء النيل ينبت قصب السكر في الصحراء، والآن يسخن قصب
السكر
هذا الماء حملًا للمضخات على العمل.
وتبعد الأساطين من المدخنة بضع خطوات، وتعد معابد كوم أمبو التي تعود إلى عهد البطالمة
معاصرةً لمعابد بلاق، وهي تنتصب على شاطئ النيل، ولها من روعة المنظر ما لعمود سونيوم،
١٠ ولها من الجمال ما هو أعلى من جمال معابد الكرنك القديمة المشوشة، وقد نشأ عن
الفيضانات الكبرى التي وقعت في القرون الأخيرة انتزاع قطعٍ منها وزيادتها رواءً، وينتقل
نظرنا،
مع ذلك، من أعمدة الرتاج العشرة الرائعة، التي تعلوها تيجانٌ مزينةٌ بالأغصان، إلى تلك
المدخنة
الشنعاء كفولكن
١١ نفسه، ولكن مع إخراجها من الأرض نخلًا وموزًا.
ونبصر «ديونيزوسَ
١٢ الجديد» في القاعة الثالثة، نُبْصِر الإله الملكَ الذي شاد هذا المعبدَ تمجيدًا
لنفسه مُوصِيًا الإلهَ القمرَ ذا الرأس الصَّقْرِيِّ بأن يكتب اسمه على سَعَفَة،
١٣ ولا ريب في أنه كان يُنْشِئ تلك المِدخنة وكان يُزَيِّنُها بمفتاح الحياة لو اخترع
مهندسوه المِضَخَّة ووسَّعوا رُقعة مملكته الصالحةَ للزراعة.
وعاد ذلك المنظر الفاوسْتِيُّ لا يُجَدَّد، وعاد بعض الجبال لا يَدْنُو من بعض، ولا
يزيد
عرض النيل على ثمانين مترًا في السلسلة، وعلى بعد عشرين كيلومترًا من هنالك، ويلوح أن
بحيرةً
ساكنة تكوَّنت في ذلك المكان في أزمنة ما قبل التاريخ، وقد قَرَضَت الصخرَ مع القرون
مقدارًا
فمقدارًا وفَرَّت بدوافعَ بلغت من الحصر ما اعتُقد به أن تلك النقطة هي منبع النهر فأُقِيمت
شعائر دينيةٌ فيها على أنها كذلك، وتَغدو الصخور صُفْرًا، ويَفسَح حجرُ النوبة الرملي
في المجال
لجير جبال الصحراء التي تُسْتَخْرَج حجارةُ المعابد منها.
وهذه البقعة هي من الفَقْر والانقباض ما لا يُمكِن معه أن يُزْرَعَ في هذا المِرْتاج،
١٤ في هذا المِزْلَاج،
١٥ سوى سُبْعِ الضِّفة الغربية، وهذا هو آخر مَضِيقٍ للنيل، ثم تَبْدُو الضِّفة
الغربية أعرضَ مما هي عليه، تَبْدُو سهلًا صغيرًا يقوم عليه معبدُ أدفو الذي هو أروعُ
معابد
مصر، ولو لم يكن هذا المعبدُ من حجرٍ رمليٍّ لأمكن أن يقابَل بمعبد سِيجِست،
١٦ وما كان لبعض مختاراتٍ من سافُو
١٧ وهِيزْيُود،
١٨ أو أطلالٍ من أساطين طيبة، غيرُ تأثيرٍ ناقص.
ونحن لا نستطيع أن نتمثل حالها الأصلية بسوى خيالنا، وتَبرُز المباني شِبهُ الخَرِبة
بقباحة
الأجسام المحنطة تحت ذلك الضياء الوَهَّاج ومن خلال منظر مصرَ الأزرق والأصفر، وما في
الأهرام
من وَقْعٍ في النفوس فَمَدِينٌ لبقائها سالمةً، ويُشَاد معبدُ أدفو بعد طيبة بألف سنةٍ
بأيدٍ
إغريقية وعلى طِرَازٍ شِبه إغريقي، ومن غير أن يَمُتَّ إلى الطِّراز الكلاسيِّ
١٩ المصريِّ بصلةٍ، فيظلُّ أجملَ معابد مصرَ بفضل بقائه سالمًا منفردًا؛ أي بفضل هذين
العاملين اللذين اتَّفَقَ بهما لبِسْتُوم
٢٠ ومعابد البِلِيبُونِيز
٢١ مجدٌ خالدٌ، ويَتَعَذَّر تجريدُ المباني والآدميين من المنظر والنور اللذين نراهما
بهما.
ويَتِمُّ بناء معبد أدفو في القرن الثاني قبل الميلاد، ويلوح لنا أن هذا المعبد محفوظٌ
أكثرَ من جميع المعابد اليونانية خلا معبد تِيزُوسَ القائم بأثينة في موضعٍ عاديٍّ، ويسير
مهندسو البطالمة في اقتباس ما يُرَى من النهر عن بُعْدٍ من الرُّتَجِ
٢٢ وَفْقَ رَسْم المعابد القديمة التي كان يُعْبَد هُورُوس فيها، ويقال إنه قَتَلَ هنا
— أو بعد هنا بمسافةٍ قصيرة من مجرى النهر التحتانيِّ — أخاه وقاتلَ أبيه أُوزِيرِس.
ويُعَدُّ
الجمل الذي يجاوز النيلَ مع حِمْله حتى المعبد مصريًّا، وتُعَدُّ الساقية التي تُخْرِج
لحنَها
بجانبه مصريةً أيضًا، ويَزْعَق هُورُوس بصوته الحادِّ فوقهما نافذًا زُرْقَةَ السماء.
وكان قدماء المصريين يحملون آلهتَهم من النور إلى الظلام، وكان المؤمن الذي يمرُّ
تحت
برجيْن كبيريْن يدخل ساحةً مملوءة ضياءً، ثم كان يجاوز رِتَاجًا مُنارًا — أيضًا — إلى
إِمْلَاس
٢٣ أولِ قاعةٍ ذاتِ أعمدة، وإلى قاعةِ قُدْسِ الأقداس أو إلى باب تلك المِشْكَاة
٢٤ التي كانت ينتصب فيها تمثال الإله المصنوع من الغرانيت الأسود، وكان الإنسان
التقيُّ يبتعد عن الشمس ليَصِلَ إلى رَمْزِ الشمس هذا، وهو في ذلك كالمتفنِّن الذي يَتَمَثَّل
صُوَرَ الحياة الناطقة أو الصاخبة ليحوِّلها إلى أثرٍ فنيٍّ بين صمتِ مُحْتَرَفِه.
وإن تَصَعُّدَ
٢٥ الظلام من الخارج إلى الداخل بفَتَحَاتٍ وكُوَّاتٍ تَصغُر فيَقِلُّ معها النور
مقدارًا فمقدارًا، وإن تدانيَ الأعمدة في قاعات ذاتِ فضاءٍ مؤثِّرٍ مُعَدٍّ لإزعاج من
تَعَوَّدَ
نورًا ساطعًا ولفَرْضِ الطاعة عليه في الطَّرَاء والطَّرْفَسَة،
٢٦ مما لا تراه في مكانٍ كما تراه في أدفو حيث تُبْصِر كلَّ شيءٍ من الجُدُر الخارجية
للقاعة، حتى حجرَ القربان العظيم، كما كان عليه في الماضي، وحيث تُبْصِر مقاومته العنصرَ
الذي
يكتنفه؛ أي الشمسَ لبضعة آلاف من السنين.
وفرعونُ الأخير وحدَه هو المعذَّب، فقد أراد أن يقلِّد أسلافَه في خُنْزُوَانِيَّتِهم،
وقد
أراد أن يجاوز بقرَ الماء صورةً، غير أن العرب — والنصارى على ما يحتمل — وَجَدُوا ملجأً
بين
هؤلاء الوثنيِّين فنَقَروا خُرُوقًا عظيمةً في جسمه ليُقِيموا بدهاليز الإلهِ هُورُوسَ
ذاتِ
الطَّرَاء لِمَا كان من جهلهم أمرَه، والسقفُ أسودُ؛ وسببُ ذلك أن العِلم والرواية طَرَدَا
حَفَدَةَ البُنَاةِ من المعبد فتركوا فيه أثرَ ميزانهم، وما في الجُدُر من تجاويفَ صغيرةٍ
يجادل
علماءُ الآثار في أمرها فحديثةٌ أيضًا، وهي صادرةٌ عن عَين المصدر الذي هو علةُ الخروق
المنحوتة
في حجارة الجُسُور الجديدة؛ وذلك أن الأولاد يَسُنُّون عليها الدَّوْم لتُصنَع منه يَرَامِع.
٢٧
وإذا بُلِغَ سَقْف المعبد العظيم الذي يَغمُرُه النورُ الباهر المهتزُّ لاحت الآلهة
والأفاعي والفراعنةُ في الأسفل من الهُزال كاللهيب المُرْتَجِّ الذي يُرْشِد الزائر فيؤدي
إلى
تَعَثُّره في الدَّرَج، وتَتَجَلَّى أهميةُ هذا المعبد الرمزيةُ بأكثرَ مما تقدَّم إذا
ما
رُئِيَ في الحدِّ بين وادي النيل والصحراء.
وينتصب الصقرُ هُورُوسُ المصنوعُ من الغرانيت الأزرق في مدخل الباحة عظيمًا مُتَجبرًا
شبيهًا بالبشر أكثرَ مما بالطير جامعًا بين الوَقار وحَذَرِ الكَوَاسِر التي لها ما لأبناء
الآلهة من سلطان، ويَظْهَر أنه يستريح أمام معبده واضعًا تاجَيْن على رأسه، وهل يَسْمَع
صَرْصَرَةَ
٢٨ الصقر الحيِّ؟ وهل يَرَى امتداد ظلِّه وهو يطير على طول جُدُرِ القاعة ناشرًا
جناحيه الأسودين اللامعين على حين يَبْدُو بَدَنُه أزرقَ نَيِّرًا كصورته الإلهية؟ والصقر
يَزْعَق ويَعُود إلى النيل حيث يبحث عن شيءٍ كما يَلُوح.