الفصل الثالث عشر
كان السلطانُ أعظمَ باعثٍ لبهجة الحياة عندهم، وكان كلُّ واحدٍ منهم في هَرَم الدولة — الذي يرتفع من أصغر جابٍ إلى فرعونَ المُؤَلَّه — يطمَح ببصره إلى أرقى مكانٍ ممكن وإلى نَيْلِ السعادة بالثَّرَاء ووَلَاء الجمهور؛ أي بعنصري الجاه.
وكان يصل بطريق النيل كل ما تعيش به أُولَى العواصم الكبرى تلك، فكانت المراكب الشراعيةُ الكبرى تأتيها من الجنوب بالأعمدة والمِسَلَّات وبما هو ضروريٌّ لإنشاء الجُسُور والمعابد وتيجان الأعمدة من الغرانيت والحجر الكلسيِّ، وكانت المراكب الخفيفة تأتيها بالبرديِّ والطيور والسمك والخُضَر، وكانت تَصِل إليها من الشمال — أي من الدلتا ومنفيس — أساطيل حقيقيةٌ مشحونة بالبُرِّ، وكانت هذه الحركة التجارية تدوم العام كله، كانت تدوم من يوليو إلى يوليو، لِمَا لا يكاد يَنْبُت حول طيبة ما يَكفِي لتموين قرية واحدة.
ومما كان يحدث أحيانًا أن تَمُرَّ السلع النادرة من الدلتا آتيةً من جُزُر البحر المتوسط ومن سواحل البلدان المعادية أو الصديقة، ومن قبرسَ وإقريطش وبابل وسورية وبلادِ العرب، وكانت تلك السِّلَع مؤلَّفةً من الحرير والمعادن والفواكه والخمر على حين يَرِدُ من الجنوب خشبُ النوبةِ والحجارةُ الثمينة واللازوردُ واليَصْبُ والعبيد والذهب. وما كان الذهب — الذي هو مصدر كلِّ سلطان — يجيء من إثيوبية وحدَها، بل كان يجيء من الدلتا وسيناء وسوريةَ وتِبرِيز.
وكانت ألوف العُرَاة من الآدميين بتلك الصِّفة تعاني في ألفِ سنةٍ تفريغَ جميع ما يَجلِبه النهر، وكان السَّيَلان والفَيَضَان في مجرى النهر الفوقانيِّ يَحمِلان السفن التي لا يُزعِجها سوى الأمواج وكُثْبان الرمل، وكانت الثيران والبُعْران والعُبْدان تجتذبها في مجرى النهر التحتانيِّ فيكون للملك بذلك ما يَقضِي به جميعَ أوطاره.
ولا تَقُلْ رغائبَه الشخصيةَ وحدَها، فهو لكي يدافع عن حياته ويحافظ على سلطانه كان لزامًا عليه أن يُطعِم جميع من هم تحت إمرته من الفلاحين الذين يحتملون كلَّ شيء ومن ألوف أُسارَى الحرب الذين هم من المَدْيَنِيِّين والكنعانيين والليبيين والنوبيين ومن إليهم من العبيد الغُرَباء الذين يتعذَّر النفوذ في نفوسهم، ثم من جَحْفل الكَتَبة والحاسبين والموظفين والمديرين والشُّرَطِيين الحارسين للملك مع استنزاف خزائنه، ومما لا يُحصِيه عَدٌّ من قِطَاع المواشي التي تساوي الملايين، ومن ألوف الثِّيران الموقوفة على الإله، ومن ثَمَّ على فرعون.
وذلك لأن فرعونَ نفسه كان إلهًا، وهذا ينطوي على سرِّ فراعنة مصرَ، ولم يظهر على ضِفَاف الفرَات مَلِكٌ في ذلك الحين كان من الجُرأة ما يَجهَر معه بأنه إلهٌ كفرعونَ على ضِفاف النيل، وينقضي دَوْر القبائل المتساوية حقوقًا، ويلوح أن حكومةً من الأعيان اختارت أقدرَ رجالها أو أوسعهم حيلةً رئيسًا لها، ويُشِيد هذا الرئيسُ لنفسه معبدًا ويُعلِن الكُهَّان — عن خوفٍ أو عن طمع — أنه الكاهن الأعظم، ويُلغَى مَنصِبُ الوسيط المُنصف بين الرَّبِّ والشعب، ويُفْرَض لمعرفة مشيئة الآلهة أن يخاطَب — فيما بعد — ذلك الذي يَقبِض على زمام السلطة في البلد والذي ينتحل — بحكم الطبيعة — قدرةً خارقة للعادة، والذي يصرِّح بأنه وارثٌ لأُوزِيرس وابنٌ له، ويَقَع هذا منذ عهد الدولة القديمة؛ أي قبل إقامة منفيس. وينادي الملك الأول الذي وَحَّد شمالَ مصر وجنوبَها — مينا — بنفسه وارثًا لأوزيرس وملِكًا للأرض الخصيبة، وكان هذا قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة.
وكان باني الهَرَم الأعظم خوفو قد حَمَل لقب ابن أُوزيرِس، «ابن رع»، موحِّدًا السماء والأرض بذلك، وإذ إن فرعونَ ابنٌ لله وكاهنٌ وحاكمٌ وقائدُ جيوشٍ وساحر فإن له كلَّ شيء، فإن له الينابيعَ والنبات والحيوان والإنسان، وعادت الأرض في هذا البلد، حيث كان الحكم لأشجع الناس وحيث كان هذا الشخص يُقَدِّم حسابًا عن نفقاته لأمثاله في كلِّ عامٍ مرتين، مُلْكَ إلهٍ لا رقيبَ عليه، ولهذا الإله أن يُقَرِّر كلَّ نظام للمجتمع حتى في مملكة الأموات، وقد أُبِيح كل شيءٍ لابن أوزيرس، وقد صار كلُّ شيء ممكنًا لابن أوزيرس، أفلم يَقرَأ في سايِس على قاعدةِ أمه إيزِيس: «إنني كل شيء كان ويكون وسيكون، وما استطاع إنسانٌ أن يَرفَع النِّقَابَ الذي يسترني»؟ ويعني هذا عند فرعونَ «أن كلَّ شيء يَرُوقني عادلٌ وأن كلَّ شيء يكدِّرني جائرٌ.»
وكان القوم يسجدون أمامه كما يَسجُدُون أمامَ صنم، وكان من الحُظْوَة أن تُقَبَّل رِجْلُه بدلًا من تقبيل الأرض التي أمامه، ولم يكن ليُنْطَقَ باسمه في البَلَاط. وكان يقال: الطاعةُ في القصر، الإله، أُمِرَ به، فيكف يحافِظ وارثٌ أو حديثُ نعمةٍ على توازنه تِجاه هذا؟ وإذا سأل مستشارو فرعونَ رأيَه حول بئرٍ تُحْفَرُ في حَدِّ الصحراء أخذ الوزيرُ يقول: «أنت شبيهٌ برَع في كلِّ شيء، وكلُّ شيء يَوَدُّ فؤادُك كائنٌ، وإذا رَغِبْتَ في شيءٍ ليلًا حُقِّقَ فَجْرًا، وإذا قلتَ للماء: اعْلُ الجبلَ هاج البحرُ المحيط وماج.»
وكان فرعون — الذي لا يستطيع النومَ مع هذا الخطاب — يأخذ من أُمَرَاء حلفاءَ بآسية مثلَ الكتاب الآتي: «أرسل إليَّ ذهبًا، فقد كان أبوك يُرْسِل إليَّ ذهبًا.» وعَجِبَ حَمُوه الأمير البعيد ببابلَ من عدم أخذه ذهبًا فقال: «تَستَقبل رُسُلِي بناتي المتزوجات ملوكًا فيقدِّمنَ إليَّ ذهبًا معهم.» واسمع جوابَ تُوتْمُوزيس عن ذلك: «أجل، إن جِوَارَك من الملوك أقوياءُ جدًّا، ولكن ماذا تَملِك ابنتُك التي هي بجانبي؟ فلو حَدَثَ أن أرسلتَها إليَّ مع شيءٍ قليل منك لأرسلتُ الآن هديةً ثمينةً إليك؛ وذلك لأنك تزوِّج بناتِك لتنال فوائدَ من وراء ذلك.»
وكان لحكومتهم الإلهية نظامٌ عجيب، ولكن مع عدم صلةٍ بعالَم الآلهة الحقيقيِّ، فكان هذا النظام يَنْمُو ويَزُول كالغابة البِكْر، وكان ما يدور حَوْلَ الآلهة التي كان فرعونُ ابنًا لها من عقائدَ وأساطيرَ وأسماءٍ وخصائصَ يَتَغيَّر في غضون القرون، ويتبدَّل بحسب الأماكن في الوقت نفسه، ويُعَدُّ أمون رَع الإلهَ الأعلى على العموم.
وتَضَع امرأةٌ أحدَ الفراعنة قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، ولكن بفضل «الرُّوح القُدُس».
ولم يَصلُح هذا الأصل المزعوم أنه إلهيٌّ لغير تلقين الجماعات، ولم يظلَّ ضربًا من الطُّقُوس فقط، وكان الرجال الذين ما انفكُّوا يؤلِّفون أُسَرًا مالكةً جديدة، ويَبدُون رؤساءَ للجيش أو الأقاليم، يعتقدون صحةَ ما لم يكن لدى آبائهم الساذَجين الماكرين سوى وسيلةٍ للسيطرة، وكانت تُعْوِزهم روحُ النقد والنكتة والحكمة، وكانوا يعتقدون أنهم من الآلهة حقًّا، وبلغت الآلهةُ والأجدادُ والآباءُ من النزول عن المرتبة ما عادت معه لا تكون سوى خيالٍ للفراعنة، ولم يُعَتِّم الكُهَّان أن وَضَعوا جميعَ ما تقدم في صِيَغٍ دينية.
ويظهر أن أَمِنُوفِيسَ الثالثَ كان أولَ من أنشأَ معابدَ لنفسه فيُعْبَد فيها مثالُه في أثناء حياته، وكان أَمُونُ يَشكُرُ هنالك «لابنه ومثاله الحيِّ» ويَهتِف هنالك قائلًا: «أتَيْتُ بالمعجزات من أجلِ جلالتك، وأُوَلِّي وجهي شَطْرَ الجَنوب حتى يَخْضَعَ أكابر بلاد النوبة لك.»
وظلَّت عبادة النفس قائمةَ على مَرِّ القرون مجردةً من أيِّ تبجيل للآباء، حتى إن من الفراعنة الأتقياء — كرمسيس الثاني — من طَمَسَ في المعابد اسمَ أجداده الحقيقيين حتى يَستَبْدِلَ اسمَه بها، وبلَغت تماثيل الآلهة المنحوتةُ من مشابهة الفراعنة ما كان يُقَال معه إن أمونَ شبيهٌ بفرعونَ الحاليِّ، بدلًا من أن يقال إن فرعونَ الحاليَّ شبيهٌ بأَمُون.