الفصل الحادي عشر
في صمت ساعات الصباح بالأقصر يُسْمَع — مع فواصل قصيرةٍ — صَدًى لصليلٍ ذي إصرارٍ
وجَرِيض.
١ وعلى تلك الضِّفَّة البالغة الغِنى، حيث كلُّ شيءٍ رطيبٌ مُدْهَامٌّ، وحيث تَصِل
رائحة الغريَن إليكم على الطريق المعبَّدَة، وفي ذلك الجوِّ الفضي المهتزِّ، وبذلك النبات
الزاخر، تَجِدُ جنَّةَ عَدْن، وعلى شواطئ النيل يُتَمَتَّع بحلاوةِ الحياة أكثرَ مما
في أيِّ
مكان آخر، وتُلقِي تقاليدُ طيبة أشعتَها على العالَم وتوزِّع هِبَاتِ الحياةِ في قصورها
وحدائقها الوارفة بسَخَاءٍ فرعونيٍّ، ويَضَعُ الأجنبيُّ هنالك أسطعَ دَوْرٍ أبصره النيل
ولو لم
تقمْ هنالك أضخمُ التماثيل وأعلى الرتاج، ولو لم تَتَتَابع هنالك تماثيلُ أبي الهول على
صَفٍّ
متصل.
وللمرة الثانية يُرَى النهر أنه لا يَصلُح — فقط — لإنتاج القمح والخُضَر والسكَّر
والقطن،
ويَتَحَوَّل ماؤُه وغِرْيَنُه إلى حدائقِ نخيلٍ كما في الخرطوم البعيدة، ولا يعود النهر
لوقت
قصير عاملَ حياةٍ لدى ملايين الآدميين، بل عنصرُ رَفاهٍ، وهو في ذلك كالأستاذ الكبير
الذي
يَسِيرُ ذات حينٍ مع رُؤًى شعريةٍ.
ومصدرُ الصليل الضئيل هو جَزَّازةُ العشب التي يديرُها الفلاح اللابسُ جلبابًا أبيضَ
بيديه
السمراوين. ومن شأن الغِرْيَن القابل النفوذ والذي يُفْرَش حول الفنادق، ومن شأن المِضَخَّات
واللوالب الدائمة العمل وجودُ ذلك النبات الزاخر وديمومتُه وإحداثُ غابةٍ خضراءَ على
مقياس
صغير. والنيلُ وحدَه هو المُوجِد من إلهيْ مصر. والشمسُ مُبِيرةٌ
٢ مِسْعار،
٣ والأزهارُ الباهرة الكثيرة الألوان لا تعيش إلا تحت ظِلِّ النخل، والحدائقُ تُحَاط
بالأسوار كما تُحَاط التصاوير الفارسية الطريفة بالأُطُر الثمينة. وتلك الأسوارُ هي سِيَاجَاتٌ
غليظة من الطين يدافَعُ عنها بالزجاج المكسور وبالصُّبَّار.
ويَشرِي الأجانبُ تمتُّعَهم بهذه النفائس فيجتنبون بها أُوَارَ
٤ الشمس، وذلك كما يُفْزَع إلى الكنيسة اتِّقاءً لنور الرُّوَاق الذي يُعمِي الأبصار؛
وذلك لأن الغار الورديَّ والجهنميَّ الأرجواني والياسمينَ والدِّفْلَى
٥ نباتاتٌ تردُّ النورَ إلى الجُزُر الصغيرة الظليلة تحت النخيل، وهنالك يَضرِب كلُّ
لونٍ إلى ادْهِيمَام مع الْتِماع.
والأخضرُ هو شِعار النبيِّ، والأخضرُ هو غايةُ كلِّ مَنْ يَجُوب البادية، والأخضرُ
هو
مُحْتَلَمُ البدويِّ الذي يطلب الطَّرَاء وبُغْيَةُ الحاجِّ الذي يَتَمثل بها هدوءَ داره
ومسرةَ
سريره، وتَهدِل اليمامةُ التي تَغَنَّى بها شعراءُ العرب على غُصْنِ المَنْجَة، ويَقفِز
الهُدهُد بين حَفِيف سُعُوف النخل، وتَتَفَلَّى ذُعَرَتان مع اهتزازٍ على الحصباء.
ويُخرِج هُورُوسُ
٦ أصواتَ الفَرَح لما تَبدو الأرضُ تحته بستانًا صغيرًا والسماء حلمًا، ويغني فلاحٌ
وهو يدير سير المنزفة في الخارج وبالقرب من الجدار الطيني، ويحرك المضخة ثلاثة فلاحين
أخر
ويغيرون مواضع اللوالب، ويسقي فلاحٌ خامسٌ أحواض الزهر، ويتصل جميع هؤلاء في النهار كله
بأغنياء
هذا العالم ويبصرونهم ويسمعونهم ويشعرون بهم، وهم يرون حسانًا من السادة والسيدات، وخدمًا
سودًا
وراءهم، ينزلون من قطارٍ أبيض ذي خوادع
٧ غيرِ شفافةٍ وذي مصراعين مضاعفيْن وذي أثاثٍ زُبْدِيِّ اللون، وهم يَرَوْنَهُم
يركبون الحميرَ ضاحكين ليَزوروا المعابد.
وهم يَرَوْن السيداتِ منهم سافراتٍ لابساتٍ سراويلَ، وهم يمسكون الجسرَ الخشبيَّ الضيقَ
بأيديهم السُّمْر حين مرورهنَّ عليه من أدنى درجة إلى ناحية المركب، ثم يشاهدونهنَّ يتناولنَ
القهوةَ على الشاطئ وهنَّ يَقْرُصْنَ غلامًا بلديًّا جميلًا أو يمسسنَه بأذرعهن العاريةِ
شعورًا
بحرارته البدنية، وهم يشاهدونهن مساءً على كَرَاسٍ مركبيةٍ بجانب سيدٍ فاتِرِ المزاج
ظاهرًا
متأملٍ في سماءٍ يَجْهَلُها أهلُ الشمال، ولكن مع وَقْف بروج السماء لأنظارهنَّ؛ وذلك
لأن مصرَ
عندهن ليست غيرَ مرحلةِ تناسخٍ تَأمُل كلُّ واحدةٍ منهن فيها أن تكون كليوباترة وأن تَجِدَّ
في
طلب قيصرَ الإنكليزيِّ.
وأما الفلاحُ الخامس الذي يَسقِي أحواضَ الأزهار فمن المحتمل أن يكون أخًا لذلك الذي
زار
الضريحَ المَلَكِيَّ في هذا النهار. ومن المحتمل أن تكون نظرةُ امرأةٍ بيضاءَ — مَرَّت
راكبةً
فيما مضى — قد أسفرت عن عَيشِه في هذه الحديقة الناضرة. ومن المحتمل أنه من حَفَدَة ذلك
الذي
كان يَسقِي منذ خمسةٍ وثلاثين قرنًا في المكان نفسه حديقةَ وزيرٍ نال السلطانَ والثراءَ
بفضل
امرأةٍ أو عن حَظٍّ سعيد. وماذا رأى؟ وكيف بَدَت الدولةُ الطِّيبِيَّة لهذا الفلاح الذي
خَدَمَها في زهرها؟
وكان فلاح الفراعنة يعيش في المحلِّ عينه وتحت ظِلِّ أجداد هذه النخلة فيَسمَع ضجيجَ
المدينة الكبرى الذي يَصِل إلى سُورِ حديقته؛ وذلك لأن طيبةَ بَدَت لأُومِيرُسَ — أيضًا
—
أسطورةً مجيدةً، «فقصورُها مملوءةٌ بضروب الغِنَى، وأبوابها المائة تُفتَح ليَخرُج من
كلِّ
واحدٍ منها مائتا مقاتل مع حُصُنِهم وعُدَدِهم.»
والحقُّ أن أُومِيرُس كان يعيش بعدَ دَوْرِ عظمةِ طيبةَ بمئات السنين، فلما مضت أربعةُ
قرون
لم يَجِدْ هيرودوتس في مكان طيبة غيرَ «طيفٍ ضخم».
وكان الصَّخَب كبيرًا على ضِفَّة النيل تلك حين إسقاء فلاح الفراعنة للأحواض تلك،
وكانت
أعظمُ مدن القرون القديمة قائمةً هنالك، وكان الفلاح يَمِيزُ نشيدين من خِلال الضوضاء،
وهنالك —
حيث كان بضعُ مئاتٍ من إخوانه يُحَمِّلون سفنَ الفراعنةِ الشراعيةَ أكياسَ القمح — كانوا
يُنشِدون قائلين:
نجرُّ حتى الليل سنابلَ البُرِّ وأكياسَ الحَبِّ، وتَطفَح الأهرَاء حتى الدَّرَج،
وتُكَثَّر الكَدَرُ
٨ ألفَ مرة، وتَغطِس السُّفُن الواسعة ويَمْلأ القمحُ الضِّفَافَ، ولْنَحْمِل بلا
راحة، أفتريدون شُرْبَ دمائنا؟
وعندما تَقِفُ ضجَّةُ تلك الجَوْقَةِ يَسْمَع الفلاح عن كَثَبٍ، وتحت الجُمَّيْز،
حيث
تستريح سيدتُه على بُسُطٍ، غِنَاءَ هذه السيدة وعبدِها:
اشرب حتى الثَّمَلِ، وتمتَّعْ بهذا اليوم الجميل، تُثَرْثِرُ الجارة في الغَيْضَة،
فاستفد من زمنك. أجل، حتى الدَّجَر
٩ صُبَّ ثمانيَ عشرةَ مرةً في كُوبِي الذهبيِّ، ثَرِّ
١٠ هذا الجَفَافَ الذي لا يُسَمِّيه لسانٌ فأضناني.
يَسْمَع الفلاحُ ويَصمُت، وهو يفكِّر أكثرَ مما يَظُنُّ سادتُه، ونَعلَم هذا من البرديِّ
الخفيِّ، وفيما هو يَهُمُّ بإطعام الطيور المائية في البِرْكة؛ إذ يأتي خَدَمٌ آخرون
بموائدَ
صغيرةٍ فيقومون بخِدمة سادتهم وضيوفِ سادتهم، ويقفز الأولاد في داخل المنزل حول والديْهم
مع
أقزامٍ ومجانين، ويُعِدُّ العبيدُ الكلابَ والقِرَدَةَ لتَكمُل الوليمة، ويَجِد أولئك
كلَّ شيءٍ
في السُّرَادِق وقتَ المساء، ويتناوبون بين البيت والحديقة القَصْف والضَّحِك والخمر
والجِعَة
والحُبَّ.
وخمرُ الدلتا نادرة، غير أن الجِعَة هي مُسْكِر المصريين اليومي، وكانت الجِعَة تُصنَع
من
القمح المطحون بمَدَاقَّ حجريةٍ على أن يُبَلَّل بعدئذٍ ويُسْحَق في دَنٍّ ويُعْجَن في
مُنْخُل
ثم يُمْصَل،
١١ وكانت هذه الجِعَة تُحْفَظ في قُلَل
١٢ وتُصَمُّ
١٣ بالغِرْيَن. وكانت تُوضَع بطاقاتٌ على جِرَارِ الخمر للدلالة على قِدَمِها، فيُكتَب
على تلك البطاقات: «جيدة، جيدة مرتين، جيدة ثمانيَ مرات»، وكانت جميعُ الجِرَار تُزَخْرَف
بالسِّدْر كما تزيَّن به المائدة وشعورُ النساء. وكان النساء يأذنَّ للرجال في شمِّ شَذَاه
عليهنَّ، وكان النساء يَقِئْنَ الخمرَ في بعض الأحيان، ومن المحتمل أن كان أرسطو يفكِّر
في
أقاصيصِ مصرَ عندما قال: إن سُكَارَى الخمر كانوا يَرتمون إلى الأمام، وسكارى الجِعَة
كانوا
يَرْتَمُون إلى الوراء.
وهكذا كانوا يجلِسون في ناحيةٍ من الحديقة على حُصْرٍ ملوَّنةٍ مصنوعةٍ من البرديِّ
غيرَ
بعيدين من كَوَانِين الفحم التي كان الطُّهَاة يَشوُون عليها السَّمَكَ المسفَّدَ
١٤ والإوزَّ؛ أي أطعمةَ المصريين المفضَّلَة، كما كانوا يَشْوُونَ عليها لحمَ البقر.
وكان الغِلْمَان العُرَاة والراقصات غيرُ المستوراتِ تقريبًا يأخذون من الأوضاع ما هو
تصويريٌّ
في ليل ذلك العَرْض الذي يُرْسِل سُدُولَه فَجْأَةً، أو كانوا يَرقُصُون على نور مصابيح
زيتٍ
صغيرةٍ فيُوَزِّعون عِطْرًا سِدْريًّا على أولئك السادة والسيدات بين ما لا حَدَّ له
من ألحان
العُود والقِيثَار ذي الأوتار السبعة والمِزْمار المزدوج.
وكان النساء يَضْطَجِعْنَ هنالك لابساتٍ ثيابًا خفيفةً لا تُمْسِكُها شُرُطُ الكَتِفِ
إلا
للحين الذي يُرِدْنَهُ، وقد كُنَّ يبذُلنَ من العناية بشعورهن ما يَقضِين معه ساعاتٍ
في تمشيطها
وتمويجها ومنعِ بياضها بدِهانٍ غريب مصنوع من دُهْنِ بَقَر الماء وتعهُّدِها بمَرْهَمٍ
من أسنان
الأتان مسحوقٍ مع العسل. وقد كُنَّ يَعْرِفن — أو يخيَّل إليهنَّ — أن الشعرَ مَقَرُّ
إِيرُوسَ
١٥ كما كُنَّ لهذا السبب يَدْهنَّ أجفانهن باللون الأخضر وحواجبَهن باللون الأسود مع
الإطالة زيادةً في الْتِمَاع لِحَاظِهِنَّ وجمالِ عيونهن.
وكان ذلك يَقَعُ بين سنة ٢٠٠٠ وسنة ١٠٠٠ قبل الميلاد؛ أي بين إبراهيمَ وأُومِيرس،
وذلك حين
كان العالَم بأسره مأهولًا بالبرابرة فيما عدا السهل الواقع بين النهريْن: الفرات
ودِجلة.