الفصل الثاني عشر
بلغ قدماء المصريين الغايةَ بفضل تذوُّقهم الحياةَ ونشاطِهم الذي يَزِيد بتمثُّلهم المتصل المتجدِّدِ للموت، وبفضل صحَّتهم وسَنَاء شمسهم وما يُسفِر عنه فيضان النيل من رَخَاءٍ، غير أن هذه الأحوال خطَّت حدود إحساسهم ومعرفتهم. ويضاف هذا الإحساس إلى أشد مرح في الحياة، ولا يكون هذا الإحساس حيث تؤدِّي ظِلَال الشَّفَق إلى حكمةٍ أعمقَ من تلك، وتمتدُّ الصحراء بجانب الخُضْرَة، بجانب قُدرَة عِلمهم على الإبداع، والعدمُ يبدأ عندهم حيث يبدأ عالَم ما بعد الطبيعة لدى الشعوب الأكثرِ حِرْمانًا من الشمس، ونشأ عن حرارة عبادتهم للحياة ما في عبادتهم للموت من مخالفةٍ للصواب، ولا فلسفةَ لشعب لا ظِلَّ عنده.
وذلك يُوضِح لنا إبداعَ الشعبِ البالغَ من الأساس، وكونَه اخترعَ الكتابةَ التي توجب دوامَ الدولة بالعِلم — لا بالحرب — وعدمَ تحليقه في سماءِ ما بعد الطبيعة فلم يَترُك أنشودةً مؤثرة ولا قصيدةً حماسية ولا دِيانةً حقيقية، وإننا بعد تخطيط هذه الحدود ومعرفةِ سُنَن الطبيعة التي فرضتها لم نَرَ غير الإعجاب بمصرَ في فجر الحضارة.
وأخذت حَيَوية ذلك الشعب تَبْهَرُنا بعد حَلِّ الوثائق، وإذا كانت أقليةٌ من الأغنياء وحدَها هي التي تمتَّعَت بتلك الحياة فإنه لا ينبغي لنا أن نَنْسَى أن مبدأ المساواة لم يَكُنْ موجودًا منذ خمسة آلاف سنة أو ستة آلاف سنة، وأن الرِّقَّ كان أمرًا طبيعيًّا في مصرَ أكثرَ مما لدى الأغارقة، ولدى النصارى الذين انتهكوا أدبَه، بعد ذلك بزمن طويل.
ويا لَتَحَدِّي أولئك القوم للموت! فلما بَلَغَ رمسيس الثاني من العمر ثمانين سنة احتفل برجوعه إلى الشباب في عيدِ سِت، وقد داوم على القيام بمثل ذلك الاحتفال حتى السنة التسعين من عمره، وكانت كلُّ مِسلَّةٍ تُنصَب تذكارًا لذلك الاحتفال تشتمل على إنباء الآلهة بذلك الرجوع إلى الشباب، وكانت تُزَخْرَف بمزيجٍ من الذهب والفِضة فتنعكس عليه أشعةُ الشمس وتُمْلَأ مصرُ بذلك نورًا. ومما حَدَثَ أن هاتف الغيب أنبأ بأنَّ أحد قدماء الفراعنة مِيسِيرِينُوس لا يعيش أكثرَ من ستِّ سنين فقَضَى هذا العاهل ألفي اليوم اللذيْن بقيا له في الفُجُور وكذَّب الآلهةَ بأن عاش ستَّ سنواتٍ أُخَرَ على هذا الطِّراز.
ودَرَسَ أطباء المصريين منذ أقدم الأزمان جسمَ الإنسان الذي يَجِبُ أن يَبْقَى بأيِّ ثمنٍ كان، ووَضَع هؤلاء الأطباء أُسُسَ علم التشريح وعلم الأمراض، فكان عند المصريين متخصصون في حال كلِّ عضوٍ أصليٍّ، ومن المحتمل أن شيئًا في مصر لم يؤثِّر في هيرودوتس تأثيرًا عميقًا أكثرَ من مشاهدته فيها رجالًا لا يَعْلُوهم غيرُ الليبيين صحةً، ويعدِّد هيرودوتس المتخصصين والمُسْهِلات وكلَّ مرضٍ ينشأ عن التغذية، ويَعزُو هيرودوتس هذه الصحةَ العامة إلى تساوي الإقليم فيصرُخ قائلًا: «يَمُوج البلد بالأطباء!»
وإذا ما فاخر بيبيس ورَمسِيس ببلوغ أحدهما الخامسةَ والتسعين وببلوغ الآخرِ المائةَ من العمر، وإذا ما زَعَم أحد الفراعنة أنه جلس على العرش خمسًا وتسعين سنة؛ أي أطولَ عهدٍ ذُكِر في تاريخ العالم، لم تكن هذه الأرقامُ قريبةً من الصدق فقط كالأرقام التي جاءت في التوراة ما دامت تَنِمُّ على فراعنةٍ حافظوا على قوَّتهم حتى النهاية. وكان لرمسيسَ الأكبرِ من الذكور ١١١ ولدًا ومن الإناث ٥٩ ولدًا؛ أي من الأبناء ما يُعَدُّ دون الحقيقة عندما يُنْعَم النظر في أهمية دائرة حريمه. وكان الفراعنة يُحْبِطون حتى محاولاتِ القتل بين المكايد التي لا حَصْرَ لها وبين البنين والحَفَدَة وبين ذواتِ الحقد من النساء والبنات اللاتي ينتظرنَ موتَهم، فإذا عَدَوْتَ الثوريَّ الكبير لم تَجِدْ من قَتَلَته حاشيته إلا نادرًا.
وكانوا من المقاديم الذين لا يَرْهَبُون الرَّدَى، فكانوا يشتركون شخصيًّا في الحروب التي يُوقدون نارَها. وقد ثَبَتَ عندنا ذلك بما نَعْرِفه من الكتابات والتصاوير الجدارية وحدهما، وبما كان من استمرار الملوك مدةَ ألفِ سنةٍ بعد آخرِ الفراعنة على دعوة أعدائهم إلى المبارزة وَفْقَ العادة.
اليوم تموت الأبدان كما في الماضي، وبعضها يحيا وبعضها يصبح غابرًا، وهي ترقُد محوَّلةً في الأهرام، فأين مَنْ تبكيهم الآن؟ لم يَعُدْ من الغرب واحدٌ منهم قطُّ ليُلْقِيَ السكينة في نفوسنا عما وراء ذلك. كُنْ شُجاعًا، فلا نَقْصَ في منزلك، واحتفلْ بهذا اليوم كأنه خير الأيام، وصُبَّ المُرَّ الصافي على شَعْرِكَ واستُر جِسْمَك بكتَّانٍ خفيف، والظلامُ آتٍ لا ريب فيه، ولا أحدَ يَرجِع إلى نهارٍ غادَرَه.
ولم تَكُ روحيةً قطُّ بَهجَةُ الحياة التي تَتَجَلَّى على ذلك الوجه في جميع تلك الصُّوَر الجدارية، وفي جميع الأقاصيص المكتوبة. ولعبة النَّرْد هي أكملُ مظاهرهم الروحية، وما أتمَّه كُهانُهم العلماءُ من أمور كبيرة فقد أتوه في سبيل غايةٍ، في سبيل الدولة، فكان محلَّ إعجابٍ لهذا السبب، والبنَّاء والمهندس — لا المفكر والشاعر — هما اللذان ينالان الثراءَ والصِّيتَ، وكان هدفُ الحياة لدى المصريِّ أن يَغْدُوَ كثيرَ النساء والولد، فأحد الفراعنة يَتَقَبَّل ٣١٧ امرأةً غريبةً هديةً في دائرة حريمه، وفرعونٌ آخر يأذن لابنة حاجبه أن تَحمِل الثعبان المقدس؛ أي التاجَ، ما دامت تشاطره فراشَه، وقد نَقَشَ رمسيسُ الثالث على ضريحه نفسَه مع أفراد دائرة حريمه فبدا عاريًا وبَدَتْ نساؤه لابساتٍ قلائدَ ونِعالًا فقط، وهؤلاء النسوةُ العاريات هن اللائي ائْتَمَرْنَ بحياته بعد حين.
تعالَ معي إلى الحمَّام، فيلائم قميصي الكتَّانِيُّ الملكيُّ رغائبَك وأحاسيسَك، أَدْعُوك إلى طَرَف البِرْكَة، فَجِئْ لِتَرَى إحاطة الأزهار بدِثاري، وهنالك أصطادُ السمكَ حين أسبَح، فتبلغ أنت يدي بغتةً. كن رفيقي في الماء، غادِرِ الأرض!
ولِمَ تَسْكُنُ أختي بعيدةً في الناحية الأخرى من النيل؟ تَجِدُ بين ضِفَّتِي وضِفَّتِها تمساحًا كبيرًا لا يُرَاعِي أحدًا، وأُلْقِي نفسي في الماء مع ذلك بادئًا برأسي، ويكافح جسمي المَوجَ حتى تصير الأرضُ تحت رجلي، حتى يَتَّصِلَ بدني ببدنها العَذْب، فإذا ما أدنَيْتِ شَفَتَيْكِ مني سَكِرْتُ بلا جِعَةٍ!